زهير الذوادي: الثقافة التونسية بدأت تتعافى من الخطر «الإخواني»

يرى أن أزمة المثقف تكمن في تراجع تأثير الفكر النقدي

الباحث التونسي زهير الذوادي
الباحث التونسي زهير الذوادي
TT

زهير الذوادي: الثقافة التونسية بدأت تتعافى من الخطر «الإخواني»

الباحث التونسي زهير الذوادي
الباحث التونسي زهير الذوادي

حصل الباحث التونسي زهير الذوادي على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة السوربون بفرنسا، وعمل سفيراً لتونس لدى العديد من البلدان الأفريقية والآسيوية والأوروبية، وله العديد من المؤلفات المهمة التي تتناول تاريخ تونس والحركة الإصلاحية التحديثية التونسية والعربية الإسلامية، ومنها «الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي ومسألة الاستبداد»، و«الخروج من نسق الدولة الدينية»، و«نقد الفكر الجهادي»، و«إصلاح الفقهاء»، و«صناعة الرعب»، وهو أحدث إصداراته.
على هامش زيارته أخيراً للقاهرة، هنا حوار معه حول المشهد الثقافي والفكري في تونس ارتباطاً بالتغيرات السياسية في البلد، ودور المثقف النقدي في مواجهة تأثيرات الفكر الديني المتزمت، ومشكلات الثقافة العربية عموماً.
> ما هي ملامح أزمة الثقافة والمثقف في العالم العربي برأيك؟
- حالياً يواجه المثقف العربي وضعاً مأزوماً إلى درجة غير معهودة، يكمن في تراجع تأثير الفكر النقدي في الثقافة العربية، بداية من تأثير الفكر الديني المحافظ والماضوي من ناحية، وتراجع منطق الالتزام الفكري في ممارسة وأعمال رموز الثقافة والفن من ناحية أخرى، هذا إلى جانب هشاشة وركاكة المشاريع الثقافية للدولة الوطنية التي أصبحت في بعض جوانبها تعتمد الترفيه بدل التثقيف، والقبول بالرداءة والاستهلاك بدل الامتياز والإبداع، فضلاً عن ضمور المشاريع الفكرية والنقدية الكبرى والملهمة من الساحة الثقافية العربية، وتسرب المنطق التجاري والسلعي لقطاعات الإنتاج الفكري والثقافي والإعلامي، وتراجع مكانة المثقف بالمجتمع في خضم التحولات التي عرفها، ناهيك بالاقتصاد والسياسة، ومجالات التواصل الاجتماعي والاتصالي.

> ما هي الحلول التي تراها إذن؟
- الحقيقة أنه على ضوء التجربة التي عرفتها البلدان المتقدمة «الغرب والشرق الآسيوي» تبقى مجالات تدخل المثقف العربي واسعة ولا متناهية، شريطة التجذر في توظيف التراكم المعرفي، وربطه بجذوره الفلسفية والواقعية، مع الالتزام بروح النقد والإبداع دائماً. فلا يمكن أن نفشل حيث نجح غيرنا. والمسألة هنا رهينة المبادرة والمثابرة.
> لكن ماذا عن الحالة الثقافية في تونس تحديداً؟
- شكل المجال الثقافي في تونس ميداناً للصراع بين الحداثيين وأنصار المشروع الإخواني، وقد تحول ذلك إلى قلعة صمود، رغم تسلل بعض الإداريين التابعين للإسلام السياسي إلى بعض الهيئات أو المواقع المؤثرة، محاولين اختراق الهياكل الثقافية، وجمهورها من خلال بعض المثقفين المتكيفين أو «المطبعين» مع الوضع الذي نتج عن أحداث 2011، أما عن القطاع الثقافي التونسي فيتعافى اليوم من الخطر الإخواني، لكنه يواجه تحديات جديدة، منها غياب المشروع الوطني الجديد في المجال الثقافي وعلاقته مع تقييم البرامج السابقة لسنة 2011 واللاحقة لها، وضعف الدعم المالي العمومي بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية والمالية السائدة في البلاد، الأمر الذي يضعف دعم الدولة للفاعلين والمتدخلين والمبدعين.
> وماذا على صعيد الفنون؟
- هناك نجاحات باهرة في مجال السينما، بخلاف قطاع الأغنية، وهناك تراكم في مجال الرواية والنقد والقصة القصيرة في مقابل الشعر الذي لا يزال رغم تزايد الإنتاج يفتقد قامات بارزة جديدة. أما قطاع النشر فهو «الرجل المريض» الذي ما انفك يتخبط في صعوبات خانقة.
> ما أثر حركة «النهضة» على أجهزة المؤسسات الثقافية التونسية؟ وما سر الفوضى النسبية وسط النخب الحداثية ما بعد بورقيبة؟!
- بعد سنة 2011 عرف المثقفون الحداثيون في تونس تحديين: الأول يتمثل في فقدان السند السياسي الذي كانت توفره الدولة لمشروع التحديث (رغم أنه كان قسرياً)، والثاني تنامي الخطر ضد مشروع الحداثة الذي ظهر مع وصول الإسلام السياسي للسلطة، وتنامي تأثيره في المجتمع، لذلك تبعثرت جهود الفصائل المثقفة الحداثية، وارتبكت تحت تأثير المحاصرة التي فُرضت عليها من طرف خصومها المفكرين والسياسيين والأكاديميين الذين غزوا منابر الإعلام والنشر، مدعومين من بعض المثقفين، غربيين ومسلمين وعرب، وقد أحدث ذلك شرخاً عميقاً في جسد نخبة مهشمة بفعل التسلطية السياسية السابقة ليناير (كانون الثاني) 2011، والمترددة إزاء قوة الهجمة الآيديولوجية والثقافية المتأسلمة والقادمة من المشرق ومن مراكز دعمها الجيوسياسي القادم من الغرب.
> لكن ألا ترى بارقة أمل للخروج من هذا الوضع؟
- هناك حراك يقاوم آيديولوجية الإسلام السياسي، وقد أفرز شيئاً فشيئاً جمهوراً مدنياً وتحررياً شكل في نهاية الأمر عبر «اعتصامات باردو 2013» حزام أمان للمشروع المجتمعي المدني والتقدمي وقيمه الحداثية، وساعد على تراكم جهود الأعمال الفكرية والنضالات المدنية التي شرعت في الانصهار التدريجي، مبشرة على المدى المتوسط بآفاق واعدة قادرة على تجاوز مواطن الضعف في أعمال النخبة خلال بعض الانحرافات التي أضرت الفكر والنشاط المجتمعي، وكان مصدرها بعض أفكار منظورة ليبرالية الفوضى الخلاقة والثورات المصطنعة، والتي مفادها أن الإسلام السياسي أصبح قوة ديمقراطية وثورية وحداثية، وأن التحالف معه ومساندته والانصياع له أمر مفيد تاريخياً ومجتمعياً وفكرياً، وهو ما يشكل طعنة قاتلة لمشروع التحرر الوطني والاجتماعي والثقافي الذي يشكل القاعدة الأساسية لعمل الدولة الوطنية.
> تحدثت في كتابك «إصلاح الفقهاء» عن جهود الفقيه التونسي شيخ جامعة الزيتونة، محمد الطاهر بن عاشور ودوره في مجال الحقوق المشروعة للمرأة... كيف تنظر الآن لما تحقق في هذا المجال؟
> وبرأيك، ما المكاسب في فترة ما بعد الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي؟
- في زمن الرئيس بورقيبة وبن علي تحقق الكثير من المكاسب في صالح المرأة التونسية، لكن بعد سنة 2011 تعرضت لبعض مخاطر التراجع، لكن يقظة قوى المجتمع المدني، والحركة النسوية التونسية نجحت في التصدي لها، بل عززت بعض المكاسب من خلال تكريس آليات التناصف في كل أصناف الانتخابات، وآليات التمييز الإيجابي في بعض المناصب السياسية والإدارية على أساس الكفاءة، والمسألة تبقى ثقافية ومجتمعية في الأساس؛ أي إنها لا تزال تحتاج إلى دعم ومساندة لمواجهة الدعوات المحافظة المشدودة إلى قيم الماضي المتزمتة. إن ربط الحركات النسوية العربية بعضها بعضاً على مستوى أنشطتها وبرامجها وتوافقاتها الفكرية يمكن أن ينتج تصورات مشتركة لمفهوم عمل حداثي وتقدمي لتحرير المرأة العربية والإسلامية في إطار التفاعل الإيجابي والمدروس مع تيارات الفكر والثقافة والنضال النسوي التقدمي في العالم.
> في كتابك «صناعة الرعب» تحدثت عن الذهنية المحرّكة للممارسة الإرهابية... كيف ترى هذه الذهنية؟
- بخصوص ذهنية الإرهابي فهي متمحورة حول إلحاق الضرر بالغير، سواء كان «المجتمع أو الدولة»، وذلك ليس نتيجة مرض نفساني، كما أنه لا يندرج تحت سطوة غريزة الموت أو العدوان أو التدمير، وإنما يأتي تكريساً لمبدأ الانشقاق والتمرد على المجتمع بهدف إصلاحه أو تغييره أو معاقبته وفق نظرة استعلائية وسلطوية واستبدادية تنبع من أولوية مصالح ومعتقدات أصحابها في الدنيا «والآخرة»، ومن دونية الباقي، وذهنية الإرهابي تنطلق من قدسية خيارها ورفعة شأنه المعنوي، خصوصاً إذا اقتحمت مجال ممارسة «الرعب ضد الرعب» حسب عبارة جان بودياز، وممارسة «الانتحار» على أساس «الشعور بالذنب، والشعور بالعجز»، حسب عبارة فتحي بن سلامة، وحيث يصبح التحدي قاعدة للسلوك يكون الموت ردّاً على الموت.
> لكن ما هي الأسس التي تقوم عليها ذهنية الإرهابي؟
- تقوم على اعتبار أنه ينتمي إلى طليعة الأفاضل، وهو أحد عناصر «الفرقة الناجية» أو الملة المختارة والمنتصرة آجلاً أو عاجلاً، أو ملة شعب الله المختار «اليهودية»، أو جماعة المؤمنين «المسيحية»، وهي ذهنية قطيعة مع المجتمع على أساس أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، والرأي الصواب. ولا تعرف ذهنية الإرهابي صلة بمبادئ التسامح والديمقراطية، وحق الاختلاف؛ لذلك فهي مقدمة للاستبداد في المجتمعات، كما أنها نتيجة له في مستوى كل من الآيديولوجيا أو التنظيم الذي يساعد على تكوينها وإفرازها، وترافق ذهنية الإرهابي ثقة ميتافيزيقية في حتمية النصر الذي تحتمه إرادة ربانية أو حتمية تاريخية، في حين أن الهزيمة تجعل الإرهابي أكثر عزلة في المجتمع وأكثر دموية ويأساً، الأمر الذي يسقط كل إمكانية للحوار والتفاوض السياسي معه.
> لكن على ماذا تتأسس هذه الدموية ورفض الحوار؟
- على كونه يرى نفسه مؤمناً صادقاً، ما يجعله منفتحاً على فكرة التضحية بالنفس، حسب عبارة ايريك هوفنز في كتابه «المؤمن الصادق»، من هنا لا يقبل التفاوض أو التجادل أو الحوار، وهو لذلك منتج لممارسة مطلقة للشر، ويظل في قطيعة مطلقة مع الواقع، وكل ما يخالف عقيدته؛ أي «العقيدة الأبدية» المفرزة لذهنية «اللاتفاعل» التي ترفض نصف الحلول أو المراجعة للمواقف.


مقالات ذات صلة

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

ثقافة وفنون «البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

فاز الروائي الفرنسي لوران موفينييه بجائزة الغونكور إحدى أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا عن روايته «البيت الفارغ» (دار نشر مينوي).

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق محمد سلماوي يلقي كلمته في معرض الشارقة للكتاب (إدارة المعرض)

محمد سلماوي: المثقفون العرب قادرون على التأثير

قال الكاتب المصري محمد سلماوي إن «الهوية القومية العربية شرط لوجودنا، والثقافة كانت وستظل دوماً عنوان هويتنا العربية».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد.

ندى حطيط
كتب «سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ

منى أبو النصر (القاهرة)

فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايته «فلِش»

الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
TT

فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايته «فلِش»

الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)

فاز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي الاثنين بجائزة بوكر البريطانية المرموقة التي تكافئ الأعمال الروائية المكتوبة باللغة الإنكليزية، عن روايته «فلِش».

وتفوق سالوي (52 عاما) على الروائية الهندية كيران ديساي التي فازت بالجائزة عام 2006 والبريطاني أندرو ميلر، ليحصل على الجائزة البالغة قيمتها 50 ألف جنيه استرليني (65500 دولار) والتي أعلنت في حفلة بلندن. ومن بين الروائيين الستة الذين تأهلوا الروائية الأميركية وراقصة الباليه السابقة كاتي كيتامورا وبن ماركوفيتس وسوزان تشوي.

وكان سالوي رشِح سابقا للقائمة القصيرة للجائزة عام 2016 عن عمله «آل ذات مان إز». وتدور رواية «فلِش»، وهي السادسة لسالوي، حول رجل مجري من الطبقة العاملة ينتقل من الخدمة العسكرية في وطنه إلى العمل مع أثرى الأثرياء في لندن. وتشمل حياته المعذبة علاقاته بنساء أكبر منه سنا والقتال في العراق.

وتضمنت لجنة التحكيم رئيسها والفائز السابق بالجائزة رودي دويل والممثلة سارة جيسيكا باركر بطلة مسلسل «سكس أند ذي سيتي».


بجسدٍ معطّل وعقلٍ لمّاح... غسان جبرا يُنجز كتاباً يروي رحلته مع الضمور العضلي

أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
TT

بجسدٍ معطّل وعقلٍ لمّاح... غسان جبرا يُنجز كتاباً يروي رحلته مع الضمور العضلي

أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)

«علمياً وطبياً، لا يجب أن أكون على قيد الحياة. لكن لأنني أحب الحياة فأنا على قيدها، وهذا أعظم إنجازاتي». إنها حكمة غسان جبرا الذي بدأ جسده بالتلاشي قبل أن يبلغ الـ10 من عمره. اليوم، على مشارف الـ40، ما زال الشاب السوري اللبناني يبتسم للحياة من على كرسيّه الكهربائي النقّال المحصّن بأجهزة التنفّس.

الضمور العضلي الذي يعانيه منذ الطفولة لم يهزم ابتسامته ولا فكرَه. فثاني أعظم الإنجازات في رصيده حتى اليوم، كتابٌ نشره قبل أشهر بعنوان «كلمة على ورق». سيرةُ حياةٍ غير اعتيادية رواها جبرا دامجاً ما بين أحداث مفصلية طبعت مشواره، ومعانٍ روحية وإنسانية استقاها من تلك الرحلة المحفوفة بالآلام والآمال.

«كلمة على ورق» تجربة حياة استثنائية يرويها غسان جبرا (الشرق الأوسط)

في بيته الثاني، جمعيّة «أنت أخي» اللبنانية، حيث يقيم ويتلقّى الحب والرعاية والعلاج، عمل جبرا على كتابه خلال 5 سنوات. وبما أنه لا يستطيع تحريك سوى عينَيه وشفتَيه، أملى ذكرياته وخواطره وأفكاره على معاونين ومتطوعين سكبوها على الورق، ثم أعادوا صياغتها.

«أجمل أيام حياتي كان اليوم الذي تلقّيت فيه النسخة الأولى من الكتاب، واكتملت الفرحة خلال حفل التوقيع في معرض بيروت للكتاب»، يخبر جبرا «الشرق الأوسط». في الحفل الذي حضره رفاق غسان وأقرباؤه وزملاؤه في الجمعية وشخصيات إعلامية وثقافية، شعر وكأن الإنجاز ليس فردياً بل لكل فردٍ من عائلة «أنت أخي».

من حفل توقيع كتاب غسان جبرا في معرض بيروت العربي والدولي (جمعية أنت أخي)

طفلاً، بدأت ملامح الضمور العضلي تظهر على غسان. كان يسقط أرضاً ويفقد تدريجياً قدرته على المشي. ومع مرور السنوات وتعطّل العضلات واحدةً تلو أخرى، انتقل إلى مؤسسة «سيسوبيل» التي تعنى بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ومنها لاحقاً إلى «أنت أخي»، حيث تبدّلت الاحتياجات مع تفاقم الإعاقة.

في تلك الآونة، أصبح غسان جبرا أسير الكرسيّ إلا أن أجنحةً بدأت تنبت له. «سقطت كل الأقنعة في المؤسسة. تجرّدت من كل شيء وصرتُ أنا. أصبحت قادراً على أن أتكلّم أكثر عن طفولتي وما عدت أخجل من أصولي السورية ولا من فقري. تحررتُ من نفسي»، يروي الشاب في كتابه. وقد حصل ذلك بفضل التنشئة الحياتية والروحية التي بدأ يتلقّاها.

اختبر غسان جبرا ولادة جديدة في جمعية «أنت أخي» (صور الجمعية)

«تعلّمتُ من خلال التنشئة ألّا أركّز على ما فقدت، بل على ما أملك. وأكبر طاقة موجودة لديّ ولدى كل إنسان، هي طاقة الحب التي لا يستطيع أي شيء أن يمسّ بها، ولا حتى الإعاقة». قد يصعب على كثيرين التصديق أنّ هكذا كلام صادرٌ عن شابٍ لم يعرف من الحياة سوى الألم الجسدي، والبقاء رهينة كرسيّ نقّال طيلة العمر. بين نفَسٍ وآخر يسحبه من أنبوب الأوكسيجين المعلّق بكرسيّه، يقول جبرا: «عندما أدركت ما هي رسالتي على هذه الأرض، تمسكت بالحياة وأردت أن أساعد غيري على المستوى الروحي».

يقضي الضمور العضليّ على كل عضلة في الجسد، بما في ذلك الرئتَان والقلب. أما المصابون به فينخفض متوسط العمر لديهم وغالباً ما يفارقون الحياة في سن الشباب، على غرار ما حصل مع شقيق غسان. كان وقعُ رحيل أخيه (غريب) ثقيلاً عليه، ثم جاء التحدّي الأصعب الذي أدخله في دوّامة من الكآبة والإحباط؛ «حين ما عاد باستطاعتي مضغ الطعام وصار عليّ تناوله مطحوناً، لم أتقبّل الأمر»، يخبر جبرا. إلا أنّ قصة حبٍ جمعته برفيقة له في المؤسسة كانت حبل الخلاص الذي أخرجه من الدوّامة، إذ استطاعت الفتاة إقناعه بأسلوب الأكل الجديد.

مع أحد رفاقه في حفل التوقيع الكتاب (جمعية أنت أخي)

اليوم، لا يملك غسان جبرا سوى صوته المتقطّع للتعبير عمّا يكتنز عقله وروحه. له أيضاً عينان تصّران على الابتسام. أما باقي أعضاء جسده فمعطّل. لا يستطيع أن يقوم بأي شيءٍ بمفرده، لا الأكل ولا الاستحمام ولا التقاطَ غرضٍ ما، وهو يمضي معظم يومه مستلقياً على السرير. لذلك، فإنّ مرافقاً يلازمه ليل نهار، وقد تحوّل هذا الارتباط الوثيق والحيوي بالمرافقين إلى درس حياة بالنسبة إليه، إذ طوّر من خلاله علاقته بالآخرين.

إلا أن أكثر ما حفر في غسان وصنع منه إنساناً جديداً يحلّق بفِكره وروحه فوق جماد الكرسيّ والعضل الذابل، التنشئة الروحية والإنسانية التي تلقّاها في «أنت أخي». تستند التنشئة إلى مبادئ وحقائق وجودية على غرار: «الله يحبني كيفما كنت». يقول غسان إن هكذا حقائق تحولت إلى حصانة في حياته بوجه الصعوبات. وهو صار حالياً جزءاً أساسياً من برنامج التنشئة هذا، بما أنه أحد أهم الشهود على ثمارها.

«لديّ حصة ثابتة في برنامج التنشئة حيث أنقل خبراتي الحياتية والروحية إلى أشخاص أصحّاء ومن ذوي الاحتياجات الخاصة كذلك»، يوضح جبرا.

يهوى غسان جبرا لعبة طاولة الزهر ويحلم بتأسيس مقهى (جمعية أنت أخي)

لديه إيمانٌ راسخ يعبّر عنه في يومياته وفي الكتاب، بأن الحياة حمّلته رسالة يؤدّيها. «فهمت أن رسالتي هي أن أشهد أن الحياة جميلة وتستحق أن نعيشها بالرغم من صعوباتها وتعقيداتها. عندما يرى الآخر أنني سعيد في حياتي، يساعده ذلك على أن يستمر في حياته، كما أفعل أنا». يتابع: «لديّ هدف وحلم أحققه، وهو أن أعكس الفرح والسلام لكل من يراني. علّمتني التنشئة الوجودية أن أعرف دوري ورسالتي في الحياة».

ما زالت الأحلام كثيرة في بال غسان. «أولاً أريد أن أدخل كتاب غينيس كأول شخص يعيش أكبر عدد من السنوات وهو في الحالة هذه». حلمٌ آخر يراوده، بما أنه عاشقٌ للعبة طاولة الزهر أو النرد، فهو يرغب في تأسيس مقهى تراثي يلعب فيه الروّاد النرد، ويتبادلون الأحاديث الإنسانية، ويستمعون إلى تجربته الاستثنائية التي حرمته تحريك الحجارة إلا أنها رمت له زهرَ البصيرة والارتقاء الروحي.


«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

دومينيك مويسي
دومينيك مويسي
TT

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

دومينيك مويسي
دومينيك مويسي

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود المفكر الفرنسي البارز دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد «انتصار العواطف: الجغرافيا السياسية في عصر الاستياء والغضب والخوف». وإذا كان الأول تشخيصاً وتحذيراً، فالأخير يبدو كشهادة استسلام حزينة؛ فالعواطف لم تعد مجرد عامل مؤثر، بل لقد «انتصرت»، والعالم اليوم أقرب بكثير إلى «سيناريو أسوأ الحالات» الذي كان قد تخيله سابقاً.

يأتي «انتصار العواطف» في لحظة فارقة، تتزامن مع عودة الحرب إلى أوروبا، وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، وتشظي السياسات الداخلية في الديمقراطيات الغربية. يقدم مويسي، الذي يصف نفسه بأنه «واقعي قادر على المثالية»، إطاراً جديداً لفهم هذا العالم المضطرب، متجاوزاً التحليلات التقليدية القائمة على المصالح والقوة العسكرية، ليغوص في محيط المشاعر الجمعية التي، من وجهة نظره، باتت المحرك الرئيسي للأحداث.

ينطلق من فرضية أن الخريطة العاطفية للعالم قد تغيرت وأصبحت أكثر قتامة وتعقيداً. ففي عام 2009، كان «الأمل» قد ملأ آسيا الصاعدة، فيما استحكم «الإذلال» في العالم العربي الإسلامي، وانتشر «الخوف» في الغرب. أما اليوم، فقد تضاعفت هذه المشاعر وتداخلت، وولدت مشاعر أكثر بدائية مثل «الغضب والاستياء، إن لم يكن الحنق والكراهية».

لمواكبة هذا التحول، يقترح النظر إلى العالم بوصفه نظاماً عالمياً ثلاثي الأقطاب، لا يقوم على الجغرافيا الصرفة، بل على حالة عاطفية مشتركة: غرب عالميّ -يضم أميركا الشمالية وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية- تهيمن عليه مشاعر الخوف ويبحث عن طرائق للتكيّف، وشرق عالمي –الصين وروسيا ومعهما دول مارقة في المفهوم الغربي مثل كوريا الشمالية وإيران- تسيطر عليه مشاعر الإذلال والغضب، وجنوب عالمي -يضم القوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل ودول أفريقيا- تتصارع فيه مشاعر الأمل والاستياء.

الغرب لم يعد مركز العالم كما كان عليه الحال لقرون. إنه خائف ويتوجس من تراجع نفوذه، وتحديات الهجرة وتغير المناخ، ولكنه مرعوب أكثر من تفككه الداخلي بسبب الاستقطاب السياسي وصعود الشعبوية.

أما الشرق فأُمم تستخدم شعور الإذلال التاريخي سلاحاً لتبرير سياساتها العدوانية -وفق المؤلف دائماً- داخلياً وخارجياً، فيما الجنوب يشعر بالتفاؤل إزاء مستقبله الاقتصادي والديمغرافي، لكنه في الوقت ذاته مستاء بشدة من الغرب بسبب الإرث الاستعماري وازدواجية المعايير التي يراها في النظام الدولي الحالي.

ولعل قوته الأساس تكمن في لغة وأسلوب الصياغة الشخصي الجذاب. فهو لا يتردد في مشاركة المتلقي حكاياته وتجاربه، من نقاش حاد في سنغافورة حول «القيم الآسيوية» إلى إدراكه المفاجئ بعد غزو أوكرانيا أن أصوله ليست «يهودية روسية» بل «يهودية أوكرانية». هذه اللمسات الشخصية تجعل مُنتجه مقالاً طويلاً وممتعاً أكثر منه دراسة أكاديمية جافة، وتمنح أفكاره وزناً إنسانياً يتجاوز مجرد التحليل الجيوسياسي.

كما ينجح ببراعة، في تشخيص أزمة الغرب الداخلية، خصوصاً الانقسام العميق في الولايات المتحدة. تحليله للعلاقة بين هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، واقتحام الكابيتول في 6 يناير (كانون الأول) 2021.

كما يقدم رؤية ثاقبة لكيفية تحول التهديد الخارجي إلى وقود للاستقطاب الداخلي، ووصفه إسرائيل بأنها «طليعة ما يعرّض النموذج الديمقراطي الغربي للخطر» هو كذلك ملاحظة جريئة وقوية من كاتب يهودي.

لكنَّ هذا الأسلوب الشخصي قد يُرى أيضاً بعين التقييم الأكاديمي على أنه مصدر ضعف، إذ يبدو أحياناً تجميعاً لردود فعل مؤلفه العاطفية الداخلية في شكل مكتوب. فالتحليل يعتمد بشكل كبير على انطباعاته ومشاعره، مع غياب شبه تام للأدلة المنهجية أو البيانات المسحية التي تدعم تعميماته الواسعة المطلقة.

يتزامن الكتاب مع عودة شبح الحرب الباردة وتصاعد التوتر بين أميركا والصين وتشظي السياسات الداخلية في الديمقراطيات الغربية

وهنا تحديداً تبرز إشكالية التعميم كأكبر عيب في طروحاته. فهل يمكن حقاً اختزال مشاعر مليارات البشر فيما يسمى «الجنوب العالمي» في كلمتي «الأمل والاستياء»؟ وهل كل دول «الشرق العالمي» غاضبة بنفس الدرجة ولنفس الأسباب؟ إن هذا التبسيط المفرط يخاطر بتحويل كتل بشرية وحضارات معقدة إلى مجرد رسوم كاريكاتورية عاطفية، وهو ما يُضعف من القوة التحليلية للإطار الذي يقترحه، رغم أهميته كمكوّن -على مستوى ما- من مكونات الصورة الكليّة.

العيب الآخر هو المركزية الغربية الواضحة. على الرغم من اعترافه بتراجع هيمنة الغرب، فإن مويسي يظل أسيراً لسردياته. يصف زيلينسكي -الرئيس الأوكراني- بأنه «شبيه تشرشل»، ويرى الحرب في أوكرانيا صراعاً أخلاقياً واضحاً بين ثنائية شديدة التبسيط بين خير وشر، بينما يتعامل مع استياء الجنوب العالمي من الاستعمار على أنها عاطفة طفولية يجب تجاوزها. هذا التحيز، غير المقصود على الأرجح، يجعل من الصعب في مكان أن يكون جسراً حقيقياً لفهم وجهات نظر الآخرين، بل يكرس «الطلاق العاطفي» الذي يسعى لوصفه.

في الخلاصة، «انتصار العواطف» نتاج مهم ومستفز فكرياً، ينجح في التقاط روح العصر المضطرب الذي نعيشه، إذ يبدو أن الهويات والانفعالات تتفوق على النقاشات العقلانية. إنه نافذة ممتازة على عقلية النخبة الليبرالية الأوروبية وهي تحاول فهم عالم يخرج عن سيطرتها، ويتفلت من هيمنتها التاريخية.

ومع ذلك، لا ينبغي قراءته على أنه دليل موضوعي لفهم الجغرافيا السياسية. فضعفه المنهجي وتحيزاته الكامنة يجعلان منه أداة تحليلية محدودة القيمة. ربما يكون الإرث الأكبر له أنه هو نفسه دليل على الظاهرة التي يصفها؛ فهو عمل انتصرت فيه السردية العاطفية للمؤلف على التحليل المنهجي الصارم. «انتصار العواطف» لا غنى عنه لقراءة وفهم نوازع القلق الغربي المعاصر، ولكنه قاصر عن تقديم فهم عميق ومتوازن لبقية العالم.

The Triumph of Emotions: Geopolitics in an Age of Resentment, Anger and Fear

By Dominique Moïsi, Polity Press 2025