هو واحد من أجمل المواقع في العاصمة الفرنسية، يتخذ من سطح «معهد العالم العربي» مكانه، ويطل على «السين» من ضفته الشرقية وجزيرة «سان لوي» ذات المباني العتيقة وكاتدرائية «نوتردام» التاريخية التي شبّ فيها حريق ولا تزال قيد الترميم. هنا، في الطابق التاسع من العمارة الحداثية للمعهد، يختار الكوميدي المغربي جمال دبوز إنشاء مطعم تديره والدته فاطمة.
اعتدنا أن يهدي الأبناء البارّون باقات الورد إلى أمهاتهم، أو أن يقدموا لهنّ بيوتاً تجمعهن بأبنائهن وأحفادهن إن فتح الله أبواب النجاح والرزق، كما هي حال الممثل الفكاهي الأشهر بين أبناء جيله في فرنسا. أما أن تكون الهدية تحفة تحتفي بفنون المطبخ المغربي في عقر دار باريس، فتلك هي المفاجأة.
تقاعدت والدته فاطمة من عملها وتفرّغت لإدارة هذا المشروع التجاري الذي ستوزّع وقتها بينه وبين مزرعتها في المغرب، حيث تنتج العسل وزيت الزيتون. اسم المطعم «دار ميمة»، وهي صيغة الدلال لفاطمة. وكل ما فيه من أثاث وأطباق وكؤوس ونكهات وروائح، يأخذ الزبون إلى ذلك البلد الذي يعشق الفرنسيون مأكولاته ومنهم من يفضّلها على الأطعمة المحلية. لقد نافست «الكُسكُس» و«الطاجين» و«سلطة الزعلوك»، وجبات فرنسية شعبية مثل «رأس العجل»، الذي كان الطبق المفضّل للرئيس الراحل جاك شيراك، و«الشوكروت» أي اللفت المسلوق مع اللحم المقدد، أو الديك المطبوخ بالنبيذ.
تشارك دبوز مع شركة باريسية للفوز بهذا المكان الاستثنائي الذي كان لسنوات طويلة مطعماً لبنانياً. وخصّصت المجلة الأسبوعية لصحيفة «الفيغارو» صفحات عدّة للاحتفال بهذا المطعم، ووصفت إطلالة شرفته العالية بأنه «منظر يحبس الأنفاس».
كشف مؤسس شركة «باري هوسبيتاليتي» لوران غورسوف، عن أنه وضع نصب عينه 20 موقعاً في العاصمة حين بدأ مشروعه قبل عشر سنوات، فأنجز 16 مطعماً من تلك القائمة، وها هو يضيف إليها مطعماً مغربياً ينسجم مع المستوى العالي للبقية. الفارق بين المطاعم الأخرى هو وجود اسم النجم جمال دبوز شريكاً في المكان؛ الأمر الذي لم يكن ضمن خطتهم من قبل، حيث كان المكان في ذاته هو النجم.
ولدت فكرة المطعم من محادثة بين الشريكين اللذين تربطهما صداقة. إن لدبوز علاقة خاصة بـ«معهد العالم العربي» لكونه جسراً بين الثقافتين الفرنسية والعربية، وقد جاء بوالدته لتزوره في السفرة الأولى لها إلى باريس. وهو أيضاً مكان أول مقابلة صحافية أجريت معه في بدايات مشواره. وبهذا، يصبح «دار ميمة» حكاية صداقة وعودة إلى الجذور، ومطعماً يضمن لمرتاديه نقلهم إلى أجواء مختلفة عن المألوف.
لضمان هذه الأجواء؛ عهد إلى مهندسة الديكور لورا غونزاليس رسم التفاصيل الداخلية للمطعم. ونالت لورا شهرتها بعد تعاونها في تصميم مقرات دُور لعلامات شهيرة مثل الصائغ «كارتييه» وصانع الأحذية «لوبوتان». وهي تقول، إنها رسمت التصاميم عندما كانت محجوزة في بيتها خلال عزلة «الكوفيد»، وكان الأمر فرصة ثمينة للهروب من ضغط الجائحة. لكن المهمة لم تكن سهلة؛ إذ كان عليها تصميم مكان مختلف وجذاب ورومانسي... أين؟ على سطح مبنى حديث يحمل توقيع المعماري المعروف عالمياً جان نوفيل.
لم يكن الهدف تكرار ما يراه الضيف في المطاعم الشرقية الحافلة بالرموز والألوان والمشغولات التراثية. لهذا وقع الاختيار على فكرة الحكايات، بالتعاون مع محافظي متحف «معهد العالم العربي».
وبهذا؛ فإنّ نقوش السجاد المفروش على الأرضية مستوحاة من بساط مصري يعود للقرن السادس عشر. أما خشب الأعمدة فاعتمدت فيه الرسوم الهندسية للمشربيات التي تميز واجهة المعهد، وأُضيفت فواصل تمنح الإحساس بالخصوصية من دون حجب جمال المنظر خارج النوافذ. وهناك قطع للزينة مستعارة من مجموعة المعهد أو تم اقتناؤها من الحرفيين، ومنها مصابيح إنارة إيطالية على النمط الموريسكي وثريات قريبة من تلك التي تتدلى من سقوف المساجد. وعلى ذكر السقوف، فقد وضعت فيها مرايا تعكس الألوان الدافئة للأثاث.
يتسع المطعم لـ95 مقعداً، أما الشرفة الخارجية فيمكنها استقبال 180 شخصاً، وهي تحوّلت إلى خميلة ذات مناضد حجرية ودواوين مغطاة بالقماش المنقوش المُصمم خصيصاً للمكان.
في حديثها لصحيفة «الفيغارو»، تقول لورا غونزاليس، إنّ مدخل المطعم مهم جداً. فالزبون يصل إليه بواحد من المصاعد الزجاجية للمعهد. ثم يمر عبر مجاز منخفض السقف ليصل إلى ستارة يزيحها ليجد نفسه في قاعة مغمورة بالنور. وهو الأثر نفسه الذي يترك مشاعر مختلطة عند الخروج من باب الطائرة بعد رحلة طويلة، أو عند اجتياز عتبة روضة من رياض المغرب؛ تلك البيوت التقليدية ذات الباحات الداخلية السابحة في ضوء مراكش.