{الحاج متولي} يرحل بعد صراع مع المرض

الوسط الفني في مصر يواصل نزيفه ويودع نور الشريف.. بطل «سواق الأتوبيس» و«زمن حاتم زهران» و«العار»

حبيبي دائما ({الشرق الأوسط})
حبيبي دائما ({الشرق الأوسط})
TT

{الحاج متولي} يرحل بعد صراع مع المرض

حبيبي دائما ({الشرق الأوسط})
حبيبي دائما ({الشرق الأوسط})

بروح الحارة الشعبية التي ولد بها وأطل منها على الفن والحياة، وبمحبة طفل ظل مشغوفا بالمعرفة والتأمل في ما وراء الأشياء، والحلم بغد أجمل للوطن والإنسان.. طوى الفنان القدير نور الشريف أمس دفتر رحلته السينمائية الخصبة، ورحل عن عالمنا عن عمر يناهز 69 عاما، وبعد صراع مع المرض، تاركا لنا صفحات مضيئة ومشعة، لتتذكره الأجيال بكل الحب والتقدير.
وبرحيله تواصل الحياة الفنية في مصر نزيفها، حيث غيب الموت في هذا العام كوكبة من فرسانها وروادها الأوائل، من بينهم الفنانون: فاتن حمامة، مريم فخر الدين، محمد وفيق، وعمر الشريف، والمخرج رأفت الميهي.
ولد محمد جابر محمد عبد الله (نور الشريف) في 27 أبريل (نيسان) عام 1946، في حي السيدة زينب، أحد أشهر أحياء القاهرة الشعبية، وترعرع في كنف أسرة تنتمي للطبقة العاملة، وتشربت أنفاسه رائحة الحارة، وعرق ناسها وبساطتهم، وحبهم للخير والحياة، لكن عينيه كانتا مشدودتين دائما إلى فضاء الفن، موقنا بأن في داخله شيئا مغايرا يخصه، وأنه ينبغي أن يخرج إلى النور بقوة وحب.
تحت وطأة هذا الإحساس المبكر بالفن كانت عتبات المسرح المدرسي أولى خطواته لتحقيق حلمه بأن يكون فنانا، حيث انضم في المدرسة لفريق التمثيل بها، ومن باب غواية التجريب وحبه للرياضة انضم لفترة لفريق أشبال كرة القدم بنادي الزمالك، لكنه ترك كرة القدم بعد فترة قصيرة، حيث كان حبه للتمثيل الأعلى والجارف.
فور انتهائه من المرحلة الثانوية فضل نور الشريف من دون الكليات الأخرى أن يلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ليصقل موهبته ويزودها بالعلم والدراسة، حتى تخرج فيه بتقدير «امتياز» وكان الأول على دفعته عام 1967. وبدأ أولى خطواته في عالم الفن بدور صغير في مسرحية «الشوارع الخلفية»، بعد أن رشحه أستاذه بالمعهد المخرج سعد أردش، ثم اختاره المخرج كمال عيد ليمثل في مسرحيه «روميو وجولييت». وأثناء بروفات المسرحية تعرف على عادل إمام الذي قدمه بدوره للمخرج حسن الإمام، ليبدأ أول ظهور له في السينما في فيلم «قصر الشوق» أحد أضلاع ثلاثية نجيب محفوظ الروائية الشهيرة، ويحصل عن دوره على شهادة تقدير، فكانت أول جائزة يحصل عليها في حياته الفنية عن دوره في الفيلم، حيث قدم شخصية كمال، الفتى الشاب صاحب الأفكار التقدمية، أصغر أبناء السيد أحمد عبد الجواد (سي السيد)، واستطاع رغم قصر الدور أن يلفت الانتباه بتلقائيته وأدائه الرشيق.
سعى نور الشريف مبكرا إلى ترسيخ خطواته في الفن، وأن يكون سلاحه المؤثر، في تنمية ذاته، تشكيل علاقته بواقعه في إطار من الحيوية، والاعتداد بالرأي الآخر، من أجل الوصول إلى الصواب والحقيقة، ولذلك كان للقراءة حيز ثابت في حياته اليومية، يحرص عليها مهما كانت الظروف، وكان واسع الاطلاع في شتي دروب المعرفة الإنسانية، كما كان عاشقا للغة العربية، يرى أن الإلمام بجمالياتها وبلاغتها وقواعدها جزء من تكوينه كممثل، يضيف لإيقاع المشهد الفني، ويمنح الممثل طاقة على الإجادة والتعبير بانسيابية وببساطة.
في عباءة هذا الترسيخ والرغبة في الاستقرار العائلي تزوج نور الشريف في بداية مشواره الفني من الفنانة بوسي، ودام زواجهما لسنوات طويلة، وأنجب منها ابنتيه سارة ومي، حتى تطلقا في عام 2006. ورغم ذلك ظلت الحياة بينهما هادئة ومحبة، حتى إن بوسي لم تفارقه إبان فترة مرضه (انسداد في شرايين القدمين ورشح رئوي) الذي استمرت معاناته معه لعدة أشهر.
ينتمي الشريف إلى ما يسمي بجيل السينما الجديدة، والذي بدأت موجته في أواخر سبعينات القرن الماضي، وضمت عددا من الفنانين والمخرجين، من أبرزهم المخرجون: عاطف الطيب، ومحمد خان، وعلي بدرخان، ورأفت الميهي، وخيري بشارة، ورضوان الكاشف، ومن الفنانين: أحمد زكي، ومحمود عبد العزيز، ويسرا، ومعالي زايد. وقد حاول هذا الجيل أن يضخ دماء جديدة في السينما المصرية، وأن يكسر نمطية البطل التقليدي، في ثوب العشق والغرام، فيصبح البطل سواق الأتوبيس، وسواق التاكسي، والمصور الصحافي، وغيرها من المهن الإنسانية.
في سياق هذا الموجة الجديدة تنوعت أدوار نور الشريف في السينما المصرية، وأصبح من خلالها وبجدارة أحد نجومها المميزين، كما تنوعت أدواره على المسرح، رغم قلتها، وأيضا في الدراما التلفزيونية، التي ترك فيها بصمة لا تنسى.
عمل نور الشريف مع أغلب الفنانين الكبار من الرعيل الأول، ورغم تقديره وحبه الجم لهم فإن من الأشياء اللافتة هنا أنه احتفظ بزاوية ورائحة خاصة لنفسه وأدائه معهم، فلم يذب أو يتعثر في ظلالهم، وإنما كانت تحفزه على اشتعال شكل من أشكال المنافسة غير المرئية في داخله، وهو ما جعله موضع حب من الجميع. بدأت هذه الزاوية الخاص في حواريات فنية رائقة، مع محمود مرسي في «زوجتي والكلب»، وفريد شوقي وعادل أدهم «في الشيطان يعظ»، و«الحفيد» مع عبد المنعم مدبولي، وعماد حمدي في فيلم «سواق الأتوبيس»، وسعاد حسني في «الكرنك».. واتسعت هذه الزاوية ونضجت أكثر بالعمل مع كوكبة من جيل المخرجين الجدد، خاصة عاطف الطيب، ويلحق بهم أيضًا يوسف شاهين.
الحرص من نور الشريف على هذه الزاوية الخاصة عصمه بشكل تلقائي ألا يقع في التعبيرات السمجة المقصودة، لإظهار البراءة والسذاجة في المشهد السينمائي، بل كان يعيشه ويتقمصه موحدا ما بين ضرورات الدراما وضرورات الحياة. والتنقل بحيوية تشبه الطفولة من شطحات يوسف شاهين، ونمطيات شخصيات نجيب محفوظ بالطربوش والبدلة، وواقعية أفلام عاطف الطيب وأفلام سعيد مرزوق. لكن نور الشريف رغم ثقافته السينمائية الرفيعة لم يكن متعصبا لرأيه في العمل، بل كان يحترم آراء المخرجين الذي عمل معهم، رغم عدم اقتناعه بها أحيانا.
يروي الناقد الفني محمد الروبي، في كتاب يعده عن نور الشريف، قائلا: «يتذكر نور خلافا حدث بينه وبين المخرج أنور الشناوي حول مشهد رئيسي في فيلم (السراب)، وهو المشهد الذي يثور فيه كامل على أمه، قائلا: (كانت رغبة المخرج أن ينفعل نور ويعلو صوته على أمه في ثورة عارمة، وكنت أرى هذه الشخصية التي تعاني من عقدة أوديب في علاقته بأمه لا يجب أن تثور عليها بهذا الشكل - صوت عالٍ وصراخ و.. - لكن يجب أن يكون عتابا يبدأ رقيقا ثم يتصاعد، وحاولت إفهام المخرج أن هذه الشخصية لو ثارت في وجه الأم ربما تخرج كلمة واحدة عفوية تجعلها تبكي وتنهار ويهرول ناحيتها يقبل يديها ثم يكمل حواره وهو مخنوق بالعبرات بالشعور بالذنب، لكن المخرج أصر ودارت الكاميرا، واضطررت إعادة هذا المشهد الذي صور بطريقة اللقطة الواحدة نحو ست مرات لعدم اقتناعي بالتفسير الذي يصر عليه المخرج، وفي النهاية أديت المشهد بطريقة احترافية دون اقتناع كامل كما يريده المخرج)».
يتابع الروبي على لسان نور الشريف: «وفي ليلة العرض الأول للفيلم بسينما (ريفولي)، وحينما وصل الفيلم إلى هذا المشهد، فوجئت بأن الصالة انفجرت في تصفيق حاد، فنظر لي أنور الشناوي ليسألني وهو يبتسم: (وما كنتش عاوز تصرخ؟!)، لم أرد ولكني ظللت على اقتناعي بأن المشهد كان سيصبح أكثر قوة وأكثر توافقا مع الشخصية لو أديته بالطريقة التي أشرت أنا إليها، بل إن تصفيق الجمهور في الصالة إعجابا بأدائي لم يقنعني بأنه الأداء الأفضل، فأنا أشعر بأن التصفيق جاء كرد فعل شرطي للصراخ الذي قمت به، وهي طريقة بدائية ومعروفة تجعل أي ممثل مهما كانت قيمته يستدر تصفيق الجمهور بصعوده الصوتي إلى ذروة تحث الجمهور على التصفيق، ولكن لم يكن هذا ما أريده، كنت أريد تأملا للمشهد - بصرف النظر عن التصفيق - بل ربما سيأتي التصفيق بعد لحظات بعد استيعاب الجمهور لموقف الشخصية ولكلمات الحوار المعاتبة التي كشفت العلاقة بينها وبين الأم».
لقد عاش نور الشريف مسكونا بهاجس الزمن، كل يوم يبدأ سباقا جديدا معه، محاولا ترك بصمة تخصه في عالم السينما والفن. وهو ما تجسد بالفعل في العديد من الأفلام السينمائية، من أبرزها: «زوجتي والكلب»، «الكرنك»، «ليلة ساخنة»، «سواق الأتوبيس»، «ناجي العلي»، «ضربة شمس»، «المصير»، «آخر الرجال المحترمين»، «زمن حاتم زهران»، «العار»، «البحث عن سيد مرزوق»، «غريب في بيتي».
وفي المسرح «القدس في يوم آخر»، «سهرة مع الضحك»، «كنت فين يا علي»، «يا غولة عينك حمرا»، «يا مسافر وحدك».
ولن تنسى ذاكرة الدراما التلفزيونية أدواره التي تنوعت ما بين التاريخية والاجتماعية، ومنها «مارد الجبل»، «ثمن الخوف»، «عمر بن عبد العزيز»، «هارون الرشيد»، «لن أعيش في جلباب أبي»، «عائلة الحاج متولي» و«الدالي».
حصل نور الشريف على العديد من الجوائز وشهادات التقدير، منها «جائزة أحسن ممثل عن دوره في فيلم «ليله ساخنة»، وجائزة خاصة عن فيلم «سواق الأتوبيس».
ونعى الدكتور عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري وفاة الفنان نور الشريف، وقال في بيان صادر عن مكتبه: «إن وفاة نور الشريف خسارة كبيرة للفن العربي، فلا ننسى أعماله المتميزة في الدراما والسينما والمسرح، والتي احتلت مكانة كبيرة في وجدان الجمهور وذاكرة الفن، وهو ما جعل أعماله خالدة». وأضاف قائلا إن «نور الشريف له تاريخ حافل ومساهمات فنية جعلته نجما متألقا في عالم الفن. كان مهموما بمشاكل الناس وقضايا المجتمع والبسطاء، فاختار أعمالا فنية تناقش همومهم وقضاياهم، وسعى لتسليط الضوء على شخصيات تاريخية ووطنية في أعماله.. فكان بفنه خير سفير يحكي التاريخ مجسدا على الشاشة».
وتابع أن «الشريف كان من أبرز فناني جيله، وظل نجما بأخلاقه وتواضعه، فقدم لنا عددا من الوجوه الجديدة في التمثيل والإخراج أصبحوا نجوما في ما بعد، حتى صار الشريف مدرسة فنية بما قدم للسينما المصرية». واختتم قائلا: «نقدم العزاء في وفاته لأنفسنا ولأسرته ومحبيه، ونسأل الله أن يلهمهم الصبر والسلوان، ويسكنه فسيح جناته».
وببالغ الحزن والألم استقبل فنانون عرب رحيل نور الشريف، فقبل رحيله بأيام كان قد التقى المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي الذي حضر خصيصا للقائه، وكان مشهراوي أول من نعاه من الفنانين العرب وقال: «فقدت نور الشريف الصديق والأستاذ» ونشر صورا لهما معا.
وقال النجم جمال سليمان: «وداعا أيها الرجل النبيل حبيبي يا أستاذ نور وداعا. لقد كنت بموهبتك وإخلاصك والتزامك وتواضعك وثقافتك مثلا أعلى». وأضاف سليمان: «أهنئك لأنك لم ترحل عن هذه الدنيا إلا وقد تركت تراثا تفخر به أسرتك وبلدك. كنت خير من يمثل الفنان العربي بسعة أفقك وصدق محبتك لفنك. كل شيء فيك كان حقيقيا وأصيلا. الحديث عنك وعن إنسانيتك وفنك طويل جدا، لكن الوداع لحظات. وداعا أيها الرجل النبيل».
وقالت كندة علوش: «رحم الله الفنان الكبير.. وكل العزاء لبوسي ومي وسارة».
وقالت كارول سماحة على صفحتها بـ«إنستغرام»: «الكبار يرحلون لكنهم باقون في قلوبنا.. شكرا نور الشريف على ما قدمته لنا من فن جميل».. ونشرت صورا له مبتسما.
ونعته وفاء الكيلاني، الإعلامية بقناة «إم بي سي»، الراحل قائلة: «ما زلت بيننا وستعيش لأجيال من بعدنا».
وقال الفنان السوري تيم حسن: «نور رحمك الله.. رحلت وتركت مكانا فارغا.. كنت مثالا للفنان المحترم الغيور على فنه وعروبته». ونعته المطربة أحلام أيضا بصورة حزينة.
وقالت صبا مبارك: «كان لي شرف العمل معك وأنني عرفتك.. في ذمة الله يا غالي». وكتبت المطربة نانسي عجرم تنعاه قائلة: «رحم الله نور الشريف وألهم عائلته الصبر.. العزاء للعالم العربي كله».
وداعا نور الشريف.. لقد عشت في قلب الليل والخوف والنهار، وستظل صرختك على لسان جعفر الراوي «نعم إني أتمرغ في التراب، لكني هابط في الأصل من السماء».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».