زهير الذوادي: الثقافة التونسية بدأت تتعافى من الخطر «الإخواني»

يرى أن أزمة المثقف تكمن في تراجع تأثير الفكر النقدي

الباحث التونسي زهير الذوادي
الباحث التونسي زهير الذوادي
TT
20

زهير الذوادي: الثقافة التونسية بدأت تتعافى من الخطر «الإخواني»

الباحث التونسي زهير الذوادي
الباحث التونسي زهير الذوادي

حصل الباحث التونسي زهير الذوادي على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة السوربون بفرنسا، وعمل سفيراً لتونس لدى العديد من البلدان الأفريقية والآسيوية والأوروبية، وله العديد من المؤلفات المهمة التي تتناول تاريخ تونس والحركة الإصلاحية التحديثية التونسية والعربية الإسلامية، ومنها «الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي ومسألة الاستبداد»، و«الخروج من نسق الدولة الدينية»، و«نقد الفكر الجهادي»، و«إصلاح الفقهاء»، و«صناعة الرعب»، وهو أحدث إصداراته.
على هامش زيارته أخيراً للقاهرة، هنا حوار معه حول المشهد الثقافي والفكري في تونس ارتباطاً بالتغيرات السياسية في البلد، ودور المثقف النقدي في مواجهة تأثيرات الفكر الديني المتزمت، ومشكلات الثقافة العربية عموماً.
> ما هي ملامح أزمة الثقافة والمثقف في العالم العربي برأيك؟
- حالياً يواجه المثقف العربي وضعاً مأزوماً إلى درجة غير معهودة، يكمن في تراجع تأثير الفكر النقدي في الثقافة العربية، بداية من تأثير الفكر الديني المحافظ والماضوي من ناحية، وتراجع منطق الالتزام الفكري في ممارسة وأعمال رموز الثقافة والفن من ناحية أخرى، هذا إلى جانب هشاشة وركاكة المشاريع الثقافية للدولة الوطنية التي أصبحت في بعض جوانبها تعتمد الترفيه بدل التثقيف، والقبول بالرداءة والاستهلاك بدل الامتياز والإبداع، فضلاً عن ضمور المشاريع الفكرية والنقدية الكبرى والملهمة من الساحة الثقافية العربية، وتسرب المنطق التجاري والسلعي لقطاعات الإنتاج الفكري والثقافي والإعلامي، وتراجع مكانة المثقف بالمجتمع في خضم التحولات التي عرفها، ناهيك بالاقتصاد والسياسة، ومجالات التواصل الاجتماعي والاتصالي.

> ما هي الحلول التي تراها إذن؟
- الحقيقة أنه على ضوء التجربة التي عرفتها البلدان المتقدمة «الغرب والشرق الآسيوي» تبقى مجالات تدخل المثقف العربي واسعة ولا متناهية، شريطة التجذر في توظيف التراكم المعرفي، وربطه بجذوره الفلسفية والواقعية، مع الالتزام بروح النقد والإبداع دائماً. فلا يمكن أن نفشل حيث نجح غيرنا. والمسألة هنا رهينة المبادرة والمثابرة.
> لكن ماذا عن الحالة الثقافية في تونس تحديداً؟
- شكل المجال الثقافي في تونس ميداناً للصراع بين الحداثيين وأنصار المشروع الإخواني، وقد تحول ذلك إلى قلعة صمود، رغم تسلل بعض الإداريين التابعين للإسلام السياسي إلى بعض الهيئات أو المواقع المؤثرة، محاولين اختراق الهياكل الثقافية، وجمهورها من خلال بعض المثقفين المتكيفين أو «المطبعين» مع الوضع الذي نتج عن أحداث 2011، أما عن القطاع الثقافي التونسي فيتعافى اليوم من الخطر الإخواني، لكنه يواجه تحديات جديدة، منها غياب المشروع الوطني الجديد في المجال الثقافي وعلاقته مع تقييم البرامج السابقة لسنة 2011 واللاحقة لها، وضعف الدعم المالي العمومي بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية والمالية السائدة في البلاد، الأمر الذي يضعف دعم الدولة للفاعلين والمتدخلين والمبدعين.
> وماذا على صعيد الفنون؟
- هناك نجاحات باهرة في مجال السينما، بخلاف قطاع الأغنية، وهناك تراكم في مجال الرواية والنقد والقصة القصيرة في مقابل الشعر الذي لا يزال رغم تزايد الإنتاج يفتقد قامات بارزة جديدة. أما قطاع النشر فهو «الرجل المريض» الذي ما انفك يتخبط في صعوبات خانقة.
> ما أثر حركة «النهضة» على أجهزة المؤسسات الثقافية التونسية؟ وما سر الفوضى النسبية وسط النخب الحداثية ما بعد بورقيبة؟!
- بعد سنة 2011 عرف المثقفون الحداثيون في تونس تحديين: الأول يتمثل في فقدان السند السياسي الذي كانت توفره الدولة لمشروع التحديث (رغم أنه كان قسرياً)، والثاني تنامي الخطر ضد مشروع الحداثة الذي ظهر مع وصول الإسلام السياسي للسلطة، وتنامي تأثيره في المجتمع، لذلك تبعثرت جهود الفصائل المثقفة الحداثية، وارتبكت تحت تأثير المحاصرة التي فُرضت عليها من طرف خصومها المفكرين والسياسيين والأكاديميين الذين غزوا منابر الإعلام والنشر، مدعومين من بعض المثقفين، غربيين ومسلمين وعرب، وقد أحدث ذلك شرخاً عميقاً في جسد نخبة مهشمة بفعل التسلطية السياسية السابقة ليناير (كانون الثاني) 2011، والمترددة إزاء قوة الهجمة الآيديولوجية والثقافية المتأسلمة والقادمة من المشرق ومن مراكز دعمها الجيوسياسي القادم من الغرب.
> لكن ألا ترى بارقة أمل للخروج من هذا الوضع؟
- هناك حراك يقاوم آيديولوجية الإسلام السياسي، وقد أفرز شيئاً فشيئاً جمهوراً مدنياً وتحررياً شكل في نهاية الأمر عبر «اعتصامات باردو 2013» حزام أمان للمشروع المجتمعي المدني والتقدمي وقيمه الحداثية، وساعد على تراكم جهود الأعمال الفكرية والنضالات المدنية التي شرعت في الانصهار التدريجي، مبشرة على المدى المتوسط بآفاق واعدة قادرة على تجاوز مواطن الضعف في أعمال النخبة خلال بعض الانحرافات التي أضرت الفكر والنشاط المجتمعي، وكان مصدرها بعض أفكار منظورة ليبرالية الفوضى الخلاقة والثورات المصطنعة، والتي مفادها أن الإسلام السياسي أصبح قوة ديمقراطية وثورية وحداثية، وأن التحالف معه ومساندته والانصياع له أمر مفيد تاريخياً ومجتمعياً وفكرياً، وهو ما يشكل طعنة قاتلة لمشروع التحرر الوطني والاجتماعي والثقافي الذي يشكل القاعدة الأساسية لعمل الدولة الوطنية.
> تحدثت في كتابك «إصلاح الفقهاء» عن جهود الفقيه التونسي شيخ جامعة الزيتونة، محمد الطاهر بن عاشور ودوره في مجال الحقوق المشروعة للمرأة... كيف تنظر الآن لما تحقق في هذا المجال؟
> وبرأيك، ما المكاسب في فترة ما بعد الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي؟
- في زمن الرئيس بورقيبة وبن علي تحقق الكثير من المكاسب في صالح المرأة التونسية، لكن بعد سنة 2011 تعرضت لبعض مخاطر التراجع، لكن يقظة قوى المجتمع المدني، والحركة النسوية التونسية نجحت في التصدي لها، بل عززت بعض المكاسب من خلال تكريس آليات التناصف في كل أصناف الانتخابات، وآليات التمييز الإيجابي في بعض المناصب السياسية والإدارية على أساس الكفاءة، والمسألة تبقى ثقافية ومجتمعية في الأساس؛ أي إنها لا تزال تحتاج إلى دعم ومساندة لمواجهة الدعوات المحافظة المشدودة إلى قيم الماضي المتزمتة. إن ربط الحركات النسوية العربية بعضها بعضاً على مستوى أنشطتها وبرامجها وتوافقاتها الفكرية يمكن أن ينتج تصورات مشتركة لمفهوم عمل حداثي وتقدمي لتحرير المرأة العربية والإسلامية في إطار التفاعل الإيجابي والمدروس مع تيارات الفكر والثقافة والنضال النسوي التقدمي في العالم.
> في كتابك «صناعة الرعب» تحدثت عن الذهنية المحرّكة للممارسة الإرهابية... كيف ترى هذه الذهنية؟
- بخصوص ذهنية الإرهابي فهي متمحورة حول إلحاق الضرر بالغير، سواء كان «المجتمع أو الدولة»، وذلك ليس نتيجة مرض نفساني، كما أنه لا يندرج تحت سطوة غريزة الموت أو العدوان أو التدمير، وإنما يأتي تكريساً لمبدأ الانشقاق والتمرد على المجتمع بهدف إصلاحه أو تغييره أو معاقبته وفق نظرة استعلائية وسلطوية واستبدادية تنبع من أولوية مصالح ومعتقدات أصحابها في الدنيا «والآخرة»، ومن دونية الباقي، وذهنية الإرهابي تنطلق من قدسية خيارها ورفعة شأنه المعنوي، خصوصاً إذا اقتحمت مجال ممارسة «الرعب ضد الرعب» حسب عبارة جان بودياز، وممارسة «الانتحار» على أساس «الشعور بالذنب، والشعور بالعجز»، حسب عبارة فتحي بن سلامة، وحيث يصبح التحدي قاعدة للسلوك يكون الموت ردّاً على الموت.
> لكن ما هي الأسس التي تقوم عليها ذهنية الإرهابي؟
- تقوم على اعتبار أنه ينتمي إلى طليعة الأفاضل، وهو أحد عناصر «الفرقة الناجية» أو الملة المختارة والمنتصرة آجلاً أو عاجلاً، أو ملة شعب الله المختار «اليهودية»، أو جماعة المؤمنين «المسيحية»، وهي ذهنية قطيعة مع المجتمع على أساس أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، والرأي الصواب. ولا تعرف ذهنية الإرهابي صلة بمبادئ التسامح والديمقراطية، وحق الاختلاف؛ لذلك فهي مقدمة للاستبداد في المجتمعات، كما أنها نتيجة له في مستوى كل من الآيديولوجيا أو التنظيم الذي يساعد على تكوينها وإفرازها، وترافق ذهنية الإرهابي ثقة ميتافيزيقية في حتمية النصر الذي تحتمه إرادة ربانية أو حتمية تاريخية، في حين أن الهزيمة تجعل الإرهابي أكثر عزلة في المجتمع وأكثر دموية ويأساً، الأمر الذي يسقط كل إمكانية للحوار والتفاوض السياسي معه.
> لكن على ماذا تتأسس هذه الدموية ورفض الحوار؟
- على كونه يرى نفسه مؤمناً صادقاً، ما يجعله منفتحاً على فكرة التضحية بالنفس، حسب عبارة ايريك هوفنز في كتابه «المؤمن الصادق»، من هنا لا يقبل التفاوض أو التجادل أو الحوار، وهو لذلك منتج لممارسة مطلقة للشر، ويظل في قطيعة مطلقة مع الواقع، وكل ما يخالف عقيدته؛ أي «العقيدة الأبدية» المفرزة لذهنية «اللاتفاعل» التي ترفض نصف الحلول أو المراجعة للمواقف.


مقالات ذات صلة

يوسا في بغداد: «هذا ليس حسناً يا سيدي!»

كتب ماريو فارغاس يوسا

يوسا في بغداد: «هذا ليس حسناً يا سيدي!»

استمع يوسا على هامش جولاته عبر العراق لأشخاص ممن سُجنوا أو تعرضوا للتعذيب فترة الحكم البعثي وزار سجن «أبو غريب».

ندى حطيط (لندن)
كتب ديفيد دويتش

المسكونون بشغف الأسئلة

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية

لطفية الدليمي
كتب هانز كونغ

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين

هاشم صالح
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
ثقافة وفنون «ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

«ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

حين يقرر الإنسان السفر، تراوده مشاعر القلق والترقب، لكنه يجد في التجربة مغامرةً وتجديداً

حمدي العطار (بغداد)

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف
TT
20

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

حين يقرر أحد رجال المال والأعمال العرب أن يكتب مذكراته، عادةً ينطلق من هدف مُعلن مفاده نقل خبراته وتجاربه للأجيال الأحدث، ما يظهر جلياً في مذكرات شخصيات مصرية مثل محمود العربي أو رؤوف غبور، أو حتى في نصائح وشذرات تركها طلعت حرب رائد الاقتصاد المصري. لكن رجل الأعمال المصري المعروف صلاح دياب ينطلق في تدوينه لسيرته الذاتية من بُعدٍ إضافي إلى جانب نقل الخبرة: الشغف.

ففي مذكراته الصادرة عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة تحت عنوان «هذا أنا»، في 2025، تبدو فكرة الشغف بالكتابة والرغبة في البوح هي المحرك الأساسي الذي دفعه لتسجيل مشوار حياته، عبر محطات متباينة بعضها يشكل قصصاً ملهمةً. أما البعض الآخر فأسماه «تجارب لم تكتمل»، وهي تجارب عدّها «دروساً مرتفعة التكلفة».

صلاح دياب هو صاحب ما يمكن اعتباره إمبراطورية من الأعمال المتشعبة، وبرغم ذلك يطرح تساؤلاً مبدئياً حول السبب الذي دفعه لكتابة مذكراته: «لست زعيماً سياسياً ملهماً، أو نجماً سياسياً يجتذب الأضواء، أو مصلحاً اجتماعياً يتأمل الناس سيرته، أو مجدداً يتتبع الجمهور مسيرته».

لكنه في الوقت ذاته يحرص على تعريف القارئ بنفسه في كلمات سريعة؛ فهو حلواني ومزارع ورجل بترول ومستثمر عقاري وناشر وكاتب. خاض الكثير من المعارك، خصوصاً حين بدأ عام 2012 في كتابة عموده اليومي بجريدة «المصري اليوم» تحت اسم مستعار «نيوتن»، وبعد 8 سنوات من كتابة المقال اليومي اضطُر للإفصاح عن شخصيته؛ إثر حملة تعرض لها بعد مقال نشره حول اللامركزية وسيلةً لإحداث طفرة اقتصادية، واجه بسببه اتهامات من أوساط صحافية بالترويج لأفكار «انفصالية».

ولد صلاح دياب في 4 فبراير (شباط) عام 1944 لعائلة من محافظة الشرقية في دلتا النيل، واختارت الأسرة له اسم خاله الذي رحل عام 1942 في حادث أليم.

وتحكي المذكرات عن الجذور البعيدة للعائلة، والدور الذي قام به جده في الثورة العرابية (1882) والحكم عليه بالإعدام، ثم تحديد إقامته في قريته بعد عفو من الخديو توفيق.

يتضح الشغف بالكتابة منذ مفتتح المذكرات برسالة يوجهها الكاتب إلى جده توفيق دياب (1886 - 1963)، صاحب جريدة «الجهاد»، التي كانت في فترة ما لسان حال حزب «الوفد»، وربما كان هذا الشغف، الذي تربى صلاح دياب في كنفه، هو ما دفعه لاستعادة تجربة جدّه (لأُمِّه) في إصدار جريدة يومية هي «المصري اليوم»، بمشاركة رجال أعمال آخرين، وحققت الجريدة صدى واسعاً في الأوساط الصحافية بمصر.

وإذا كانت بعض المذكرات، خصوصاً في الغرب تعتمد على «فلسفة الاعتراف» التي ركّزها جان جاك روسو (1712 - 1778) في مفهوم «الحب الشخصي»، بمعنى حب الذات والارتقاء بها عبر البوح بأدرانها سعياً للتخلص من عبئها، فإن هذه الفلسفة تكاد تكون محدودةً في العالم العربي، نظراً لخصوصية القيم التي تحكمه.

ورغم أن فلسفة الاعتراف حضرت في بعض الأعمال النادرة مثل مذكرات سعد زغلول، الذي لم تمنعه مكانته السياسية المرموقة، كرمز لثورة 1919 في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي، عن الاعتراف بإدمانه القمار، ومحاولته التخلص من هذه العادة السيئة، فقليلاً ما يظهر أنموذج مشابه.

وفي حين يجعل صلاح دياب في مذكراته «الاعتراف والصراحة من مبادئ البوح»، فقد قرر الكتابة بنفسه، مؤكداً أن من يعرفونه عن قرب «سيصدقون كل ما يكتبه»، لأنهم يدركون أنه يمتلك من العفوية أو «التهور» ما يجعله يقول كل شيء وأي شيء، حسب تعبيره.

مدفوعاً بالرغبة في الاعتراف، تحدث دياب عن فترة الشباب، ومخالفاته التي ارتكبها خلال التحاقه بالكلية الفنية العسكرية، حتى تعرضه للحبس والفصل منها، ومحاولة التوسط لدى المشير عبد الحكيم عامر لإعادته للكلية دون جدوى، ثم توجهه للدراسة في كلية الهندسة، ولا ينكر بعض الانفلات في سلوكه بمرحلة الشباب، وفي الوقت نفسه شهدت هذه الفترة أول عمل حقيقي يتولاه وهو طالب، ويحكي كيف نجح في هذا العمل، الذي كان دافعاً لنجاحات أخرى لاحقة.

لا ينفي صلاح دياب الأزمات التي تعرض لها منذ الصغر، بداية من تربيته في بيت جده بعيداً عن الأب والأم اللذين انفصلا، وصولاً إلى فترات شبابه الأولى من خلال ما يعرّفه بأنه مجموعة من الأرستقراطيات. لم يخلُ بعضها من أزمات وخسارات فادحة.

يبدأ بالأرستقراطية الاجتماعية التي انتمى إليها بحكم تعليمه الأساسي في المدرسة الإنجليزية، ثم الأرستقراطية الريفية في مزرعة جده، ثم الأرستقراطية العسكرية الأكاديمية، ثم أرستقراطية السجن.

وبجملٍ لا تخلو من المرارة، يحكي صاحب المذكرات عن تعرضه للسجن، ويشرح بالتفصيل طريقة القبض عليه ووضع الأصفاد في يديه وتصويره بهذه الهيئة، ويشير إلى أن «التهمة الباطلة التي كانت بانتظاره ظاهرياً» هي ضبط سلاح بدون ترخيص في منزله، في حين أن الرسائل التي وصلته قبلها ولم ينتبه لها كانت مرتبطة باتهامات للجريدة التي أسسها.

كما يحكي صاحب المذكرات عن ظروف الإفراج عنه، وعن لقاءين جمعاه بالرئيس المصري استمر أحدهما لثلاث ساعات، والجهود التي بذلها مع رجال أعمال آخرين في صندوق «تحيا مصر» الذي أنشأته الدولة لدعم الاقتصاد.

مغرم صاحب المذكرات بالمفارقات، فهو يرى في الصدفة فرصة تبحث عمن يحسن توظيفها، ويرى في المحنة منحة لمن يتمكن من الاستفادة منها في التعلم والتأمل، ومن هذا المنطق يحكي عن الكثير من المشروعات الكثيرة، التي خاض غمارها و«معظمها لم ينجح». وفي أكثر من موضع يبدو كأنه يرفع شعار مؤسس «علي بابا» جاك ما، في الكتاب الذي يضم خلاصة خبرته؛ وعنوانه «لا تستسلم أبداً» يشرح مقصده.

يعتقد دياب أن فكرة الكتابة لم تنبت لديه من الفراغ أو لمجرد التأثر بجدّه، بل تتصل بعلاقاته الوثيقة بكبار الكتاب مثل أنيس منصور ومصطفى أمين ويوسف إدريس وعلي سالم وغيرهم. وحكى كيف بدأت فكرة عمود «نيوتن» بالتعاون بينه وبين عبد الله كمال، فكان دياب يقدم الفكرة وكمال يصوغها بأسلوبه الرشيق.

وصاغ صلاح دياب أكثر من فكرة حول فلسفة الحياة وقوة الإرادة، والتعامل مع الدين بأريحية ونظرة فلسفية عميقة، من خلال شخصية «نيوتن»، وهي أفكار أعادها في مذكراته أيضاً بوصفها قناعات آيديولوجية تدفعه للبوح كتابة.