الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

حمزة يوسف من أسرة مسلمة باكستانية يتجاوز العوائق القومية

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا
TT

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

اختار أخيراً الحزب القومي الأسكوتلندي الحاكم في إقليم أسكوتلندا البريطاني السياسي الشاب الباكستاني الأصل حمزة يوسف زعيماً له، وبالتالي رئيساً لوزراء أسكوتلندا. بانتخاب يوسف لزعامة حزب الغالبية الحاكم في البرلمان الإقليمي، فإنه بات ثالث «رئيس وزراء» (المسمى الرسمي للمنصب هو «وزير أول») قومي أسكوتلندي، بعد «سلفيه» أليكس سالموند ونيكولا ستيرجن، يقود الإقليم، الذي هو ثاني أكبر الأقاليم الأربعة التي تشكل المملكة المتحدة (لبريطانيا العظمى وآيرلندا الشمالية). أكثر من هذا، أنه مع نجاح يوسف في بلوغ هذا الموقع السياسي البارز يتعزّز أكثر حضور البريطانيين المتحدّرين من أصول آسيوية مهاجرة في الواجهة السياسية على امتداد الجزر البريطانية. إذ سبق أن وصل الطبيب الهندي الأصل الدكتور ليو فارادكار إلى زعامة حزب «فين غايل» ورئاسة حكومة جمهورية آيرلندا (بين 2017 و2020) ثم استعاد المنصب منذ ديسمبر (كانون الأول) 2022 وحتى اليوم. وتولى ريشي سوناك، وهو متحدر أيضاً من أصول هندية، رئاسة الحكومة البريطانية منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2022 في أعقاب انتزاعه زعامة حزب المحافظين. وقبله انتُخب صدّيق خان، الناشط والسياسي العمالي البارز، عمدة للعاصمة البريطانية لندن. ومنذ فترة، وحتى اليوم، شغل ويشغل أبناء مهاجرين من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط - من الهندوس والمسلمين والبوذيين والمسيحيين - حقائب حكومية بارزة، بينها وزارات المالية والداخلية، كما أن وزير الخارجية الحالي جيمس كليفرلي ابن أم سيراليونية.
قبل انتخاب حمزة يوسف زعيماً للحزب القومي الاسكوتلندي، الحاكم في ثاني أكبر الأقاليم البريطانية من حيث عدد السكان بعد إنجلترا، كان الناشط السياسي الشاب من النجوم الصاعدة داخل الحزب. ومع أن قاعدة هذا الحزب بالذات «قومية اسكوتلندية» تؤيد بقوة استقلال اسكوتلندا، وسيادة الاسكوتلنديين على أرضهم التاريخية في شمال الجزر البريطانية، فإنها لم تجد ممانعة في أن يقودها زعيم من بيئة مسلمة مهاجرة من شبه القارة الهندية لا علاقة عرقية لها بالهوية الكلتية التي تنضوي تحت لوائها أبرز أقليات الجزر البريطانية (الاسكوتلنديون والآيرلنديون والويلزيون والكوورنووليون والمانكس). والدليل، أن جلّ استطلاعات الرأي التي أجريت بعيد إعلان رئيسة وزراء الإقليم نيكولا ستيرجن نيتها الاستقالة، بيّنت تقدم يوسف على منافسيه، ورجّحت فوزه بالتصويت على خلافتها بالمنصب، وهكذا كان.

النشأة والمسيرة
وُلد حمزة هارون يوسف في مدينة غلاسغو، كبرى المدن الاسكوتلندية من حيث عدد السكان، يوم 7 أبريل (نيسان) من عام 1985. وهو ابن مظفّر يوسف، المهاجر من إقليم البنجاب في باكستان إلى الجزر البريطانية خلال عقد الستينات من القرن الماضي. ولقد عمل مظفّر بعد استقراره في بريطانيا في مهنة المحاسبة. في حين كان والد مظفر (وجدّ حمزة) عاملاً بمصنع ماكينات «سينجر» للخياطة في مدينة كلايدبانك غربي غلاسغو. أما بالنسبة للأم، فإنها ولدت في مدينة نيروبي، عاصمة كينيا، لأسرة آسيوية مهاجرة أيضاً. ولمّا كانت أسرة الأم قد عانت في أفريقيا طويلاً من تكرار الاعتداءات العنصرية العنفية، قررت بعد فترة الهجرة إلى بريطانيا، وهناك استقرت في اسكوتلندا، حيث التقت أسرتا الأب والأم وحصل الزواج.
تلقى الطفل حمزة تعليمه في إحدى المدارس الابتدائية في ناحية أيست رينفروشاير، بالضواحي الغربية لغلاسغو. وفي مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوية ألحقه أهله بمدرسة هتشيسون حيث تخرّج، وغير أنه بعدما تذوّق لأول مرة طعم السياسة وأخذ يهتم بالعمل السياسي. وكان يوم الاعتداء المزدوج على نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 مفصلياً في حياته، ففي حينه طرح عليه اثنان من زملائه في المدرسة أسئلة... منها «لماذا يكره المسلمون أميركا؟».
إثر هذه التجربة، عزم حمزة يوسف على السير بخلاف رغبة والديه اللذين كانا يريدان له دراسة الطب أو الحقوق أو الصيدلة، فقرر دراسة العلوم السياسية في الجامعة. وبالفعل، درس العلوم السياسية في جامعة غلاسغو المرموقة، وأدى نشاطه السياسي الدؤوب إلى انتخابه رئيساً لرابطة الطلبة المسلمين في الجامعة، كما أنه برز على مسرح السياسة الطلابية في الجامعة قبل أن يتخرّج فيها بدرجة الماجستير عام 2007.

نشاط ما بعد الجامعة
في الواقع، اهتم يوسف منذ الصغر بالعمل الاجتماعي، وعمل لعدد من الجمعيات من منظمات الفتيان إلى جمع التبرعات للمبرّات الخيرية. ولبعض الوقت تطوّع للعمل ناطقاً إعلامياً مع منظمة «الإغاثة الإسلامية»، ونشط في مشروع لإطعام المشردين وطالبي اللجوء في غلاسغو. ولكن، في مجال السياسة، انضم يوسف عام 2005 إبّان سنوات دراسته الجامعية إلى الحزب القومي الأسكوتلندي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه تأثر كثيراً خلال تلك المرحلة بغزو العراق (عام 2003) في عهد حكومة توني بلير العمالية، فقد انجذب كثيراً لخطب أليكس سالموند زعيم القوميين الاسكوتلنديين (وأول «وزير أول» قومي اسكوتلندي في اسكوتلندا) المناهضة للحرب في العراق، كما تأثر بحماسة الناشطة السلمية روز جنتل ضد الحرب. ولقد أدرك في حينه أن استقلال اسكوتلندا هو الخيار الوحيد لانتهاجها سياسة مستقلة لا تُملى عليها إملاءً من لندن.
وهكذا، انطلق مشوار الشاب المتحمس مع الحزب القومي الاسكوتلندي، وساهم بهمّة وحماسة في حملات الحزب الانتخابية، بما فيها الانتخابات للبرلمان الاسكوتلندي الإقليمي عام 2007. وهي الانتخابات التي فاز بها الحزب، وتولّى بفضلها لأول مرة الحكم في الإقليم، كما أدت إلى شغله أول وظيفه له في هذا البرلمان. وحقاً، بعد الانتخابات، عمل يوسف مساعداً برلمانياً لبشير أحمد، الذي كان أول مسلم يدخل البرلمان الاسكوتلندي عام 2007. غير أن أحمد توفي بعد سنتين، فانتقل يوسف للعمل مساعداً برلمانياً لكل من سالموند، ثم نيكولا ستيرجن، التي خلفته في منصبيه في زعامة الحزب ومنصب «الوزير الأول» للإقليم عام 2014... وظلت فيه حتى خلفها يوسف نفسه قبل بضعة أسابيع.
في مكتب الحزب أسند إلى حمزة يوسف منصب مسؤول عن التواصل، قبل أن ينتخب عضواً في البرلمان الإقليمي للمقعد الإضافي عن منطقة غلاسغو الكبرى عام 2011، وهو في السادسة والعشرين من العمر... ويغدو أصغر نواب البرلمان الأسكوتلندي سناً. وللعلم، عندما أدى يوسف قسم الولاء الرسمي فإنه أداه باللغتين الإنجليزية والأوردية، وارتدى زيه الآسيوي التقليدي.
وفي العام التالي، 2012 عيّنه سالموند وزيراً مساعداً للشؤون الخارجية والعلاقات الدولية، فكان أول مسلم يدخل الحكومة في اسكوتلندا، واستمر في هذا المنصب حتى 2014، عندما استقال سالموند، وخلفته ستيرجن. ثم في حكومة ستيرجن عُيّن عام 2014 عُيّن وزيراً مساعداً للشؤون الأوروبية، ثم وزيراً للنقل وشؤون الجزر الاسكوتلندية عام 2016. وخلال هذا العام أعيد انتخابه لعضوية البرلمان الإقليمي نائباً عن دائرة غلاسغو - بولوك.
خلال هذا الفترة كان من أشهر كلمات يوسف في تعريفه لما يعنيه استقلال اسكوتلندا قوله «إنه سيضيف صوتاً تقدمياً إزاء القضايا العالمية، مروّجاً لمبادئ السلام والمساواة والإنصاف... هذا الاستقلال سيتحقق بالوسائل الديمقراطية السلمية من دون إراقة نقطة دم واحدة، وستتشارك فيه كل المكوّنات المتنوّعة التي تشكّل معاً نسيجنا الاسكوتلندي الثري».

وزيراً للعدل ثم الصحة
جاءت القفزة الأهم، في العام 2018، عندما رُقّي يوسف مجدّداً داخل حكومة ستيرجن؛ إذ دخل مجلس الوزراء هذه المرة وزيراً للعدل خلفاً للوزير السابق مايكل ماثيسون. وخلال هذه الفترة، قدّم مشروع القانون المثير للجدل حول «جرائم الكراهية». وكان مشروع القانون هذا يخفف من التشريعات الموجودة، ومع أنه يبقي على حرية التعبير فإنه يعزز في المقابل حماية الأقليات المضطهدة. بيد أن المشروع لاقى انتقادات من جهات عدة، بينها الكنيسة الكاثوليكية والجمعية الوطنية العلمانية ومجموعة من الكتّاب. وفي سبتمبر 2020 عدّل مشروع القانون هذا وأزيلت منه بنود مختلف عليها.
وسجّلت فترة شغله وزارة العدل انخفاضاً لافتاً لمعدلات الجريمة. ولكن، بعد 3 سنوات، عام 2021، أعيد انتخابه عن دائرة غلاسغو - بولوك البرلمانية، في انتخابات أخفق فيها القوميون الاسكوتلنديون في الاحتفاظ بغالبيتهم المطلقة بفارق مقعدين، لكنهم ظلوا الحزب الأكبر في المجلس بأكثر من ضعفي عدد مقاعد حزب المحافظين صاحب المرتبة الثانية. وبعدها، انتقل داخل الحكومة ليتولى منصب وزير الصحة خلفاً للوزيرة السابقة جين فريمان، في أواخر فترة جائحة «كوفيد - 19». وكان بحكم مسؤولياته مشرفاً وبفاعلية كبيرة على دعم عمل «خدمة الصحة الوطنية» وتعزيز عمليات التلقيح ضد الفيروس، التي كانت قد انطلقت في عهد فريمان.
ولكن، في مطلع العام الحالي، بعد إعلان ستيرجن يوم 15 فبراير (شباط) اعتزامها الاستقالة من منصبها كزعيمة للحزب القومي الاسكوتلندي و«وزيرة أولى» لاسكوتلندا، أعلن حمزة يوسف دخوله حلبة الترشح لخلافتها. وبالفعل، فاز في التصويت الداخلي للحزب وأصبح من ثم زعيماً له يوم 27 مارس (آذار) الماضي.

بعض مواقفه السياسية
في 15 فبراير الفائت، لدى إعلان ستيرجن اعتزامها التنحي عن منصبيها الحزبي والوزاري، فتحت حلبة التنافس لخلافتها، وأعلن حمزة يوسف خلال 3 أيام ترشحه لخلافتها خلال لقاء صحافي. وأعلن سلسلة مواقف، بينها: مواجهة قرار الحكومة البريطانية برفض مشروع القانون الاسكوتلندي للتعريف الجندري (الجنسي)، العمل على زيادة التأييد لاستقلال اسكوتلندا قبل استفتاء على الأمر. ثم إنه طرحه نفسه كـ«مرشح استمرارية» لسياسات ستيرجن «التقدمية» والمؤسسة الحزبية القائمة. وبسرعة نال دعم العديد من قيادات الحزب.
بعدها قال خلال مهرجان انتخابي، إنه لا يعدّ نتيجة الانتخابات المقبلة في بريطانيا - أي نتيجة كانت - «استفتاءً» على استقلال اسكوتلندا. وفي مسألة أثارت بعض اللغط حول مشروع قانون زواج المثليين، تعرّض يوسف لانتقاد ضمني من كايت فوربز، المرشحة المنافسة على المنصب والمناهضة لزواج المثليين، لتغيبه في الجلسة الحاسمة عن التصويت على المشروع. إلا أن يوسف رد بأنه «لا يشرّع بناءً على أساس الدين والمعتقد». وأوضح، أنه إنما تغيب عن التصويت بسبب اجتماعه مع القنصل الباكستاني وإثارته معه حكم الإعدام الصادر في باكستان بحق مواطن اسكوتلندي بتهمة التجديف.
في أي حال، فاز حمزة يوسف في الانتخابات الحزبية على الزعامة يوم 27 مارس... ليغدو أول شخص غير أبيض، وأول مسلم، يُنتخَب «وزيراً أول» (رئيس وزراء) لاسكوتلندا منذ استحداث المنصب عام 1999. وتقبّل يوسف مقاليد المنصب في مراسم نظمت في ملعب مريفيلد الكبير في العاصمة إدنبره.


مقالات ذات صلة

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

العالم شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

أعلنت شرطة لندن، الثلاثاء، توقيف رجل «يشتبه بأنه مسلّح» اقترب من سياج قصر باكينغهام وألقى أغراضا يعتقد أنها خراطيش سلاح ناري إلى داخل حديقة القصر.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

قال قصر بكنغهام وصناع شاشة جديدة من المقرر استخدامها خلال مراسم تتويج الملك تشارلز الأسبوع المقبل إن الشاشة ستوفر «خصوصية مطلقة» للجزء الأكثر أهمية من المراسم، مما يضمن أن عيون العالم لن ترى الملك وهو يجري مسحه بزيت. فالشاشة ثلاثية الجوانب ستكون ساترا لتشارلز أثناء عملية المسح بالزيت المجلوب من القدس على يديه وصدره ورأسه قبل وقت قصير من تتويجه في كنيسة وستمنستر بلندن في السادس من مايو (أيار) المقبل. وقال قصر بكنغهام إن هذه اللحظة تاريخيا كان ينظر إليها على أنها «لحظة بين الملك والله» مع وجود حاجز لحماية قدسيته.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

قدّم رئيس هيئة «بي بي سي» ريتشارد شارب، أمس الجمعة، استقالته بعد تحقيق وجد أنه انتهك القواعد لعدم الإفصاح عن دوره في ترتيب قرض لرئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون. وقال شارب، «أشعر أن هذا الأمر قد يصرف التركيز عن العمل الجيد الذي تقدّمه المؤسسة إذا بقيت في المنصب حتى نهاية فترة ولايتي». تأتي استقالة شارب في وقت يتزايد التدقيق السياسي في أوضاع «بي بي سي».

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

أكد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»، اليوم (الثلاثاء)، أنه يتعين على البريطانيين القبول بتراجع قدرتهم الشرائية في مواجهة أزمة تكاليف المعيشة التاريخية من أجل عدم تغذية التضخم. وقال هيو بيل، في «بودكاست»، إنه مع أن التضخم نجم عن الصدمات خارج المملكة المتحدة من وباء «كوفيد19» والحرب في أوكرانيا، فإن «ما يعززه أيضاً جهود يبذلها البريطانيون للحفاظ على مستوى معيشتهم، فيما تزيد الشركات أسعارها ويطالب الموظفون بزيادات في الرواتب». ووفق بيل؛ فإنه «بطريقة ما في المملكة المتحدة، يجب أن يقبل الناس بأن وضعهم ساء، والكف عن محاولة الحفاظ على قدرتهم الشرائية الحقيقية».

«الشرق الأوسط» (لندن)
«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

قدّم نائب رئيس الوزراء البريطاني، دومينيك راب، استقالته، أمس، بعدما خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّه تنمّر على موظفين حكوميين. وفي نكسة جديدة لرئيس الوزراء ريشي سوناك، خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّ راب، الذي يشغل منصب وزير العدل أيضاً، تصرّف بطريقة ترقى إلى المضايقة المعنوية خلال تولّيه مناصب وزارية سابقة. ورغم نفيه المستمر لهذه الاتهامات، كتب راب في رسالة الاستقالة الموجّهة إلى سوناك: «لقد طلبتُ هذا التحقيق، وتعهدتُ الاستقالة إذا ثبتت وقائع التنمّر أياً تكن»، مؤكّداً: «أعتقد أنه من المهم احترام كلمتي». وقبِل سوناك هذه الاستقالة، معرباً في رسالة وجهها إلى وزيره السابق عن «حزنه الشديد»، ومشيداً بسنوات خدمة

«الشرق الأوسط» (لندن)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.