منذ أشهر والحكومة الألمانية تعمل على ورقة تحدد استراتيجية جديدة للتعامل مع الصين، لم تعلن تاريخ نشرها بعد، ولكن يُتوقع أن تُنشَر في مايو (أيار) المقبل. ورغم أن الأحزاب الثلاثة التي تشكل الحكومة الألمانية، تعهدت في البيان الحكومي بالعمل على استراتيجية جديدة تجاه الصين، فإن الخلافات داخل الحكومة حول مقاربة هذه الاستراتيجية تؤخر هذه الورقة. فحزب الخضر الذي تنتمي إليه وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، المكلفة بخط هذه الورقة، يعتمد سياسة أكثر صرامة تجاه الصين من الحزب الاشتراكي الحاكم الذي ينتمي إليه المستشار أولاف شولتس.
وبدت هذه الخلافات واضحة عندما سافر شولتس إلى بكين في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي على رأس وفد كبير من رجال الأعمال ورؤساء كبرى الشركات الألمانية. ووجهت بيربوك انتقادات مباشرة إلى شولتس لجهة توقيت الزيارة وشكلها. فهي جاءت بُعيد إعادة تنصيب الرئيس الصيني لولاية ثالثة، في احتفال وصفه الكثير من المراقبين بأنه يُظهر تمكين تشي جينبينغ قبضته على الحكم في الصين. وكان شولتس أول زعيم غربي يزور الصين بعد إعادة التنصيب تلك. ورأى كثيرون من بينهم بيربوك، أن زيارة شولتس بكين على رأس وفد أعمال ضخم، يبعث بالرسالة الخطأ في وقت تتزايد فيه الأصوات الداخلية والخارجية لألمانيا لتخفيف اعتمادها على الاقتصاد الصيني.
ورغم أن المستشار الألماني يعي ضرورة تقليص اعتماد الاقتصاد الألماني على الصيني، فهو يرفض «فصل» الاقتصادين، ويتحدث عن ضرورة إيجاد «توازن» عوضاً عن ذلك.
ولكن الإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الرسمية الألمانية تُظهر أن هذه المساواة غائبة حالياً، وأن الاقتصاد الألماني يعتمد على الاقتصاد الصيني بشكل أكبر بكثير من الحالة العكسية. وحسب مكتب الإحصاءات الفيدرالي، فإن الشركات الألمانية صدّرت واردات إلى الصين في العام 2022 بقيمة 107 مليارات يورو، ولكنها اشترت واردات صينية زادت قيمتها على 191 مليار يورو، وهذا يعني أن العجر التجاري كبير بين الطرفين. هذا رغم أن التبادل التجاري بين الصين وألمانيا ارتفع إلى نسبة قياسية العام الماضي، وجعل من الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا للعام السابع على التوالي. وبلغ حجم التبادل التجاري العام الماضي بين الطرفين قرابة الـ300 مليار يورو، في زيادة بنسبة 21 في المائة عن العام الذي سبق.
ولم تنفع التحذيرات الكثيرة لألمانيا منذ بداية الحرب في أوكرانيا، من أنها تكرر الخطأ نفسه الذي ارتكبته مع روسيا، في دفع برلين إلى تخفيض تبادلها التجاري مع بكين. وقد تكون الحرب في أوكرانيا قد تسببت بـ«نقطة تحول» في ألمانيا ودفعتها لمراجعة علاقتها مع روسيا واعتمادها الزائد عليها في تأمينها حاجتها من الغاز، ولكن يبدو أنها لم تقتنع بعد بشكل كامل بعدم تكرار الخطأ نفسه مع الصين. ويُظهر هذا التردد في الاستراتيجية الجديدة التي تعدها الحكومة وتبدو غير قادرة على الاتفاق فيها إلى أي مدى عليها أن تسعى لفصل اقتصادها عن الاقتصاد الصيني، ووقف أي قواعد.
وتسعى الأحزاب داخل الحكومة لإيجاد خط وسطيّ بين مطالب «حزب الخضر» المتشددة لجهة العلاقة مع الصين، و«الحزب الاشتراكي» الأكثر ليونة. وكان مثال محاولة استحواذ شركة «كوسكو» الصينية على جزء من مرفأ هامبورغ، انعكاساً لهذه الخلافات. فبعد انتقادات واسعة وحتى تمرد من وزراء حزب الخضر داخل الحكومة على العملية، قَبِلَ المستشار بالتراجع أخيراً وأوقف الصفقة بعد أن حدد شرطاً بالاستحواذ على حصة لا تتعدى الـ25 في المائة من حاويات المرفأ الأكبر في أوروبا، ما يعني أن الشركة الصينية المرتبطة بالدولة لن تكون لها قدرة على التصويت في قرارات تخص المرفأ.
ومثلها، فإن مسألة اعتماد ألمانيا بشكل واسع على شركة «هواوي» الصينية لبناء شبكة «5جي» لديها، دليل على استمرار ألمانيا في البحث عن فرص اقتصادية مناسبة لها من دون قياسها مقابل أمنها الوطني. وقد اعترف وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، الذي ينتمي لـ«حزب الخضر»، بأن على ألمانيا تجنب استخدام تكنولوجيا شركة «هواوي» مستقبلاً في توسيع شبكة «5جي». ولكنه أشار إلى أن ما تم تركيبه حتى الآن لن تكون سهلة إزالته.
وتعتمد ألمانيا بشكل كبير على الصين في سلسلة التوريد في الصناعات التي تنتج الطاقة النظيفة وأيضاً في صناعة السيارات. وحسب معهد البحوث الاقتصادية، فإن سلسلة التوريد الفردية تعتمد بشكل كبير على الإمدادات القادمة من الصين التي تستورد الشركات منها 65 في المائة من المواد الخام الضرورية لإنتاج المحركات الكهربائية ومولدات طاقة الرياح. وينطبق ذلك أيضاً على صناعة السيارات، إذ تعتمد 75 في المائة من الشركات الألمانية على قطع غيار من الصين، بينما تعتمد تكنولوجيا الهندسة الميكانيكية على الصين في 55 في المائة من موادّها. وفي المقابل، تُظهر إحصاءات معهد «روديوس غروب» الاقتصادي، أن الشركات الألمانية الكبرى استثمرت بشكل كبير في الصين، وأن 34 في المائة من الاستثمارات الأوروبية المباشرة بين العامين 2018 و2021 جاءت فقط من 4 شركات لتصنيع سيارات هي: «فولكسفاغن» و«بي إم إف» و«دايملر»، وشركة «باسف» للصناعات الكيميائية. وحسب موقع «ستاتيستا» للإحصاءات، فإن شركات «فولكسفاغن» و«بي إم إف» و«دايملر»، تبيع 4 من كل 10 سيارات جديدة تُنتجها، إلى الصين.
ولكن حتى هذه الشركات الأوروبية التي تستثمر في الصين، تعمل ضمن أطر محكمة ومشددة. وحسب إحصاء لغرفة التجارة الأوروبية العام الماضي، فإن الشركات الأوروبية العاملة في الصين تواجه تقييدات كبيرة وتمييزاً مقارنةً بالشركات الصينية. وتجبَر هذه الشركات الأوروبية على الدخول في مشاريع مشتركة مع شركات صينية وتمنَع من الوصول في بعض القطاعات إلى أسواق معينة ويتم تحديد دورها في القطاع المالي.
ويشكل غياب التوازن في التعامل مع الشركات الأوروبية داخل الصين، إلى جانب اعتماد الشركات الألمانية بشكل كبير على الاقتصاد الصيني، قلقاً كبيراً للبعض الذين يَدْعون لاستراتيجية أكثر تشدداً مع الصين. وزادت هذه الأصوات مؤخراً بعد ارتفاع التوتر حول تايوان والمخاوف من أن الدول الغربية قد تضطر لفرض عقوبات على الصين في حال اتخاذها أي خطوة عسكرية تجاه الإقليم. وتتخوف ألمانيا تحديداً من تأثير هكذا عقوبات على اقتصادها، تماماً كما كانت تتخوف من تأخير العقوبات الأوروبية على روسيا التي كانت تزوّدها بأكثر من 60 في المائة من حاجتها من الغاز الطبيعي.
وفي أغسطس (آب) الماضي، كتب نوربرت روتغن، النائب عن الحزب المسيحي الديمقراطي الذي تنتمي إليه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، أن السياسة الألمانية تجاه الصين تخدم منذ مدة طويلة مصالح الشركات الكبرى. ورأى روتغن الذي ترشح لخلافة ميركل في زعامة الحزب وفشل، في مقال على موقع «بزنس إنسايدر»، أنه سيكون «من السذاجة الاعتقاد بأن تشي جينبينغ لن يستخدم هذا السلاح في وجهنا في حال حدوث أي صراع».
ورغم أن ألمانيا تستخدم العلاقات التجارية منذ نهاية الحرب العالمية كوسيلة لمد تأثيرها الإيجابي في العالم، وهو المبدأ الذي اعتمدته في علاقتها الاقتصادية مع روسيا واكتشفت متأخرة أنها خاطئة، فإن الصين أيضاً لا يبدو أنها تنظر إلى العلاقات الاقتصادية مع ألمانيا بالطريقة نفسها. وقد كشف الرئيس الصيني تشي جينبينغ عن هذه النيات في مقال كتبه في نوفمبر من العام 2020، في مجلة «كيوشي» الشيوعية الصينية، يقول فيه إن على الصين تقوية موقعها في الصناعات الكبرى وعليها أن تجعل الشركات الغربية تعتمد على الإمدادات الصينية في هذه القطاعات، مضيفاً أنه عندها يمكن للصين أن تتخذ «خطوات انتقامية» ضد الغرب في حال اضطرت لذلك.
ورغم إصرار المستشار الألماني على عدم فصل الاقتصاد الألماني عن الصيني، فهي تعي جيداً الحاجة للبحث عن أسواق جديدة، وقد قال خلال مشاركته في قمة اقتصادية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: «يجب استمرار التجارة مع الصين ولكن علينا أيضاً أن نتأكد من أننا نتمتع بعلاقات تجارية مع بقية العالم».
حتى الآن، لا يبدو أن ألمانيا جادة في سعيها للبحث عن أسواق بديلة. ولكن استراتيجية الحكومة المنتظرة حول الصين قد تطرح أفكاراً تشجع الشركات على ذلك، أو حتى تجبرهم على وضع سقف للاستثمارات والتجارة مع الصين. هذا إذا نجحت الأحزاب الثلاثة التي تشكل الحكومة الائتلافية في تخطي خلافاتها والاتفاق على استراتيجية موحدة بعيدة الرؤية وتتفادى تكرار أخطاء الماضي.
هل تقوم برلين بخطوات لفصل اقتصادها عن بكين كما فعلت مع الغاز الروسي؟
الحرب الأوكرانية تسببت بـ«نقطة تحول» بخصوص علاقتها مع موسكو ودفعتها لمراجعة حساباتها
هل تقوم برلين بخطوات لفصل اقتصادها عن بكين كما فعلت مع الغاز الروسي؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة