الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
TT

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)
المسحراتي «أبو طبيلة» يجوب شوارع بلدة في الأحساء ليوقظ الأهالي للسحور (واس)

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد. فكل الأمم السابقة كان لها صيامها الخاص، فمنهم من يصوم لبلوغ حالة من الشفافية الروحية التي تسمح له بالاتصال بالمعبود، أو للابتعاد عن المحرمات، أو إرضاء الله وطلب بركاته. وهناك من يصوم إثر حدث جلل أو فجيعة أو احتفالاً بذكرى أو حالة حزن.
كان بعض الناس يمتنعون عن تناول الطعام والشراب؛ اعتقاداً منهم بأن الإجابات الصحيحة عمّا يشغلهم لن تأتي من معدة ممتلئة. وكان المنجّمون (المتنبئون) يصومون طويلاً لاستثارة الطاقات الكامنة لاستشراف رؤىً جلية. وقد أجريت دراسات مهمة بهذا الخصوص خلصت إلى أن الصوم أنفع للعقل والبدن. ولذا، فغاية الصوم التقوى، سواءً أكان فردياً أم جماعياً. والوقاية هي حفظ الإنسان مما يؤذيه ويضره.
طابع الصوم يغيّر رتابة الحياة. ويجبر المرء على قطع عاداته اليومية بفرض التزامات مختلفة يحكمها جدول زمني مختلف وصارم. وبهذا، سيجد المرء نفسه يواجه يقينه ويراجع محيطه متسلّحاً بقدرته على التحمل ومتحلياً بالصبر.
طقس الصوم من أقدم الطقوس البشرية الروحية، تمارسه الشعوب بطرق وأشكال مختلفة. ولاحظت غير دراسة أن حمية الإنسان الغذائية تقوم أساساً على الصوم من جانب. ومن جانب آخر فقبل أن يعرف الإنسان الزراعة لم يكن بمقدوره التحكم في أكله ووجباته. ولذا كان الصوم هو الثابت ووفر الطعام هو الطارئ.
يقول «أبو الطب» الإغريقي أبقراط: «إنما نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل»، وقال أيضاً: «إنك حين تمرض وتأكل فإنك بذلك تطعم المرض». والصوم كان العلاج الذي يقدّمه الفيلسوف والمؤرّخ بلوتارخ بدلاً من الدواء. وكان القبول في مدرسة العالِم الجليل فيثاغورس يتطلب الصوم 40 يوماً. أما العرب فكانوا يصومون أيام 13 و14 و15 من كل شهر.
وفي عهد الفراعنة، كان الصوم يبدأ مع طلوع الشمس حتى المغيب. وتراوحت مدّته ما بين ثلاثة أيام و70 يوماً، كان يُمنع خلالها الأكل والشرب والجماع. ويخضع خدّام المعبد لصيام صارم طوال 70 يوماً، تبدأ بأسبوع بلا ماء، ويستمرّ بأكل الخضراوات فقط وشرب الماء.
وعند متبعي الفلسفة الطاوية، هو الامتناع عن السمك واللحم والحليب والبيض، خلال فترات الصلاة والتأمل. وفي مملكة سبأ القديمة باليمن، كان الناس يصومون شهراً في السنة للتقرب من «سين» إله القمر، ويختمون الصيام بالاحتفال والذبائح والصدقات.
عند اليهود، يكون الصوم إلزامياً فقط في يوم كيبور (الغفران) وهو اليوم الذي نزل فيه النبي موسى من سيناء للمرة الثانية ومعه ألواح الشريعة، حين أعلن أن الرب غفر لليهود خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي، ويستمر ذلك الصوم 26 ساعة، وهو «أقدس أيام الأعياد والشعائر الدينية اليهودية».
ولديهم أيضاً طقوس أخرى للصيام، منها الصوم 6 أيام منذ شروق الشمس إلى غروبها. وخلالها يتقشفون ويُحجمون عن الأكل والشرب والجماع والاستحمام وتغيير الملابس والتعطر وغسل الأسنان والعمل وارتداء الأحذية. وفي العصر الحديث، أضيف التدخين وسياقة السيارة وألعاب الكومبيوتر على المحرّمات.
وهناك الصوم إحياء لذكرى؛ كصيام «غشت» و«جداليا» و«إستير». وأما في الصيام الأربعيني أو الموسوي فيصوم المتديّنون منهم 40 يوماً. والغايات من تلك الصيامات المتنوّعة التكفير عن الذنوب وطلب الرحمة والشكر على النعمة والتوبة وفك الأحزان التي تصيبهم جرّاء الهزائم في الحروب وغارات الجراد، وغير ذلك.
لدى المسيحيين يُعَد الصوم مناسبة فرح؛ لأن الإنسان فيه ينتصر على الشهوات والخطيئة، ويتقرب إلى الله طلباً للمغفرة وتحقيق الأماني، وإيماناً بيوم الحساب. وفي ممارسته فعل إماتة للنفس في سبيل بلوغ التواضع.
لا مواعيد ثابتة لصيام المسيحيين، كل كنيسة تحدد أوقاتها لرعاياها. ويعود هذا الاختلاف إلى الخلافات القديمة بين الكنائس، إلا أن ثمة صومين أساسيين، هما الصوم الصغير (نحو 40 يوماً) قبل عيد الميلاد، والصوم الكبير (نحو 50 يوماً) قبل عيد الفصح أو القيامة.
يمارَس الصوم لدى غالبية الطوائف المسيحية بالامتناع عن الطعام منذ منتصف الليل وحتى بعد منتصف النهار. وعند الإفطار لا يُسمح بتناول الطعام الدسم والأطعمة الحيوانية ومنتجاتها كالألبان ومشتقاتها، ولحوم الطيور وبيضها. وثمّة من يتّبع حمية قاسية فلا يتناول الصائمون سوى الخضار والحشائش المشوية.
وهناك جهات تسمح بأكل السمك. ومن الصائمين من يكتفي بالإحجام عن المأكولات التي يشتهونها عادة كما عن الإساءة إلى الآخرين. وعليه، لا قوانين صارمة للصيام في المسيحية، فكل حسب نواياه، وهو ما أجازته فيما بعد الكنيسة البروتستانتية. وهناك صيام السيدة (العذراء) في منتصف شهر أغسطس (آب). وهناك بعض الأفراد ممن يمسكون يومين في الأسبوع، كالأربعاء والجمعة، للتكفير عن الذنوب وإراحة الجسد من أوساخ الأطعمة الدسمة.
تجاوز الصوم في البوذية الإمساك عن الأكل والشرب إلى الصوم عن العمل، فالصوم هو جوهر التعبد. وقد اشتهر به بوذا الذي قال: «إذا أردت لروحك أن ترتقي فابتعد عن متعة الجسد». وتفرض التعاليم البوذية صوم «اليوبوزاتا»، وهو 4 أيام من كل شهر قمري، 1 و9 و15 و22 بالتوافق مع منازل القمر الأربع. ويُمنع خلالها أي عمل ما عدا التأمل.
ويقع أهم يوم للصوم في عيد «فيساخ»، بأول يوم يكتمل فيه القمر في شهر مايو (أيار) أو يونيو (حزيران)، وفي هذا اليوم، يحتفلون بذكرى ميلاد بوذا وتنويره ووفاته. وأما شعائره فتتراوح بين الراحة التأملية والصوم والكرنفالات. ويبقى الجنس والكحول وأكل اللحوم من المحظورات.
ويهدف البوذيون من خلاله إلى خلق نوع من الانضباط للمساعدة على التأمل واكتساب صحة جيدة؛ إذ إنه يساعد على كبح جماح الشهوة الجسدية التي تدفع إلى الملذات الدنيا وترمي بالبشر في مهاوي أمراض الجسد.
ويوجد في الهندوسية تقاليد زهد شديد، وأشهرها ما يمارسه «السادو» الذين يصومون حتى يصبحوا كالهياكل العظمية. وكان المهاتما غاندي من أنصار هذا النوع من الصوم. وقد قال: «لا أستطيع الاستغناء عن الصيام، كما لا أستطيع الاستغناء عن عيني. وكما ترى بالعين العالم الخارجي، ترى بالصيام العالم الداخلي».
ولدى أتباع هذه الديانة طقوس عدة في الصيام تختلف باختلاف الإله المتّبع واختلاف المناطق الجغرافية. ففي جنوب الهند يصومون من شروق الشمس إلى مغربها. ويُسمح بشرب السوائل. أما المناطق الشمالية فالمسموح فيها تناول الفاكهة والحليب فقط. وهناك ما يسمّى «صيام الفصول» وفيه يمتنعون عن تناول الطعام من غروب الشمس إلى شروقها لمدة 9 أيام في بداية كل فصل. وثمة من يصوم حسب الإله، فأتباع الإله «شيفا» يصومون الاثنين، وأتباع الإله «فيشنو» يصومون الخميس.
الإيزيديون يصومون 3 أيام، من الثلاثاء حتى الخميس. ويبدأ الصوم بالامتناع عن الطعام عند شروق الشمس ويأكلون بعد المغيب. وكان رجال الدين القدماء يمسكون ثلاثة أيام متتالية ولا يفطرون إلا في يوم العيد الذي يسمى «عيد ئيزي». وأما «صوم خودان» فهو خاص بالأولياء والنسّاك، ومن أراد ذلك من العامة وبعض الفقراء من أصحاب النذور. والصوم عند الإيزيديين نوعان: صوم عامة الناس، وصوم النخبة (رجال الدين)، ويعفى منه الأطفال والمعوّقون عقلياً والمرضى. ويستمرّ صوم النخبة، وهو اختياري، أغلب أيام السنة بما فيها أربعينيتَي الشتاء والصيف.
الصوم في القرآن الكريم مكتوبٌ على الأمم من قبل أمة الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. ويمتد الصوم طوال شهر رمضان بين استبانتي نشوء هلال القمر. ويبدأ الإمساك كل يوم مع الفجر والإفطار بعد مغيب الشمس. ولا يُحرّم أي نوع من أنواع الطعام الحلال. وينتظر المسلمون حلول رمضان كل سنة كضيف عزيز بسرور وشوق، ويتجهزون له. حيث لسيد الشهور عاداته وتقاليده وطقوسه وآدابه وفنونه. وهذه تختلف وتتشابه على امتداد العالم الإسلامي.
ففي مصر تنتشر الفوانيس، وهي عادة تعود للعصر الفاطمي، حيث كان العسكر يحملون الشموع لإضاءة الطريق للخليفة المعز لدين الله في أول رمضان. وفي السودان حين يثبت هلال رمضان تبدأ احتفالية «الزفة». وخلاله يجددون أواني المطبخ ويتبادل النساء إفطار البيوت، بينما يتناول معظم الرجال وجبة الإفطار أمام البيوت لمشاركتها مع عابري السبيل.
وفي دول الخليج العربي تُمَدّ موائد الرحمن حول المساجد، وينتشر الشباب في الطرقات لتوزيع الإفطار على العابرين عند الأذان. وفي أذربيجان، تنتشر «حقائب البركات» التي تحتوي على مبالغ مالية يضعها أهل الخير. ويحرص المسلمون في الكاميرون على عدم غلق أبواب البيوت طوال الشهر استعداداً لاستقبال أي صائم أدركه الأذان قبل الوصول إلى بيته، فيدخل للإفطار والتعارف مع إخوانه. وفي تايلاند، يقدّم طعام الإفطار للغرباء المحتاجين، ولا يقتصر تقديمه على أفراد العائلة.
وفي العراق، يدرج في شهر رمضان لعب «المحيبس»، وهي لعبة شعبية تراثية يعود تاريخها إلى الدولة العباسية.
وتركيا تستقبل شهر رمضان بفرح، فتعج شوارع مدنها بالناس، وتضيء المساجد مآذنها فيما يسمى بـ«المحيا» الذي يمتد من صلاة المغرب وحتى بزوغ الشمس. ويكون إفطار اليوم الأول في بيوت الجدات.
في المغرب، وفي اليوم السابع والعشرين من رمضان الذي تحلّ فيه «ليلة القدر»، يبدأ صيام الأطفال وتتخلّله تقاليد لتشجيع النشء الجديد على تحمّل الصوم. وفي إندونيسيا، تبدأ مراسم رمضان بقرع «البدوق». وتمنح الحكومة إجازة للطلاب في أول أسبوع. ويعود الإندونيسيون لممارسة طقس الاستحمام «بادوسان»، بغية الاستعداد للصوم والصلاة. وهي عادة كرّسها المبشّرون الأوائل بتعاليم الإسلام في جاوة.
في الهند، يرتدون الطاقية ويحيون تقليداً تراثياً يعود لأيام الإمبراطورية المغولية المسلمة، ويجوبون الأحياء فجراً لإيقاظ المسلمين على السحور. وفيما بعد أصبحت ممارسة هذا التقليد منوطة بـ«المسحراتي» في كثير من الدول. وفي ماليزيا تقوم الحكومات بتنظيف الشوارع. وفي الشيشان يزورون قبور أحبتهم. وفي اليمن يطلون المنازل، وفي سوريا عادة «التكريزة» لوداع شهر شعبان. وفي بلاد كثيرة يسمونها «الشعبنة». وأما وداع رمضان في الأردن فيُعرف بـ«التوحيش»، وفي موريتانيا يحلقون شعورهم.
إن شعيرة الصوم تحمل في مضامينها الكثير؛ فهي عبادة، وتجربة روحية وجسدية وفكرية تُكسب المؤمن سمواً وصفاءً وضبطاً للنفس، من خلال الامتناع الذي يطهّرها والإمساك الذي يعلو بالجسد. فالصوم يهذّب الروح بحرمانها مدة من الزمن من بعض ملذات الحياة، للارتقاء بها.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

TT

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)
عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)

في الثالث عشر من يوليو (تموز) الحالي، وفي تمام الساعة السادسة والربع مساء بتوقيت واشنطن، تردد طنين الأخبار العاجلة في كل أرجاء البلاد، والعالم: الرئيس السابق دونالد ترمب أُصيب بإطلاق نار في حدث انتخابي في بنسلفانيا.

ترمب المدمَّى الوجه، وقف مُحكماً قبضته أمام الكاميرات، ومشى بثبات برفقة أعضاء الخدمة السرية المسؤولين عن حمايته، فاستقلَّ سيارته متوجهاً إلى مستشفى محلي لتلقي العلاج.

لحظات صدمت الشارعين الأميركي والدولي. فمحاولة اغتيال رئيس أميركي سابق هي لحظة مخيفة، وتاريخية في الولايات المتحدة، تعيد إلى الأذهان مشاهد اغتيال رؤساء سابقين كجون كينيدي وأبراهام لينكولن، ومحاولة اغتيال رونالد ريغان، الرئيس الجمهوري السابق، وتعد تكراراً لسوابق خطيرة من الإخفاقات الأمنية لعناصر الخدمة السرية كادت تودي في هذه الحالة بحياة رئيس سابق ومرشح رئاسي.

فشل أمني «ذريع»

بمجرد اتضاح الصورة بعد مغادرة ترمب ساحة الجريمة، صُعق الجميع لدى رؤية ما جرى: منفّذ الاعتداء، الأميركي البالغ من العمر 20 عاماً ماثيو كروكس، متسللاً بوضوح فوق سطح أحد المباني القريبة من موقع الخطاب، وبيده بندقية «آر 15».

دونالد ترامب مغادراً المنصّة بعد انتهاء مؤتمر الحزب الجمهوري في ملوواكي (أ ف ب)

كروكس تمكن من الاقتراب بشكل مثير للعجب من ترمب الموجود على مسافة 140 متراً منه، وإطلاق النار قبل قنصه من أحد عناصر الخدمة السرية، فيما وُصف بأكبر خرق أمني منذ محاولة اغتيال ريغان.

ويتحدث مارك هيريرا رقيب الشرطة السابق ومدير الأمن المسؤول عن المنشآت التجارية التابعة لوزارة الأمن القومي عن الإخفاقات الأمنية المحيطة بالحادثة، فيقول في حديث مع «الشرق الأوسط» إن أحد أسباب القلق الأساسية هي المحيط الأمني. وأوضح: «لقد تمكن مطلق النار من الوصول إلى موقع مشرف على الحدث، مما يدل على تقصير شديد في حماية المحيط بشكل فعّال».

ويؤكد هيريرا أهمية توسيع المناطق المحمية قدر المستطاع خصوصاً في المناطق المرتفعة التي توفر «موقعاً استراتيجياً»، ويقول محذراً: «مواقع من هذا النوع تسمح لطلقات البندقية بإصابة أهدافها بدقة مدمرة»، على غرار ما حصل في عملية اغتيال الرئيس الـ35 جون كينيدي الذي قضى بعد إصابته بطلقات نارية وهو في سيارته إلى جانب زوجته جاكلين في ولاية تكساس في عام 1963».

عناصر من جهاز الخدمة السرية يحيطون المرشح الجمهوري دونالد ترامب وهو يدخل سيارته بعد تعرضه لمحاولة اغتيال (أ ب)

العميلة السابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كاثرين شوايت، تلفت إلى وجود «ثغرات» محتملة في خطة عناصر الخدمة السرية لحماية ترمب، وتفسر قائلة في حديث مع «الشرق الأوسط»: «سيتم النظر على وجه التحديد فيما إذا كان المحيط الأمني للمكان ضيقاً بما سمح لمطلق النار من الاقتراب. كما سيتم تقييم التقارير عن رؤيته قبل إطلاق النار لتحديد ما إذا كانت هناك فرصة ضائعة للتدخل قبل ذلك». وذلك في إشارة إلى شهادات شهود عيان في موقع الحادثة قالوا إنهم نبهوا العناصر الأمنية إلى وجود مسلح على سطح المبنى قبل إطلاق النار بدقائق، كهذا الشاهد الذي قال لشبكة (بي بي سي) إنه رأى المسلح قبل أن يطلق النار: «كنت أفكر، لماذا لا يزال ترمب يتكلم؟ لماذا لم يسحبوه من المنصة؟ ثم سمعنا 5 رصاصات...».

ويسلّط هيريرا الضوء على مشكلة أخرى وهي ردة فعل عناصر الخدمة السرية بعد إصابة ترمب، فيرى أن إخراجه من موقع الحادثة كان غير منظم «مما أدى إلى تعريضه للخطر في 3 مناسبات منفصلة»، ويشدد على ضرورة أن يكون الرد على هذه التهديدات سريعاً وحاسماً لضمان سلامة الرئيس، وهو ما لم يظهر في الرد على هذه الحادثة، على حد تعبيره.

تحقيقات واتهامات

على ضوء هذه المعطيات، تواجه الخدمة السرية ومديرتها كيمبرلي تشيتل، المرأة الثانية التي تتسلم هذا المنصب في التاريخ الأميركي، انتقادات حادة بسبب هذه الإخفاقات الأمنية، وصلت إلى حد فتح تحقيقات تشريعية بهذا الخصوص، واستدعاء تشيتل للإدلاء بإفادتها أمام الكونغرس في مواجهة دعوات لاستقالتها. ويقول النائب الجمهوري جايمس كومر، رئيس لجنة المراقبة والإصلاح الحكومي، الذي استدعى تشيتل: «هناك كثير من الأسئلة يطالب الشعب الأميركي بالحصول على أجوبة عنها».

ولا تقتصر هذه الدعوات على الجمهوريين فحسب، بل تتخطاها لتشمل الديمقراطيين على رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أوصى بفتح تحقيق مستقل بشأن الأمن القومي لتقييم ما جرى متعهداً بـ«مشاركة نتائج التحقيق مع الشعب الأميركي».

شرطيان أميركيان يقفان أمام منل توماس ماثيو كروكس المتهم بالتورط في محاولة اغتيال ترامب (رويترز)

وبانتظار هذه التحقيقات المتفرقة، فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) تحقيقه الخاص في عملية الاغتيال، وهذا ما ذكرته شوايت، مشيرةً إلى أن «إف بي آي»، التابع لوزارة العدل، والخدمة السرية، التابعة لوزارة الأمن القومي «سيعملان معاً مع وكالات فيدرالية أخرى للغوص في تفاصيل ما جرى وتشخيص نقاط الضعف». وأضافت: «هذا يتضمن مراجعة الخطط وإجراء مقابلات مع عناصر الأمن وقوات الأمن المحلية».

وتفسر شوايت، التي شمل عملها التنسيق مع الشرطة المحلية للتحقيق في حوادث إطلاق النار والرد عليها، مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي المسؤول عن الحوادث الداخلية في الولايات المتحدة، فتقول: «يعمل عناصر (إف بي آي) مع الخدمة السرية بشكل متواصل لمشاركة الاستخبارات حول التهديدات المحدقة بالأشخاص الذين يتطلبون الحماية، ويشارك المكتب بالتعاون مع عناصر الشرطة المحلية بالتخطيط للأحداث العامة»، لكنها تستطرد مشيرةً إلى أن «إف بي آي» هي الوكالة الوحيدة المسؤولة عن التحقيق في كل مرة يحصل فيها اعتداء على مسؤول فيدرالي، وتعطي مثالاً على ذلك بالتحقيقات في محاولات اغتيال الرئيسين السابقين رونالد ريغان وجيرالد فورد قائلة: «(إف بي آي) تجمع الأدلة وتحللها وعناصرها سيجرون مقابلات مع الحاضرين لوضع جدول زمني وصورة كاملة لمن كان متورطاً في الاعتداء. وفي حال اتضحت ضرورة توجيه تهم جنائية يطلب المكتب من وزارة العدل النظر في توجيه هذه التهم».

توصيات

وبانتظار هذه التحقيقات، تُجري الخدمة السرية تحقيقاتها الخاصة حول الثغرات الأمنية المحتملة، والإصلاحات التي يجب أن تُفرض للحؤول دون تكرار حوادث من هذا النوع. ويقول فيريرا إنه من الضروري جداً تعزيز تدريبات القوى الأمنية في الخدمة السرية المسؤولة عن حماية شخصيات بارزة، معتبراً أنه كان من الواضح من خلال رد فعل العناصر الموجودين حول ترمب أن بعضهم يفتقر للتدريب الكافي. ويفسر ذلك قائلاً: «لقد رأينا فريق الخدمة السرية يتردد عدة مرات ويعرّض الهدف (ترمب) للخطر. يجب تحديد الأدوار والمسؤوليات بوضوح لكل عضو في الفريق. هذا يخفف من التردد ويضمن اطّلاع الجميع على مهامهم المحددة في حال الطوارئ». ويضيف فيريرا، المسؤول عن تأمين الحماية الأمنية لمنشآت وزارة الأمن القومي التجارية: «يجب أن تمر الفرق بتمارين مكثفة، مما يعني إجراء تدريبات منتظمة وواقعية تحاكي مجموعة متنوعة من التهديدات المحتملة لضمان سرعة التصرف. كما يجب التركيز بشكل أساسي على التدريب في أجواء ضاغطة لمساعدة العناصر على الحفاظ على رباطة جأشهم واتخاذ قرارات سريعة تحت الضغط».

إخفاقات سابقة

تكرَّر على لسان الكثيرين مقارنة بين حادثة إطلاق النار على ريغان في العاصمة الأميركية واشنطن في عام 1981 التي أُصيب خلالها بجروح أدت إلى مكوثه في المستشفى لمدة 12 يوماً، وحادثة إطلاق النار على ترمب من حيث الإخفاقات الأمنية. وهذا ما قاله النائب الديمقراطي روبن غاليغو، الذي تحدث عن «أكبر فشل أمني على أعلى المستويات منذ محاولة اغتيال الرئيس ريغان».

يتفق عنصر الخدمة السرية المتقاعد تيم مكارثي مع توصيف ما جرى بـ«الفشل الأمني»، ويقول مكارثي الذي كان ضمن العناصر المكلفين بحماية ريغان، وأُصيب بطلقة نارية في صدره جراء محاولة الاغتيال: «عندما يُصاب شخص تحت حماية الخدمة السرية، فهذا يعد فشلاً لأن هذا يجب ألا يحصل». ويتابع مكارثي في مقابلة مع شبكة (إن بي سي): «قد يكون الأمر فشلاً فردياً أو من نوع آخر، لكنه فشل من دون أدنى شك. إن محاولة اغتيال ريغان كانت فشلاً أمنياً لأنه أُصيب بجراح. وما جرى مع ترمب هو فشل أمني ويجب أن ننظر إلى أسبابه».

وهذا ما تعهد به النائب غاليغو الذي قال في رسالة إلى مديرة الخدمة السرية: «لا يمكن تكرار ما جرى، وأنا أطالب بتحمل المسؤولية».

وهي ليست المرة الأولى التي تواجه فيها تشيتل انتقادات من هذا النوع، فقد سبق أن تعرضت لموجة من الانتقادات جراء أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وذلك بعد أن أصدر تحقيق فيدرالي تقريراً قال فيه إن الوكالة محت رسائل هاتفية لعناصرها خلال الأحداث، كان من الممكن لها أن تسلّط الضوء على الإخفاقات الأمنية في ذلك اليوم. وبررت الخدمة السرية سبب محو الرسائل بـ«تغيير في تقنيات النظام الهاتفي» في الوكالة.

وواجهت الوكالة انتقادات متكررة كذلك بعد دخول متسلل إلى منزل مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، الذي يتمتع بحماية عناصر الخدمة السرية في عام 2023.

وفي 2021 تأخر عناصر الوكالة 90 دقيقة في إجلاء نائبة الرئيس كامالا هاريس من موقع وجود قنبلة خارج اللجنة الوطنية الديمقراطية.

أما في عام 2014 فقد تمكن متسلل من القفز فوق سور البيت الأبيض والدخول من الباب الأمامي قبل إلقاء القبض عليه في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.

ناهيك بفضيحة دعارة في كولومبيا في عام 2012 على هامش قمة الأميركيتين شملت أكثر من 20 امرأة في فندق في «كارتاخينا» تورط فيها عناصر من الوكالة ولطخت سمعتها.

ما «الخدمة السرية»؟

لم تكن مهمة الوكالة حماية المسؤولين في بداية عهدها، فقد أسَّسها الرئيس السابق أبراهام لينكولن في الخامس من يوليو (تموز) 1865 للتصدي لتزوير العملة، وكانت حينها تحت سلطة وزارة الخزانة.

بعد اغتيال الرئيس السابق ويليام كينلي، عام 1901 وجّه الكونغرس الوكالة إلى توفير الحماية للرؤساء لتصبح الوكالة الاستخباراتية الأولى الداخلية في الولايات المتحدة، قبل أن يتم تجيير مهمة جمع الاستخبارات الداخلية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي لدى تأسيسه في عام 1908.

وبينما اقتصرت مهمة تأمين الحماية على الرؤساء فقط في بداية الأمر، عاد الكونغرس وطلب توسيع نطاقها بعد اغتيال السيناتور السابق والمرشح الديمقراطي للرئاسة روبرت ف. كينيدي في عام 1968 لتشمل عائلات الرؤساء والمرشحين للرئاسة ونوابهم.

في عام 2003 نُقل الإشراف على الوكالة من وزارة الخزانة إلى وزارة الأمن القومي، وهي تتضمن 8300 عنصر، وتصل موازنتها السنوية إلى 3.2 مليار دولار.

أسماء مشفرة

يستعمل عناصر الخدمة السرية أسماء مشفرة للرؤساء وعائلاتهم والمسؤولين الأجانب والمقرات الفيدرالية الأميركية لدى التواصل فيما بينهم. وقد بدأت هذه السياسة لأسباب أمنية قبل تشفير التواصل الإلكتروني، لتصبح اليوم تقليداً معتمداً لدى الوكالة، وهنا بعض الأسماء المعتمدة:

باراك أوباما: رينيغايد، أو المتمرد.

دونالد ترمب: موغل، أي القطب أو الشخص المهم.

جو بايدن: سيلتيك، أي الشخص من أصول أوروبية – آيرلندية.

البيت الأبيض: القصر.

الكونغرس: بانشبول، أو وعاء العصير.

البنتاغون: كاليكو، في إشارة إلى شكله الخماسي.

وزارة الخارجية: بيردز، أي أو عين الطائر.

الموكب الرئاسي: بامبو.