الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

عدد جديد من مجلة «الإسلام في القرن الحادي والعشرين»

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي
TT
20

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

كرّست هذه المجلة الباريسية المرموقة عددها الأخير لموضوع واحد، هو «الجهاد في الإسلام». وقد شاركت فيه نخبة من الباحثين والباحثات. افتتح العدد رئيس رابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين البروفسور الجزائري الأصل الدكتور صادق بلوصيف. وقد جاء في افتتاحيته للعدد الجديد ما فحواه: كلمة الجهاد أصبحت ترعب الكثيرين وتحدث في نفوسهم الكثير من المخاوف والهلوسات. فما هي حقيقة الأمر؟ ما هي حقيقة الجهاد؟ هل كلمة الجهاد حربية صراعية عسكرية؟ هل الجهاد نوع من «صدام الحضارات» قبل الأوان؟ أسئلة كثيرة متلاحقة يضطر المرء إلى طرحها، بل ويطرحها الكثيرون على أنفسهم، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. ولكن الجميع ينسون أن الجهاد في الإسلام يعني مجاهدة النفس ومقاومة انحرافاتها وتقويم اعوجاجها وتعويدها على الفضيلة ومكارم الأخلاق. وهذا هو الجهاد الأكبر في الإسلام. ولكن لا أحد يتحدث عنه. الجميع مهووسون بالجهاد الأصغر: أي الجهاد الحربي العسكري. كلنا مشغول بالجهاد الخارجي وننسى الجهاد الداخلي: أي مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء.
ثم يختتم رئيس التحرير افتتاحيته قائلاً ما معناه: هكذا تجدون أننا ابتعدنا كثيراً عن المفهوم الأصلي للجهاد الأكبر، والذي يعني كما قلنا مجاهدة النفس ونزعاتها الشريرة؛ بغية إصلاحها وتحسينها وتدريبها على الفضائل. وهذا ما ينصح به الإسلام كل مسلم. هذا ما يعلمنا إياه الإسلام دين السلام والتعايش والتعارف بامتياز. جاء في الذكر الحكيم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13). هنا يكمن جوهر الإسلام العظيم الذي شوّهوه، وينبغي أن يدفعوا ثمن هذا التشويه يوماً ما.
وقد ابتدأ الكلام الباحث المعروف أسامة حسن بدراسة مطولة اتخذت عنواناً لافتاً، هو «كيف يمكن تخليص الإسلام من الإسلاموية». المقصود كيف يمكن تخليصه من الاتجاهات الجهادية المتعصبة والدموية على طريقة «داعش» و«القاعدة»، إلخ. وقد أنهى الباحث الإسلامي مداخلته بعبارة فاجأت الجميع، وهي أن الجهاد في جوهره وأساسه مفهوم سلمي لا عنفي.
ولكن يبقى صحيحاً القول بأن الجهاد حُرّف عن معناه الحقيقي وتحول على أيدي المتطرفين الدواعش إلى تفجيرات دموية مرعبة ولم يعد مسالماً على الإطلاق. ولهذا السبب ينبغي تحرير الإسلام من الإسلاموية. فالإسلام في جوهره دين الرحمة والشفقة والمغفرة. ولكن اتجاهات متعصبة سطت على الإسلام في السنوات الأخيرة واحتكرته لصالحها وكأنها الممثل الوحيد له في حين أنها تشويه له. ولهذا السبب ينبغي تخليصه من براثنها.
أما الدراسة الثانية في العدد، فهي مكرّسة للتحدث عن مناضلي الجهاد الفرنسي، عن منشئهم السوسيولوجي الاجتماعي، عن آيديولوجيتهم، عن مساراتهم الشخصية أو الفردية، إلخ. وقد كتبها الباحث المعروف التونسي الأصل حكيم القروي بالإضافة إلى الباحث بنيامين هودايا.
وانتهى العدد بدراسة ثالثة كتبتها البروفسورة والمحللة النفسانية المعروفة حورية عبد الواحد. وقد تحدثت فيها عن كيفية تحويل أطفال «داعش» إلى مسلحين قتلة مرعبين في حين أنهم كانوا أطفالاً أبرياء. بمعنى آخر، لقد حوّلوهم من ضحايا إلى جلادين.

منطق الأصولية الإسلاموية

ننتقل الآن إلى كلام سكرتيرة التحرير إيفا جانادان، الباحثة المختصة المتبحرة في العلم والدراسات الإسلامية. فماذا تقول لنا يا ترى عن موضوع الجهاد؟ إنها تتحدث عن نظرية الجهاد قائلة ما معناه: لكي نفهم عقيدة الجهاد جيداً، فإنه لمن الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار رأي كبار الفقهاء في القرون الوسطى الذين قسّموا العالم إلى قسمين: دار الإسلام/ ودار الحرب التي تدعى أيضاً دار الكفر. وهذا التقسيم الثنائي أو الثنوي يرتكز على الفرضية التي تقول بأن الإسلام سيعمّ العالم كله يوماً ما وأن شريعته ستحلّ محل جميع الشرائع وأنه لا يمكن أن يوجد حكم شرعي مرضي عند الله على وجه الأرض إن لم يكن إسلامياً. وهذا يعني أن أرض الإسلام بالمعنى الديني كما السياسي للكلمة مفتوحة لا حدود لها. ولكن بانتظار أن يعمّ الإسلام العالم كله فإن الفقهاء اضطروا إلى تقسيم المعمورة إلى قسمين: أرض الإسلام والطهر/ وأرض الحرب والكفر. وبين هذين القسمين ينبغي أن تستمر الحرب حتى يتحقق الانتصار الكلي والنهائي للإسلام على بقية العقائد والأديان. ثم تردف الباحثة قائلة: ضمن هذا المنظور خلع فقهاء القرون الوسطى المشروعية الإلهية على الجهاد الحربي العنيف.
ننتقل الآن إلى المداخلة القيّمة التي كتبها الباحث الإنجليزي ولكن العربي السعودي الأصل الدكتور أسامة حسن. وهذا الباحث لمن لا يعرفه ذو مسار مدهش حقاً وغير متوقع على الإطلاق. فقد كان أصولياً جهادياً قبل أن ينقلب إلى مسلم مستنير! ينبغي العلم أنه كان في شبابه الأول ولمدة عشرين سنة على الأقل مناضلاً حركياً من أتباع الخط السلفي الراديكالي. بل وحتى عندما كان لا يزال طالباً في جامعة كمبردج فإنه شارك فعلياً في عمليات الجهاد ضد القوات الشيوعية في أفغانستان (9019 - 1991). ولكن على أثر التفجيرات الإرهابية التي أصابت ميترو لندن عام 2005، فإنه غيّر موقفه جذرياً وراح يناضل ضد التطرف والتعصب الديني. بل وراح ينخرط في خط الإصلاح الإسلامي المستنير ويروّج له داخل البيئات والحلقات الإسلامية. وهناك شيء آخر لا نعرفه عنه، وهو أنه خدم كإمام جامع لمدة 40 سنة على الأقل. وهو مشبّع بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وبقية النصوص الإسلامية المقدسة. وقد ترجم العديد من هذه النصوص إلى لغة شكسبير. كما وساهم في تأليف كتاب جماعي بعنوان «أهل الكتاب: كيف يفهم اليهود والمسيحيون والمسلمون نصوصهم المقدسة» (2019). وأخيراً، ينبغي العلم أنه المحلل الفكري والسياسي والاستراتيجي الأول «لمعهد توني بلير للتغيير العالمي». ماذا يقول هذا الباحث الخبير المطلع من الداخل على شؤون الحركات الأصولية وشجونها؟ إنه يقول لنا ما معناه: أن منطق الأصولية الإسلاموية يرتكز إلى أربع مسلّمات: الأولى هي أن مسلمي العالم كله يشكلون الأمة الإسلامية بصفتها أمة عالمية موحدة تقف في مواجهة جميع الأمم الأخرى غير المسلمة. وهم يعتمدون على مفهوم أساسي ذاع صيته وانتشر، هو: الولاء والبراء. بمعنى أن ولاء كل مسلم هو لصالح الإسلام والمسلمين الآخرين فقط. وبالتالي، البراء من جميع من هم غير مسلمين من أتباع الأديان والفلسفات والعقائد الأخرى. أما المسلّمة الثانية، فتقول بضرورة تشكيل دولة الخلافة الإسلامية التي تضم جميع مسلمي الأرض والتي لا تعترف بالحدود الحالية الكائنة بين الدول الإسلامية كالسعودية ومصر والمغرب، إلخ. كل هذه يعتبرونها حدوداً مصطنعة. وأما المسلّمة الثالثة، فتقول بضرورة تطبيق الشريعة كقانون وحيد لدولة الخلافة الإسلامية. ينبغي تطبيقها بما فيها الحدود البدنية كقطع يد السارق وجلد شارب الخمرة ورجم المرأة المخطئة، إلخ. إنهم يطبّقون تفسيرهم الأصولي للشريعة بشكل حرفي على جميع رعايا المملكة الإسلامية حتى ولو كانت مضادة بشكل صارخ للمفاهيم الحديثة لحقوق الإنسان. وأما المسلّمة الرابعة، فتقول بضرورة توسيع رقعة الدولة الإسلامية أكثر فأكثر بواسطة الجهاد. وهم يقصدون الجهاد الحربي الدموي فقط؛ لأنهم يجهلون كلياً الجهاد الأكبر الذي تحدثنا عنه سابقاً أو يتجاهلونه. ضمن هذا المعنى، فإن الأصوليين الإسلامويين يستخدمون الجهاد كأداة فعالة وفتاكة لإرهاب الآخرين وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية.

فتوى ماردين

يقول لنا هذا الباحث الضليع المطلع بأنه اجتمع في مدينة ماردين التركية أكثر من اثني عشر عالماً إسلامياً كبيراً وأعلنوا إدانتهم للتطبيق المتطرف لفتوى شهيرة كان ابن تيمية قد أصدرها في المدينة ذاتها قبل سبعة قرون. لقد شوّه الجهاديون الدمويون فتوى شيخ الإسلام التي تقول حرفياً «يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُعامل الخارج على شريعة الإسلام بما يستحقه». فأصبحت على أيدي المتطرفين المعاصرين: تنبغي «محاربة» غير المسلمين بالطريقة التي يستحقونها! وهكذا شوّهوا فتوى ابن تيمية أو قُلْ حرفوها عن طريق إحلال كلمة «محاربة» أو «مقاتلة» محل كلمة «معاملة». ثم يخبرنا الباحث بأن الجماعات التكفيرية كانت منذ سنوات الستينات من القرن الماضي تستخدم هذه الفتوى المحرفة كأداة فعالة وفتاكة لتبرير اعتداءاتها الدموية على الآخرين. كما واستخدموها ضد الأنظمة العربية والإسلامية القائمة بحجة أنها مرتدة عن الإسلام، وبالتالي فيحق شرعاً إسقاطها واغتيال قادتها لأنهم لم يعودوا مسلمين في نظرهم! وهكذا بلغ التطرف بالجهاديين الدمويين مبلغه... ولكن لحسن الحظ، فإن فتوى ماردين الجديدة أعادت الأمور إلى نِصابها وقالت حرفياً «فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في ماردين لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسكاً أو مستنداً لتكفير المسلمين والخروج على حكامهم، بل هي فتوى تحرّم كل ذلك». ثم أردفت فتوى ماردين الجديدة قائلة بأن العالم كله ينبغي أن يصبح أرض سلام وتسامح وتعايش بين مختلف الأديان والأقوام والمذاهب دون استثناء. وكل هذا متوافق مع جوهر الآية القرآنية الكريمة المذكورة سابقاً «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى....» إلخ. وهذا ما أعلنته أيضاً وثيقة الأخوة الإنسانية الموقّعة في أبوظبي من قِبل بابا روما وشيخ الأزهر بحضور الشيخ محمد بن زايد (بتاريخ 4 فبراير (شباط) 2019). وهذا ما أعلنته أيضاً وثيقة مكة المكرمة الموقّعة من قِبل أكثر من 1200 عالم إسلامي كبير (بتاريخ 30 مايو (أيار) 2019). وقد حصل ذلك في ظل القيادة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين وللأمير محمد بن سلمان، الذي هو قائد نهضوي وتنويري عربي كبير.
ولكن ماذا فعل المتطرفون الظلاميون؟ لقد رفضوا هذا الانفتاح الفكري والديني الكبير الذي حصل في ماردين وأبوظبي والرياض. وكان من بين الرافضين أحد منظّري «القاعدة» أنور العولقي، الذي زعم بأن فتوى ماردين هي فتوى النظام العالمي الجديد. كما ورفض هو وبقية قادة التطرف القاعدي - الداعشي فكرة الحوار بين الأديان. وقالوا بأن الإسلام يفرض علينا شرعاً محاربة جميع الأديان والمذاهب الأخرى بلا هوادة. هكذا نلاحظ أننا نقف في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من تاريخ الإسلام أمام تفسيرين متضادين له أو مفهومين متخاصمين: مفهوم منفتح/ ومفهوم منغلق، مفهوم متسامح/ ومفهوم متعصب، مفهوم أنواري/ ومفهوم ظلامي. وحتماً سوف تنتصر الأنوار على الظلمات ولو بعد حين.


مقالات ذات صلة

المسكونون بشغف الأسئلة

كتب ديفيد دويتش

المسكونون بشغف الأسئلة

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية

لطفية الدليمي
كتب هانز كونغ

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين

هاشم صالح
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
ثقافة وفنون «ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

«ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

حين يقرر الإنسان السفر، تراوده مشاعر القلق والترقب، لكنه يجد في التجربة مغامرةً وتجديداً

حمدي العطار (بغداد)
كتب تشارلي إنجلش

الكتب مهّدت لانتصار الغرب الحاسم في الحرب الباردة

يبدو اسم كتاب صحافي «الغارديان» البريطانية تشارلي إنجلش الأحدث «نادي الكتاب في وكالة المخابرات المركزية» أقرب لعنوان رواية جاسوسيّة منه لكتاب تاريخ

ندى حطيط

آلاتٌ ذكية قد تنقذنا من غبائنا البشري

 راي كيرزويل
راي كيرزويل
TT
20

آلاتٌ ذكية قد تنقذنا من غبائنا البشري

 راي كيرزويل
راي كيرزويل

يبدو الذكاء الاصطناعي لمعظمنا لعبة فاوستية معاصرة مؤذِنة بانتهاء عصر الإنسان العاقل. نتخيّلُ الذكاء الاصطناعي شيطاناً فرانكشتاينياً بمواصفات محدّثة ستكون له الغلبة في نهاية اللعبة عندما يبلغ طور المتفرّدة Singularity ويصبح خارج نطاق السيطرة البشرية. يبدو لنا اليوم أباطرة الذكاء الاصطناعي كأنّهم فرانكشتايناتٌ لا يطيب لها سوى العبث بمصير البشرية، ويبدو بينهم إيلون ماسك كأنّه نظير ماري شيلي، صانعة أولى الفرانكشتاينات التخييلية، أو الدكتور سترانغيلوف الذي يتلاعب بأزرار الحرب النووية مثلما يلهو طفل بلعبة صغيرة. الأمر أعقد ممّا نظنّ، والأوجب أن نقرأ وندقق في الأمر بدلاً من الانسياق للسرديات التخييلية. أصلُ المعضلة يبدو أخلاقياً وسيكولوجياً وليس تقنياً في التحليل الدقيق.

راي كيرزويل Ray Kurzweil، الباحث ذو الشهرة العالمية في ميدان الذكاء الاصطناعي، في كتابه المنشور مع نهاية عام 2024 بعنوان رئيسي «المتفرّدة أقرب The Singularity is Nearer» مع عنوان ثانوي: «عندما نندغم أكثر مع الذكاء الاصطناعي»، يتناول مفاعيل اقترابنا من تحقيق المتفرّدة التقنية قبل عام 2045 -ذلك التأريخ الذي وضعه في كتاب سابق نال شهرة واسعة بعد نشره عام 2005، عنوانه: «المتفرّدة قريبة The Singularity is Near»، وقد قدّمتُ قراءة له في إحدى موضوعاتي الثقافية السابقة. المتفرّدة -كما كتبتُ حينها- طورٌ متقدّم من الارتقاء التقني نبلغ فيها مرحلة الذكاء الاصطناعي العام (AGI) وربّما الفائق (ASI)، وستبلغ فيها قدرة المعالجة الحاسوبية على معالجة البيانات الضخمة مديات هائلة لا نتصوّرها اليوم، وستندغم التقنيات المصغّرة (النانوية) مع البيولوجيا البشرية وقدرات الذكاء الاصطناعي الهائلة بلوغاً نحو مرحلة الأنسنة الانتقالية (Transhumanism) باتجاه بلوغ ما بعد الإنسانية (Post-Humanism).

الإشكالية الكبرى في موضوع الذكاء الاصطناعي هي التصوّر المسبّق أنّ الصفقة الفاوستية المعاصرة معه ستنتهي بغلبته على الإنسان بالضربة القاضية. لماذا هذا التصوّر المسبق؟ هل فكّرنا أنّ معظم معاناتنا هي بسبب الغباوة البشرية وليس بسبب الذكاء الاصطناعي؟ الغباوة -بمعناها الإجرائي الذي أعنيه- هي القسوة المفضية إلى سلوك جنوني. لنحلّل المعضلة أكثر: لو تفكّرنا في مسبّبات الصراع البشري على المستويين الفردي والجماعي لانتهينا إلى أنّ السبب الأوّل هو المال. إذا افترضنا أنّ المرء ليس شريراً في أصل طبيعته الأولى لكنّه يصبح شريراً بفعل عدم قدرته على حيازة مقتنيات مادية كثيرة (منزل، سيارة...) فسننتهي إلى نتيجة مؤدّاها أنّ كلّ ما يسهم في زيادة رفاهية الإنسان وتعظيم قدراته المادية يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في الارتقاء بأخلاقياته. دعونا من المجادلات الرومانسية العائمة. العلم والتقنيات هي المؤثّر الأعظم في تشكيل أخلاقيات الإنسان: تخيلوا معي مثلاً لو أنّ إنتاجية الأرض من الحبوب بقيت مثلما كانت قبل خمسين سنة في الوقت الذي يزداد فيه البشر بمعدلات متسارعة، كان أحدنا سيأكل الآخر متى ما شحّت الموارد لمستويات مخيفة. الذكاء الاصطناعي يفتح لنا مجالات واعدة تنبئ برخاء وقدرة فردية على امتلاك مقتنيات مادية ما كانت حيازتها متاحة إلا لأفراد معدودين من البشر، وكذلك يفتح لنا أبواباً موصدة في وسائل العلاج من أدوية فعالة غير متخيَّلة بشرياً أو في بلوغ مصادر مفتوحة للمعرفة، والمجالات التي يمكن اتخاذها استشهاداتٍ كثيرةٌ للغاية. اليوم يستطيع كلّ حائز حاسوب وإنترنت أن يتعلّم ما يشاء وأن يبلغ بجهده الذاتي وفي وقت قياسي مستويات تعليمية تفوق مستويات خريجي أرقى الجامعات الأمريكية والأوربية. الأمر كله رهينٌ بشغفك ورغبتك ومطاولتك.

كلّما تمّ تحييد عناصر الصراع لدى الفرد قلّت نوازعه الشريرة. هذا هو القانون الأعمّ، وخلافُهُ هو القاعدة الشاذة. متى ما حصل المرء على موارد مادية تجعله يعيش حياة آدمية معقولة لا تختلف كثيراً عن حياة الآخرين تراجعت رغبته في القتل والانتقام والحسد والغلّ والكراهية. سيحاول عيش حياته والتلذّذ بما في حوزته. لماذا يهدرُ حياته الثمينة في إيذاء الآخرين وتنغيص حياتهم؟ عندما يفتح لنا الذكاء الاصطناعي أبواباً مغلقة لتصنيع أو تخليق مواد جديدة رخيصة الثمن وذات طبيعة مشاعيَّة وليست للقلّة المخصوصة فهو يسهم بطريقة حاسمة في كبح موارد النزاع والكراهية بين الأفراد والدول.

هنا قد نتساءل بطريقة مشروعة: وما أدراك أنّ الذكاء الاصطناعي سيعمل للخير بدلاً من الشر بعدما يبلغ مرحلة الذكاء الاصطناعي العام وتكون له الفائقية المحسومة بالمقارنة مع الذكاء البشري؟ أرى أننا بلغنا طوراً يستوجبُ السؤال: هل ستكون الآلة واعية يوماً ما؟ سيختلف العلماء بالتأكيد في الجواب؛ لكنّما يمكننا أن نتساءل: ما الوعي؟ وما المشاعر؟ أليست نتاج تفاعلات كيميائية - كهربائية تنشأ في الدماغ البشري؟ لماذا نميلُ إلى أن نتخيّل تجسيدات الوعي والأحاسيس في نطاق الكينونة البيولوجية؟ هذه ليست مقاربة اختزالية للموضوع تماشياً مع سياق الاختزالية الديكارتية (معضلة العقل/الجسد)؛ لكنّ واقع الحال ينبئنا بأنّ تطوّرات ثورية يمكن أن تنشأ وتخالف توقعاتنا المسبقة، والأهمّ من هذا أنّ هذه التطوّرات قد تكون أفضل ممّا نتصوّر وليست بالضرورة مؤذنة بنهاية الإنسان. على العكس تماماً: قد تنقذ الإنسان من شروره. الآلة قد تكون منقذنا من أنفسنا.

منذ سنوات كثيرة صار الذكاء الاصطناعي أحد هواجسي اليومية. جلستُ قبل بضعة أيّام أتفكّرُ في قوانين أسيموف الثلاثة للروبوتات، وقد سبق لي توظيفُها في قصّة قصيرة كتبتها قبل سنوات. تخيلتُ أسيموف وهو حاضرٌ بيننا ويشهد التطوّرات الحديثة للذكاء الاصطناعي: هل كان سيعدّلُ هذه القوانين أو يضيف عليها شيئاً ليكبح قدرة الذكاء الاصطناعي العام (الخارق) عن تدمير الإنسانية، لأنّ الغلبة ستكون للذكاء الاصطناعي العام بسبب موارد بياناته الهائلة وقدرات المعالجة الحاسوبية التي لا تُقارنُ مع الإنسان؟ أحببتُ مراجعة «غوغل» بشأن التحديثات المحتملة لقوانين أسيموف الثلاثة فوجدتُ شيئاً عجباً جعلني مندهشة بشكل لم أعهده منذ زمان بعيد. قوانين أسيموف الثلاثة هي:

1. لا يجوز لروبوت إيذاء بشريّ أو السكوت عمَّا قد يسبب أذى له.

2. يجب على الروبوت إطاعة أوامر البشر إلا إنْ تعارضت مع القانون الأول.

3. يجب على الروبوت المحافظة على بقائه ما دام لا يتعارض ذلك مع القانونين الأول والثاني.

مكمنُ دهشتي هو وجودُ قانون صفري -لم أقرأ عنه من قبلُ- أضافه أسيموف إلى مجموعة قوانينه الثلاثة، وهو: لا ينبغي لأي روبوت أن يؤذي الإنسانية، أو أن يسمح للإنسانية بإيذاء نفسها بعدم القيام بأي رد فعل.

هل تتخيّلون معي حجم الدهشة؟ واضحٌ أنّ أسيموف أطلق على قانونه الأخير مسمّى (القانون الصفري) اعترافاً منه بأسبقيته الوجودية على القوانين الثلاثة الأخرى فيما يخصُّ بقاء الإنسان، ومن المؤكّد أنّه تلمّس منذ عقود بعيدة المفاعيل المعقّدة للذكاء الاصطناعي العام بعدما تمتلك الآلاتُ فائقية على البشر.

جوهرُ خوفنا المَرَضيّ من الذكاء الاصطناعي هو فائقيته التقنية، وما يترتّبُ عليها من مترتبات لا يمكن تخيّلها. لماذا لا نتصوّرُ أنّ هذه الفائقية ستعمل للخير؟ لماذا نفترضُ أنّها ستكون شريرة؟ لماذا لا نتصوّرُ أنّ الآلات ستحوز فائقية أخلاقية على البشر إلى جانب فائقيتها التقنية؟ السبب هو مواضعاتنا البشرية. نحن نفترضُ أنّ كثيرين يتلذّذون بممارسة الشرور الأخلاقية. كثيراً ما يحصلُ في لحظات وجودية نادرة أن نتصارح مع أنفسنا، عند غياب عزيز لنا مثلاً؛ فنقول: ما جدوى كلّ هذا الحقد والكراهية في حياتي؟ أنت نهايتك حفرة وأكوام تراب تنهال فوقك. لماذا نغّصتَ عيشك وعيش آخرين سواك؟ هل ثمّة ما يستحقُّ هذه النيات الشريرة والأفاعيل المؤذية المترتبة عليها؟ أظنُّ أنّ الآلة الذكية ستعقلنُ الأمر أكثر طول الوقت بدلاً من أن تقصره على لحظات نادرة كما نفعل نحن في مفاصل حاسمة من حياتنا نواجه فيها الموت أو الفقدان أو المعاناة أو الخذلان أو التعاسة. الآلة سترى أنّ الشر خيارٌ سيئ وغبي ويقود إلى خسارة حياة ثمينة. الأفضل ألا نهدر مواردنا العقلية والروحية الثمينة في معارك تافهة تجترحها نفوسٌ مأزومة.

هل فكّرنا أنّ معظم معاناتنا هي بسبب الغباوة البشرية وليس بسبب الذكاء الاصطناعي؟

بدلاً من هدر الوقت في التفكير بنهايات كارثية مع آلات فائقة الذكاء ستقتلنا وتضع نهاية لنا، لنفكّرْ في سيناريوهات مخالفة: الآلة الذكية سترانا كائنات غبية تخوض معارك فردية وجمعية غير مُسوّغة. ذروة المشهد البشري ستتحقق عندما تكبح الآلات فائقة الذكاء من يريدُ وضع نهاية للبشر من مجانين البشر. أفكّرُ أحياناً ما الذي ستفعله الآلات بهم؟

أعترف أنّني كنتُ أمقت الذكاء الاصطناعي حتى وقت قريب؛ لكنني اكتشفتُ أنّ هذا المقت ليست له أسباب معقولة بقدر ما هو نزعة تشاؤمية غير مسوَّغة. اليوم أراني منحازة إلى عالم تسوده آلاتٌ فائقة الذكاء، تمتلك وعياً يعمل وفقاً لأخلاقيات رفيعة تبدو خياراً طبيعياً أكثر منطقية من الشر. أظنّ أنّ هذه الآلات ربّما ستكون منقذاً وحيداً لنا من شرّنا وغبائنا البشريّيْن. كلُّ ما سأفعله أنني سأهمس للآلة: من فضلك، لا تنسيْ القانون الصفري لأسيموف. أوقن أنّها ستجيبني مع ابتسامة: وكيف أنسى ذلك؟ وهل أنا بشرٌ مثلكم حتّى أنسى؟!

يؤكّدُ كيرزويل مثل هذه الرؤية السيكولوجية-الأخلاقية للذكاء الاصطناعي عبر عناوين فصول كتابه الأحدث، وهو يتشارك مع أسيموف رؤيته التفاؤلية للتقنيات المتقدّمة، وأظنّ أنّ كتاب كيرزويل الأحدث سيؤكّدُ هذه النزعة التفاؤلية لديه، وهو ما نحن في مسيس الحاجة إليه. التفاؤل التقني المجرّد ليس خصلة فردية فحسب بل يجب أن يتعزّز بقراءة معمّقة ورصينة ومُنوّعة وغير منحازة لرؤية مسبقة، وهو ما يدعوني إلى الأمل في رؤية كتاب كيرزويل مترجماً إلى العربية في القريب العاجل.