قد تكون المرة الأولى التي تنقل فيها السينما اللبنانية واقعاً مريراً يحدث على بعد أمتار منك وأنت كما كثيرين لا تعرف عنه شيئاً. في فيلم «هردبشت» يدخل مخرجه محمد الدايخ في عمق أحياء منطقة الأوزاعي الفقيرة، لينقل مشاهد إنسانية يتداخل فيها الخير مع الشر إلى حدّ الفوضى والضياع. واقع يحكي يوميات سكان أحد هذه الأحياء الشعبية حيث الفساد والجريمة وتجارة المخدرات والقلوب المكسورة تخيم على أجوائها.
ولا يغيب عن الفيلم الحضور السياسي والحزبي والديني، فتختلط هذه الموضوعات تلقائياً بمزاجات سكان ينتظرون الموت خلاصاً، ولكنه هو أيضاً لن يرحمهم من معاناتهم. في هذا المكان ولدوا، وهكذا عاشوا، ولم يملكوا رفاهية اتخاذ القرارات المناسبة لتحديد مصائرهم.
يشارك في هذا العمل حسين قاووق، وألكسندرا قهوجي، وفؤاد وغبريال يمين وغيرهم. أما الممثلة رندة كعدي فتجسد دور الأم التي ينطبق عليها قول «ما باليد حيلة». فتقدم شخصيتها وكعادتها بحرفية، متقنة اللهجة البيروتية الشعبية، والتصرفات والكلام والمظهر الخارجي المناسب لعائلة تعيش القهر و«التعتير».
وإذا ما بحثت عن المعنى الحقيقي لكلمة «هردبشت» لاكتشفت أنها تشير إلى الشخص الذي ينتمي لبيئة اجتماعية منحطة لا قيم فيها. وفي مكان آخر يقال إنها من أصل سرياني وتعني صاحب المظهر المهمل الذي لا سند له ولا جماعة تحميه.
المعنيان حاضران في الفيلم ويشملان جميع الأفعال التي يقوم بها أبناء الحي الواحد حتى الحميمة منها.
في 13 أبريل (نيسان) الحالي، تنطلق عروض فيلم «هردبشت» في الصالات اللبنانية. وبالمناسبة دعت الشركة المنتجة له «فينيسيا بيكتشرز» لصاحبها أمير فواز، أهل الصحافة لمشاهدته. واستضافت العرض صالات «غراند سينما» في مجمع «أ.ب.ث» الأشرفية.
وفي دردشة أجرتها «الشرق الأوسط» مع مخرجه محمد الدايخ، قبيل موعد العرض، أكد أنه يقدّم في هذا الشريط السينمائي الأول له، نموذجاً حياً عن منطقة لبنانية شعبية، موضحاً: «ما أنقله هو واقع حي عشته ورفاقي، وقد صُوّر في منطقة الأوزاعي على الساحل الجنوبي من العاصمة بيروت. وما ستشاهدونه ليس من نسج الخيال بل حقيقة قليلون منا يعرفونها».
«إنه فيلم العائلة»، هكذا أراد الدايخ تسميته واصفاً إياه بأنه نتاج حلم راهن مع أصدقائه على ولادته منذ زمن. «لقد لملمنا بعضنا بعضاً، أخوة ورفاقاً، ودخلنا هذه التجربة المبنية على طاقتنا ومجهودنا الفردي. ضحينا كثيراً من نواحٍ كثيرة لنتمكّن من إنجازه».
لأول مرة يطرح محمد الدايخ نفسه على قائمة الدراما من بابها العريض؛ فالناس عرفته مؤخراً في الكوميديا، حين أطلّ ببرنامج تلفزيوني ساخر بعنوان «تعا قللو بيزعل» عبر شاشة «إل بي سي آي». وفي الفيلم لم تغب نكهته الساخرة هذه، بل حولها إلى دراما سوداء تكمل قساوة رسائل الفيلم. ويتابع: «أنا أحب الدراما، والعمل الكوميدي الذي عرفني الناس به، كان بمثابة تقدمة لهذا الفيلم، ليتمكن المشاهدون من فهم واستيعاب الفن الذي أحاول تقديمه. فلست بوارد العمل التلفزيوني لأمد طويل لأنني أفضل السينما».
قصة الفيلم، كما يقول الدايخ، نابعة من حياته الشخصية: «هي فشة خلق بالنسبة لي، نقلت من خلالها ما عشته وأصدقائي في الضاحية الجنوبية لبيروت. فأخرجنا كل ما في داخلنا من هواجس وهموم لامسناها عن قرب في عالم (الزعرنات)».
فيلم «هردبشت»، يفطر، على مدى ساعة و45 دقيقة، القلب حزناً على شباب محرومين من أدنى حقوقهم المدنية. فهمومهم اليومية لا تدور فقط في فلك تلك التي يرزح تحتها اللبنانيون عامة من كهرباء، وماء، وغلاء أسعار ووقود، بل تتجاوزها لتطال لقمة عيشهم الملطخة بالدماء. إنهم يخافون من غد يورطهم بحاضر تحكمه شريعة الفقر.
فيلم، حين تشاهده ستخرج مستذكراً عبارة «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، لما فيه من مآسٍ تطحن مشاعرك، وتترك غصة مؤلمة ومدججة بالخجل من إنسانية لطالما تغنينا بها بيد أننا لم نترجمها يوماً على أرض الواقع.