السائح الخليجي في النمسا يفوق الجميع في حجم إنفاقه

الفروقات الثقافية في السلوك تثير سوء الفهم.. وتقسم النمساويين إلى مرحب ومنتقد

يعشق الخليجيون النمسا كبلد سياحي حباه الله بكل المقومات المطلوبة لسياحة ناجحة
يعشق الخليجيون النمسا كبلد سياحي حباه الله بكل المقومات المطلوبة لسياحة ناجحة
TT

السائح الخليجي في النمسا يفوق الجميع في حجم إنفاقه

يعشق الخليجيون النمسا كبلد سياحي حباه الله بكل المقومات المطلوبة لسياحة ناجحة
يعشق الخليجيون النمسا كبلد سياحي حباه الله بكل المقومات المطلوبة لسياحة ناجحة

يتربع السائح الخليجي على قمة هرم السياح بالنمسا. نعم قد يسبقه الألماني والروسي والصيني من حيث العدد، لكن السائح الخليجي يتغلب عليهم جميعا من حيث الإنفاق ومن حيث ما يواجهه من اهتمام، سلبا أو إيجابا.
يعشق الخليجيون النمسا كبلد سياحي حباه الله بكل المقومات المطلوبة لسياحة ناجحة، سواء من حيث الطبيعة الجميلة المتنوعة، ما بين جبال وسهول وبحيرات وجليد وربيع وصيف، أو بنية تحتية متينة، أو موقع جغرافي استراتيجي ممتاز وإمكانات ثقافية وتاريخية، بالإضافة لعاصمة ظلت متوجة ولخمس سنوات متتالية كأحسن المدن عالميا من حيث جودة المعيشة وسبل رفاهيتها وأمنها وسهولة الحركة فيها.
كل ذلك وأكثر مما يجذب السائح الخليجي، الذي وبلغة الأرقام (وكمثال فقط) قضى في فيينا خلال الفترة من يناير (كانون الثاني) مطلع هذا العام وحتى يونيو (حزيران) أكثر من ستة ملايين ليلة.
وللمعلومية، لا تعتبر الفترة المذكورة الفترة القصوى للسياح الخليجيين، والذين يبدأون في الوصول عادة من نهاية شهر مايو (أيار) وحتى شهر سبتمبر (أيلول) مع انقطاع شبه كامل خلال شهر رمضان، وذلك وفقا لمعلومات رسمية وفرها لـ«الشرق الأوسط» مكتب السياحة بمدينة فيينا. وحسب تلك المعلومات كان نصيب سياح سعوديين في تلك الفترة المذكورة 9.852 ليلة، وسياح إمارتيين 16.715 ليلة.
وحسب المعلومات ذاتها فإن 42.5 في المائة من أولئك السياح أقاموا بفنادق من فئة النجوم الـ5، فيما أقامت نسبة 43.5 في المائة بفنادق من فئة النجوم الـ4. وبينما لم تصدر بعد الإحصاءات الرسمية لحركة السياح خلال النصف الثاني من العام، فإن كل المصادر تتوقع زيادة بنسبة تفوق الـ100 في المائة في أعداد السياح الخليجيين ممن لا تخطئهم العين، هذه الأيام, في معظم المناطق السياحية بفيينا، خصوصا حول المنطقة الأولى، أو المنطقة الإمبراطورية القديمة، التي تضم في الوقت ذاته مؤسسات تسويقية وفندقية حديثة قمة في التمدن والاستعانة بوسائل التقنية.
لا يقصد الخليجيون النمسا من أجل مدينة فيينا فقط، بل يستمتعون بجمال سالزبورغ عاصمة الموسيقى الكلاسيكية، موطن المؤلف العبقري موتسارت وموقع تصوير فيلم «صوت الموسيقى»، كما يزورون غراتز وإنزبورك وبيرغنز وغيرها من المدن والأقاليم.
بدورها، تحولت مواقع سياحية أخرى تحظى بشغف خليجي صيفي لا يضاهى، كبحيرة زيل إم سي التي ترحب بالخليجيين بالعربية وتضج بهم مطاعمها وفنادقها ومتاجرها، لدرجة أن أقدم أحدهم مؤخرا على رفع أذان المغرب، بعدما استأذن فرقة موسيقية غربية، كانت تقدم فاصلا ضمن تلك العروض الفنية المشهودة في ساحات المدن، موثقا ذلك بشريط فيديو تتداوله وسائل التواصل الاجتماعي ما بين مؤيد ومعارض.
إلى ذلك، أجمعت مصادر «الشرق الأوسط» على ترحيب النمسا «الرسمية» بكل زوارها من السياح من مختلف الجنسيات، وفي مقدمتهم السياح العرب والخليجيون على وجه الخصوص، بدليل زيادة عدد السفريات الجوية المباشرة من عواصم خليجية إلى فيينا، وبدليل مضاعفة كم المنشورات الإعلامية الذي يصدر باللغة العربية يوميا، أضف إلى ذلك إنشاء مكتب سياحي نمساوي بدولة الإمارات التي يدخل مواطنوها النمسا دون تأشيرات.
بدورها، أكدت مصادر أن السائح الخليجي، ورغم ضخامة كرم إنفاقه وكثافة حضوره عاما تلو عام، فإنه لا يزال مثيرا للجدل، تلاحقه كثير من النظرات لأسباب مختلفة، منها ما هو عنصري عدائي متطرف يستهجن ويرفض كل من هو أجنبي، ناهيك عن كل من هو إسلامي.. ومنها ما يستغرب أصحابها سلوكيات خليجية، لا لكونها صوابا أم خطأ، وإنما لاختلافات ثقافية لا أكثر، ومن هؤلاء من تدهشهم لدرجة الضيق أوجه الإنفاق الخليجي، وطريقة اللبس، وكثرة عدد أفراد الأسرة، وبطء نمط الحياة ومهلة الحركة مقارنة بوتيرة حياة النمساوي السريعة والانفرادية غالبا.
وبالطبع ترحب جهات أخرى بالسائح الخليجي، كما أوضحت لـ«الشرق الأوسط» كرم أبو سماحة، الموظفة بمتجر «لوي فيتون»، التي قالت «إن تعليمات مبكرة وصارمة تصلهم من رئاسة المتجر بباريس تنبه مع بداية الصيف للاهتمام بكل رغبات الزبون الخليجي»، مؤكدة أن من مهامها «تقديم تنوير دوري لكل العاملين بالمحل عن كيفية التعامل مع الزائر الخليجي».
من جانبها، كانت ايلكا اشتروه، مسؤولة الإعلام بفندق «ريتز كارلتون»، قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» في حديث سابق على أهمية الضيف الخليجي الذي أضحى بمثابة عملة نادرة بسبب المنافسة المحتدمة بين أفخم المحال التجارية والمطاعم والفنادق داخل أهم المواقع السياحية في قلب فيينا القديم، أو ما يعرف بـ«المثلث الذهبي»، في إشارة لتلك البقعة التي ورد ذكرها من قبل، والتي تضم مقاهي ومتاجر فخمة وفنادق وشققا سكنية باهظة، كما لا تبعد سوى أمتار عن أهم المواقع الإمبراطورية السياحية، مما يتناسب تماما والذوق الخليجي، الذي لن يمل أن تتجمع احتياجاته ومتطلبات الاستمتاع بإجازة آمنة وممتعة في متناول يده، وأيادي كل أفراد أسرته بمختلف ميولهم ودون مشقة تذكر، خاصة أن تلك المنطقة محظورة أمام السيارات، مما يمنحه متعة النزهة والتجوال سيرا وعلى أقل من مهلة وبصحبة الأحباب، وفي حرية كاملة وطقس أرحم كثيرا من سخونة الخليج.
أيضًا، وطيلة موسم الصيف، تتخصص وتتفرغ قطاعات تجارية وتسويقية تتكسب من استقبال السياح الخليجيين لتقديم خدمات ضرورية تلزمهم كالترجمة من لغة البلاد الألمانية للعربية خاصة مع توسع السياحة العلاجية.
في السياق ذاته، تنشط قطاعات تعمل في توفير شقق للسكن في حال الأسر كبيرة العدد التي لا ترغب الإقامة في الفنادق، ولتوفير وتأجير سيارات بسائقيها العرب للتنقل بل السفر من منطقة لأخرى، لا سيما أن موقع النمسا الجغرافي يسمح بإطلالات سريعة على البقع السياحية بالغة الجمال، ليس في النمسا فحسب وإنما بدول الجوار سواء ألمانيا أو سويسرا أو إيطاليا أو سلوفينيا وكرواتيا والتشيك والمجر، ولا تبعد مدينة مثل براتسلافا عاصمة دولة سلوفاكيا عن فيينا سوى 63 كيلو مترا، ويمكن الوصول لها بالبحر والباصات أكثر من مرة يوميا.
كل ذلك بسبب صغر حجم النمسا، ولحرية التنقل بسبب حدود دول اتفاقية شنغن المفتوحة التي تسهل الانتقال في ظل مناظر طبيعية بالغة الجمال وطرق معبدة وسهلة توفر كل سبل الراحة.
من جانب آخر، لا تخفي جهات استياءها الشديد من تصرفات سياح خليجيين، مجاهرة بالشكوى من عدم اهتمام وقليل حرص على «الإتيكيت» السائد والعرف بل القانون النمساوي الذي يلزم الجميع باحترام قوانين المرور وشارات العبور، وعلامات الاتجاهات، والطرق المغلقة وذات الاتجاه الواحد. وتعتبر مخالفة قانونية بالنمسا أن يزيد عدد ركاب السيارة عن مقاعدها، وكذلك في حال عدم استخدام حزام الأمان أو عدم تخصيص مقعد للأطفال، أو ركن السيارة في غير المواقع المخصصة. وقد تتراوح الغرامات ما بين 110 يوروات إلى 5000 يورو. وحرصا منها على النظام توزع الشرطة تعليمات واضحة باللغة العربية.
وبينما أشاد كورت موزشي، قائد شرطة سانت يوهان إم بونغاو المجاورة، في حديث لمحطة «أو آر إف»، بابتعاد السياح العرب «بصورة عامة» عن جرائم تتعلق بالشغب والسكر، فإنه أوضح أن «45 في المائة من مخالفات قواعد المرور بالمنطقة في العام الماضي 2014 سجلت ضدهم»، مضيفا «وقاموا بتسديد الغرامات دون تردد».
في السياق ذاته، قالت مواطنة من المدينة إن السياح العرب ظرفاء وكرماء، إلا أن «قيادتهم متهورة بل كارثة»، مضيفة أنه «مما يزيد الوضع سوءا أنهم يرتكبون مخالفات في بلد يعبد سكانه القانون ويلتزمون حرفيا بتنفيذه»، وذلك «احتراما له واقتناعا به، ولجني مزيد من النظام والجمال الذي هو السبب الأساسي لعشق هؤلاء الأعراب للمنطقة».
إلى ذلك، ترتفع حدة الشكاوى من عدم التقيد بمواعيد عمل المطاعم والمتاجر، وعدم الحرص على الحديث بصوت منخفض في الأماكن العامة والحدائق والمتنزهات، وعدم الاهتمام بنظافتها وهدوئها مما يزعج النمساويين، وينفر سياحا من جنسيات أخرى تحرص المنطقة على استضافتهم لإحداث نوع من الموازنة والحفاظ على عالمية المنطقة كبقعة سياحية جاذبة للجميع.
وبينما تنتقد جهات نمساوية سياحا خليجيين لتصرفات فوضوية ولامبالاة، بدورهم يستغرب خليجيون ويتساءلون عما يدفع خليجيين لتصرفات تجلب الذم والإساءة لمجتمع بأكمله.
إلى ذلك، وجهت سيدة خليجية صوت لوم لقطاعات من النمساويين بدعوى أنهم يتوقعون أن يتصرف الآخر تماما كما يتصرفون، وأن يلبس الآخر تماما كما يلبسون، مستفسرة عن أسباب عدم حرص قطاعات نمساوية وأوروبية واسعة وتجاهلها لفهم ومعرفة الآخر، فيما يطالبون الآخر بالاندماج.
ما بين هؤلاء وأولئك أجمعت الأطراف كافة على أن التعامل الإنساني الحضاري بذوق ودون عجرفة هو الطريق الأسهل للتعامل بين الشعوب، ولقبول الآخر، وللتواصل بين الحضارات.
من جانب آخر، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة إشاعة بقيام النمسا باعتماد نظام تحديد الأعداد للسياح الخليجيين (الكوتة)، وللتأكد من المعلومة قامت «الشرق الأوسط» بالاتصال بكل الجهات المسؤولة، بما في ذلك البرلمان، وبوليس زيل إم سي، ووزارة الخارجية بفيينا. ونفت كل تلك الجهات تلك الإشاعة مؤكدة أن النمسا بلد سياحي ترحب بالجميع.
من جانبها، نظمت مجموعة إماراتية حفلاً تقليديًا بوسط مدينة باد قاستاين، دعي إليه كبار المسؤولين، وفي نهاية الحفل تم جمع تبرعات لمستشفى بالمنطقة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)