الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

حمزة يوسف من أسرة مسلمة باكستانية يتجاوز العوائق القومية

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا
TT

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

الوزير الأول الأسكوتلندي آسيوي آخر يلمع سياسياً في بريطانيا

اختار أخيراً الحزب القومي الأسكوتلندي الحاكم في إقليم أسكوتلندا البريطاني السياسي الشاب الباكستاني الأصل حمزة يوسف زعيماً له، وبالتالي رئيساً لوزراء أسكوتلندا. بانتخاب يوسف لزعامة حزب الغالبية الحاكم في البرلمان الإقليمي، فإنه بات ثالث «رئيس وزراء» (المسمى الرسمي للمنصب هو «وزير أول») قومي أسكوتلندي، بعد «سلفيه» أليكس سالموند ونيكولا ستيرجن، يقود الإقليم، الذي هو ثاني أكبر الأقاليم الأربعة التي تشكل المملكة المتحدة (لبريطانيا العظمى وآيرلندا الشمالية). أكثر من هذا، أنه مع نجاح يوسف في بلوغ هذا الموقع السياسي البارز يتعزّز أكثر حضور البريطانيين المتحدّرين من أصول آسيوية مهاجرة في الواجهة السياسية على امتداد الجزر البريطانية. إذ سبق أن وصل الطبيب الهندي الأصل الدكتور ليو فارادكار إلى زعامة حزب «فين غايل» ورئاسة حكومة جمهورية آيرلندا (بين 2017 و2020) ثم استعاد المنصب منذ ديسمبر (كانون الأول) 2022 وحتى اليوم. وتولى ريشي سوناك، وهو متحدر أيضاً من أصول هندية، رئاسة الحكومة البريطانية منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2022 في أعقاب انتزاعه زعامة حزب المحافظين. وقبله انتُخب صدّيق خان، الناشط والسياسي العمالي البارز، عمدة للعاصمة البريطانية لندن. ومنذ فترة، وحتى اليوم، شغل ويشغل أبناء مهاجرين من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط - من الهندوس والمسلمين والبوذيين والمسيحيين - حقائب حكومية بارزة، بينها وزارات المالية والداخلية، كما أن وزير الخارجية الحالي جيمس كليفرلي ابن أم سيراليونية.
قبل انتخاب حمزة يوسف زعيماً للحزب القومي الاسكوتلندي، الحاكم في ثاني أكبر الأقاليم البريطانية من حيث عدد السكان بعد إنجلترا، كان الناشط السياسي الشاب من النجوم الصاعدة داخل الحزب. ومع أن قاعدة هذا الحزب بالذات «قومية اسكوتلندية» تؤيد بقوة استقلال اسكوتلندا، وسيادة الاسكوتلنديين على أرضهم التاريخية في شمال الجزر البريطانية، فإنها لم تجد ممانعة في أن يقودها زعيم من بيئة مسلمة مهاجرة من شبه القارة الهندية لا علاقة عرقية لها بالهوية الكلتية التي تنضوي تحت لوائها أبرز أقليات الجزر البريطانية (الاسكوتلنديون والآيرلنديون والويلزيون والكوورنووليون والمانكس). والدليل، أن جلّ استطلاعات الرأي التي أجريت بعيد إعلان رئيسة وزراء الإقليم نيكولا ستيرجن نيتها الاستقالة، بيّنت تقدم يوسف على منافسيه، ورجّحت فوزه بالتصويت على خلافتها بالمنصب، وهكذا كان.

النشأة والمسيرة
وُلد حمزة هارون يوسف في مدينة غلاسغو، كبرى المدن الاسكوتلندية من حيث عدد السكان، يوم 7 أبريل (نيسان) من عام 1985. وهو ابن مظفّر يوسف، المهاجر من إقليم البنجاب في باكستان إلى الجزر البريطانية خلال عقد الستينات من القرن الماضي. ولقد عمل مظفّر بعد استقراره في بريطانيا في مهنة المحاسبة. في حين كان والد مظفر (وجدّ حمزة) عاملاً بمصنع ماكينات «سينجر» للخياطة في مدينة كلايدبانك غربي غلاسغو. أما بالنسبة للأم، فإنها ولدت في مدينة نيروبي، عاصمة كينيا، لأسرة آسيوية مهاجرة أيضاً. ولمّا كانت أسرة الأم قد عانت في أفريقيا طويلاً من تكرار الاعتداءات العنصرية العنفية، قررت بعد فترة الهجرة إلى بريطانيا، وهناك استقرت في اسكوتلندا، حيث التقت أسرتا الأب والأم وحصل الزواج.
تلقى الطفل حمزة تعليمه في إحدى المدارس الابتدائية في ناحية أيست رينفروشاير، بالضواحي الغربية لغلاسغو. وفي مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوية ألحقه أهله بمدرسة هتشيسون حيث تخرّج، وغير أنه بعدما تذوّق لأول مرة طعم السياسة وأخذ يهتم بالعمل السياسي. وكان يوم الاعتداء المزدوج على نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 مفصلياً في حياته، ففي حينه طرح عليه اثنان من زملائه في المدرسة أسئلة... منها «لماذا يكره المسلمون أميركا؟».
إثر هذه التجربة، عزم حمزة يوسف على السير بخلاف رغبة والديه اللذين كانا يريدان له دراسة الطب أو الحقوق أو الصيدلة، فقرر دراسة العلوم السياسية في الجامعة. وبالفعل، درس العلوم السياسية في جامعة غلاسغو المرموقة، وأدى نشاطه السياسي الدؤوب إلى انتخابه رئيساً لرابطة الطلبة المسلمين في الجامعة، كما أنه برز على مسرح السياسة الطلابية في الجامعة قبل أن يتخرّج فيها بدرجة الماجستير عام 2007.

نشاط ما بعد الجامعة
في الواقع، اهتم يوسف منذ الصغر بالعمل الاجتماعي، وعمل لعدد من الجمعيات من منظمات الفتيان إلى جمع التبرعات للمبرّات الخيرية. ولبعض الوقت تطوّع للعمل ناطقاً إعلامياً مع منظمة «الإغاثة الإسلامية»، ونشط في مشروع لإطعام المشردين وطالبي اللجوء في غلاسغو. ولكن، في مجال السياسة، انضم يوسف عام 2005 إبّان سنوات دراسته الجامعية إلى الحزب القومي الأسكوتلندي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه تأثر كثيراً خلال تلك المرحلة بغزو العراق (عام 2003) في عهد حكومة توني بلير العمالية، فقد انجذب كثيراً لخطب أليكس سالموند زعيم القوميين الاسكوتلنديين (وأول «وزير أول» قومي اسكوتلندي في اسكوتلندا) المناهضة للحرب في العراق، كما تأثر بحماسة الناشطة السلمية روز جنتل ضد الحرب. ولقد أدرك في حينه أن استقلال اسكوتلندا هو الخيار الوحيد لانتهاجها سياسة مستقلة لا تُملى عليها إملاءً من لندن.
وهكذا، انطلق مشوار الشاب المتحمس مع الحزب القومي الاسكوتلندي، وساهم بهمّة وحماسة في حملات الحزب الانتخابية، بما فيها الانتخابات للبرلمان الاسكوتلندي الإقليمي عام 2007. وهي الانتخابات التي فاز بها الحزب، وتولّى بفضلها لأول مرة الحكم في الإقليم، كما أدت إلى شغله أول وظيفه له في هذا البرلمان. وحقاً، بعد الانتخابات، عمل يوسف مساعداً برلمانياً لبشير أحمد، الذي كان أول مسلم يدخل البرلمان الاسكوتلندي عام 2007. غير أن أحمد توفي بعد سنتين، فانتقل يوسف للعمل مساعداً برلمانياً لكل من سالموند، ثم نيكولا ستيرجن، التي خلفته في منصبيه في زعامة الحزب ومنصب «الوزير الأول» للإقليم عام 2014... وظلت فيه حتى خلفها يوسف نفسه قبل بضعة أسابيع.
في مكتب الحزب أسند إلى حمزة يوسف منصب مسؤول عن التواصل، قبل أن ينتخب عضواً في البرلمان الإقليمي للمقعد الإضافي عن منطقة غلاسغو الكبرى عام 2011، وهو في السادسة والعشرين من العمر... ويغدو أصغر نواب البرلمان الأسكوتلندي سناً. وللعلم، عندما أدى يوسف قسم الولاء الرسمي فإنه أداه باللغتين الإنجليزية والأوردية، وارتدى زيه الآسيوي التقليدي.
وفي العام التالي، 2012 عيّنه سالموند وزيراً مساعداً للشؤون الخارجية والعلاقات الدولية، فكان أول مسلم يدخل الحكومة في اسكوتلندا، واستمر في هذا المنصب حتى 2014، عندما استقال سالموند، وخلفته ستيرجن. ثم في حكومة ستيرجن عُيّن عام 2014 عُيّن وزيراً مساعداً للشؤون الأوروبية، ثم وزيراً للنقل وشؤون الجزر الاسكوتلندية عام 2016. وخلال هذا العام أعيد انتخابه لعضوية البرلمان الإقليمي نائباً عن دائرة غلاسغو - بولوك.
خلال هذا الفترة كان من أشهر كلمات يوسف في تعريفه لما يعنيه استقلال اسكوتلندا قوله «إنه سيضيف صوتاً تقدمياً إزاء القضايا العالمية، مروّجاً لمبادئ السلام والمساواة والإنصاف... هذا الاستقلال سيتحقق بالوسائل الديمقراطية السلمية من دون إراقة نقطة دم واحدة، وستتشارك فيه كل المكوّنات المتنوّعة التي تشكّل معاً نسيجنا الاسكوتلندي الثري».

وزيراً للعدل ثم الصحة
جاءت القفزة الأهم، في العام 2018، عندما رُقّي يوسف مجدّداً داخل حكومة ستيرجن؛ إذ دخل مجلس الوزراء هذه المرة وزيراً للعدل خلفاً للوزير السابق مايكل ماثيسون. وخلال هذه الفترة، قدّم مشروع القانون المثير للجدل حول «جرائم الكراهية». وكان مشروع القانون هذا يخفف من التشريعات الموجودة، ومع أنه يبقي على حرية التعبير فإنه يعزز في المقابل حماية الأقليات المضطهدة. بيد أن المشروع لاقى انتقادات من جهات عدة، بينها الكنيسة الكاثوليكية والجمعية الوطنية العلمانية ومجموعة من الكتّاب. وفي سبتمبر 2020 عدّل مشروع القانون هذا وأزيلت منه بنود مختلف عليها.
وسجّلت فترة شغله وزارة العدل انخفاضاً لافتاً لمعدلات الجريمة. ولكن، بعد 3 سنوات، عام 2021، أعيد انتخابه عن دائرة غلاسغو - بولوك البرلمانية، في انتخابات أخفق فيها القوميون الاسكوتلنديون في الاحتفاظ بغالبيتهم المطلقة بفارق مقعدين، لكنهم ظلوا الحزب الأكبر في المجلس بأكثر من ضعفي عدد مقاعد حزب المحافظين صاحب المرتبة الثانية. وبعدها، انتقل داخل الحكومة ليتولى منصب وزير الصحة خلفاً للوزيرة السابقة جين فريمان، في أواخر فترة جائحة «كوفيد - 19». وكان بحكم مسؤولياته مشرفاً وبفاعلية كبيرة على دعم عمل «خدمة الصحة الوطنية» وتعزيز عمليات التلقيح ضد الفيروس، التي كانت قد انطلقت في عهد فريمان.
ولكن، في مطلع العام الحالي، بعد إعلان ستيرجن يوم 15 فبراير (شباط) اعتزامها الاستقالة من منصبها كزعيمة للحزب القومي الاسكوتلندي و«وزيرة أولى» لاسكوتلندا، أعلن حمزة يوسف دخوله حلبة الترشح لخلافتها. وبالفعل، فاز في التصويت الداخلي للحزب وأصبح من ثم زعيماً له يوم 27 مارس (آذار) الماضي.

بعض مواقفه السياسية
في 15 فبراير الفائت، لدى إعلان ستيرجن اعتزامها التنحي عن منصبيها الحزبي والوزاري، فتحت حلبة التنافس لخلافتها، وأعلن حمزة يوسف خلال 3 أيام ترشحه لخلافتها خلال لقاء صحافي. وأعلن سلسلة مواقف، بينها: مواجهة قرار الحكومة البريطانية برفض مشروع القانون الاسكوتلندي للتعريف الجندري (الجنسي)، العمل على زيادة التأييد لاستقلال اسكوتلندا قبل استفتاء على الأمر. ثم إنه طرحه نفسه كـ«مرشح استمرارية» لسياسات ستيرجن «التقدمية» والمؤسسة الحزبية القائمة. وبسرعة نال دعم العديد من قيادات الحزب.
بعدها قال خلال مهرجان انتخابي، إنه لا يعدّ نتيجة الانتخابات المقبلة في بريطانيا - أي نتيجة كانت - «استفتاءً» على استقلال اسكوتلندا. وفي مسألة أثارت بعض اللغط حول مشروع قانون زواج المثليين، تعرّض يوسف لانتقاد ضمني من كايت فوربز، المرشحة المنافسة على المنصب والمناهضة لزواج المثليين، لتغيبه في الجلسة الحاسمة عن التصويت على المشروع. إلا أن يوسف رد بأنه «لا يشرّع بناءً على أساس الدين والمعتقد». وأوضح، أنه إنما تغيب عن التصويت بسبب اجتماعه مع القنصل الباكستاني وإثارته معه حكم الإعدام الصادر في باكستان بحق مواطن اسكوتلندي بتهمة التجديف.
في أي حال، فاز حمزة يوسف في الانتخابات الحزبية على الزعامة يوم 27 مارس... ليغدو أول شخص غير أبيض، وأول مسلم، يُنتخَب «وزيراً أول» (رئيس وزراء) لاسكوتلندا منذ استحداث المنصب عام 1999. وتقبّل يوسف مقاليد المنصب في مراسم نظمت في ملعب مريفيلد الكبير في العاصمة إدنبره.


مقالات ذات صلة

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

العالم شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

أعلنت شرطة لندن، الثلاثاء، توقيف رجل «يشتبه بأنه مسلّح» اقترب من سياج قصر باكينغهام وألقى أغراضا يعتقد أنها خراطيش سلاح ناري إلى داخل حديقة القصر.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

قال قصر بكنغهام وصناع شاشة جديدة من المقرر استخدامها خلال مراسم تتويج الملك تشارلز الأسبوع المقبل إن الشاشة ستوفر «خصوصية مطلقة» للجزء الأكثر أهمية من المراسم، مما يضمن أن عيون العالم لن ترى الملك وهو يجري مسحه بزيت. فالشاشة ثلاثية الجوانب ستكون ساترا لتشارلز أثناء عملية المسح بالزيت المجلوب من القدس على يديه وصدره ورأسه قبل وقت قصير من تتويجه في كنيسة وستمنستر بلندن في السادس من مايو (أيار) المقبل. وقال قصر بكنغهام إن هذه اللحظة تاريخيا كان ينظر إليها على أنها «لحظة بين الملك والله» مع وجود حاجز لحماية قدسيته.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

قدّم رئيس هيئة «بي بي سي» ريتشارد شارب، أمس الجمعة، استقالته بعد تحقيق وجد أنه انتهك القواعد لعدم الإفصاح عن دوره في ترتيب قرض لرئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون. وقال شارب، «أشعر أن هذا الأمر قد يصرف التركيز عن العمل الجيد الذي تقدّمه المؤسسة إذا بقيت في المنصب حتى نهاية فترة ولايتي». تأتي استقالة شارب في وقت يتزايد التدقيق السياسي في أوضاع «بي بي سي».

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

أكد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»، اليوم (الثلاثاء)، أنه يتعين على البريطانيين القبول بتراجع قدرتهم الشرائية في مواجهة أزمة تكاليف المعيشة التاريخية من أجل عدم تغذية التضخم. وقال هيو بيل، في «بودكاست»، إنه مع أن التضخم نجم عن الصدمات خارج المملكة المتحدة من وباء «كوفيد19» والحرب في أوكرانيا، فإن «ما يعززه أيضاً جهود يبذلها البريطانيون للحفاظ على مستوى معيشتهم، فيما تزيد الشركات أسعارها ويطالب الموظفون بزيادات في الرواتب». ووفق بيل؛ فإنه «بطريقة ما في المملكة المتحدة، يجب أن يقبل الناس بأن وضعهم ساء، والكف عن محاولة الحفاظ على قدرتهم الشرائية الحقيقية».

«الشرق الأوسط» (لندن)
«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

قدّم نائب رئيس الوزراء البريطاني، دومينيك راب، استقالته، أمس، بعدما خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّه تنمّر على موظفين حكوميين. وفي نكسة جديدة لرئيس الوزراء ريشي سوناك، خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّ راب، الذي يشغل منصب وزير العدل أيضاً، تصرّف بطريقة ترقى إلى المضايقة المعنوية خلال تولّيه مناصب وزارية سابقة. ورغم نفيه المستمر لهذه الاتهامات، كتب راب في رسالة الاستقالة الموجّهة إلى سوناك: «لقد طلبتُ هذا التحقيق، وتعهدتُ الاستقالة إذا ثبتت وقائع التنمّر أياً تكن»، مؤكّداً: «أعتقد أنه من المهم احترام كلمتي». وقبِل سوناك هذه الاستقالة، معرباً في رسالة وجهها إلى وزيره السابق عن «حزنه الشديد»، ومشيداً بسنوات خدمة

«الشرق الأوسط» (لندن)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.