الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

عدد جديد من مجلة «الإسلام في القرن الحادي والعشرين»

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي
TT
20

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

كرّست هذه المجلة الباريسية المرموقة عددها الأخير لموضوع واحد، هو «الجهاد في الإسلام». وقد شاركت فيه نخبة من الباحثين والباحثات. افتتح العدد رئيس رابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين البروفسور الجزائري الأصل الدكتور صادق بلوصيف. وقد جاء في افتتاحيته للعدد الجديد ما فحواه: كلمة الجهاد أصبحت ترعب الكثيرين وتحدث في نفوسهم الكثير من المخاوف والهلوسات. فما هي حقيقة الأمر؟ ما هي حقيقة الجهاد؟ هل كلمة الجهاد حربية صراعية عسكرية؟ هل الجهاد نوع من «صدام الحضارات» قبل الأوان؟ أسئلة كثيرة متلاحقة يضطر المرء إلى طرحها، بل ويطرحها الكثيرون على أنفسهم، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. ولكن الجميع ينسون أن الجهاد في الإسلام يعني مجاهدة النفس ومقاومة انحرافاتها وتقويم اعوجاجها وتعويدها على الفضيلة ومكارم الأخلاق. وهذا هو الجهاد الأكبر في الإسلام. ولكن لا أحد يتحدث عنه. الجميع مهووسون بالجهاد الأصغر: أي الجهاد الحربي العسكري. كلنا مشغول بالجهاد الخارجي وننسى الجهاد الداخلي: أي مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء.
ثم يختتم رئيس التحرير افتتاحيته قائلاً ما معناه: هكذا تجدون أننا ابتعدنا كثيراً عن المفهوم الأصلي للجهاد الأكبر، والذي يعني كما قلنا مجاهدة النفس ونزعاتها الشريرة؛ بغية إصلاحها وتحسينها وتدريبها على الفضائل. وهذا ما ينصح به الإسلام كل مسلم. هذا ما يعلمنا إياه الإسلام دين السلام والتعايش والتعارف بامتياز. جاء في الذكر الحكيم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13). هنا يكمن جوهر الإسلام العظيم الذي شوّهوه، وينبغي أن يدفعوا ثمن هذا التشويه يوماً ما.
وقد ابتدأ الكلام الباحث المعروف أسامة حسن بدراسة مطولة اتخذت عنواناً لافتاً، هو «كيف يمكن تخليص الإسلام من الإسلاموية». المقصود كيف يمكن تخليصه من الاتجاهات الجهادية المتعصبة والدموية على طريقة «داعش» و«القاعدة»، إلخ. وقد أنهى الباحث الإسلامي مداخلته بعبارة فاجأت الجميع، وهي أن الجهاد في جوهره وأساسه مفهوم سلمي لا عنفي.
ولكن يبقى صحيحاً القول بأن الجهاد حُرّف عن معناه الحقيقي وتحول على أيدي المتطرفين الدواعش إلى تفجيرات دموية مرعبة ولم يعد مسالماً على الإطلاق. ولهذا السبب ينبغي تحرير الإسلام من الإسلاموية. فالإسلام في جوهره دين الرحمة والشفقة والمغفرة. ولكن اتجاهات متعصبة سطت على الإسلام في السنوات الأخيرة واحتكرته لصالحها وكأنها الممثل الوحيد له في حين أنها تشويه له. ولهذا السبب ينبغي تخليصه من براثنها.
أما الدراسة الثانية في العدد، فهي مكرّسة للتحدث عن مناضلي الجهاد الفرنسي، عن منشئهم السوسيولوجي الاجتماعي، عن آيديولوجيتهم، عن مساراتهم الشخصية أو الفردية، إلخ. وقد كتبها الباحث المعروف التونسي الأصل حكيم القروي بالإضافة إلى الباحث بنيامين هودايا.
وانتهى العدد بدراسة ثالثة كتبتها البروفسورة والمحللة النفسانية المعروفة حورية عبد الواحد. وقد تحدثت فيها عن كيفية تحويل أطفال «داعش» إلى مسلحين قتلة مرعبين في حين أنهم كانوا أطفالاً أبرياء. بمعنى آخر، لقد حوّلوهم من ضحايا إلى جلادين.

منطق الأصولية الإسلاموية

ننتقل الآن إلى كلام سكرتيرة التحرير إيفا جانادان، الباحثة المختصة المتبحرة في العلم والدراسات الإسلامية. فماذا تقول لنا يا ترى عن موضوع الجهاد؟ إنها تتحدث عن نظرية الجهاد قائلة ما معناه: لكي نفهم عقيدة الجهاد جيداً، فإنه لمن الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار رأي كبار الفقهاء في القرون الوسطى الذين قسّموا العالم إلى قسمين: دار الإسلام/ ودار الحرب التي تدعى أيضاً دار الكفر. وهذا التقسيم الثنائي أو الثنوي يرتكز على الفرضية التي تقول بأن الإسلام سيعمّ العالم كله يوماً ما وأن شريعته ستحلّ محل جميع الشرائع وأنه لا يمكن أن يوجد حكم شرعي مرضي عند الله على وجه الأرض إن لم يكن إسلامياً. وهذا يعني أن أرض الإسلام بالمعنى الديني كما السياسي للكلمة مفتوحة لا حدود لها. ولكن بانتظار أن يعمّ الإسلام العالم كله فإن الفقهاء اضطروا إلى تقسيم المعمورة إلى قسمين: أرض الإسلام والطهر/ وأرض الحرب والكفر. وبين هذين القسمين ينبغي أن تستمر الحرب حتى يتحقق الانتصار الكلي والنهائي للإسلام على بقية العقائد والأديان. ثم تردف الباحثة قائلة: ضمن هذا المنظور خلع فقهاء القرون الوسطى المشروعية الإلهية على الجهاد الحربي العنيف.
ننتقل الآن إلى المداخلة القيّمة التي كتبها الباحث الإنجليزي ولكن العربي السعودي الأصل الدكتور أسامة حسن. وهذا الباحث لمن لا يعرفه ذو مسار مدهش حقاً وغير متوقع على الإطلاق. فقد كان أصولياً جهادياً قبل أن ينقلب إلى مسلم مستنير! ينبغي العلم أنه كان في شبابه الأول ولمدة عشرين سنة على الأقل مناضلاً حركياً من أتباع الخط السلفي الراديكالي. بل وحتى عندما كان لا يزال طالباً في جامعة كمبردج فإنه شارك فعلياً في عمليات الجهاد ضد القوات الشيوعية في أفغانستان (9019 - 1991). ولكن على أثر التفجيرات الإرهابية التي أصابت ميترو لندن عام 2005، فإنه غيّر موقفه جذرياً وراح يناضل ضد التطرف والتعصب الديني. بل وراح ينخرط في خط الإصلاح الإسلامي المستنير ويروّج له داخل البيئات والحلقات الإسلامية. وهناك شيء آخر لا نعرفه عنه، وهو أنه خدم كإمام جامع لمدة 40 سنة على الأقل. وهو مشبّع بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وبقية النصوص الإسلامية المقدسة. وقد ترجم العديد من هذه النصوص إلى لغة شكسبير. كما وساهم في تأليف كتاب جماعي بعنوان «أهل الكتاب: كيف يفهم اليهود والمسيحيون والمسلمون نصوصهم المقدسة» (2019). وأخيراً، ينبغي العلم أنه المحلل الفكري والسياسي والاستراتيجي الأول «لمعهد توني بلير للتغيير العالمي». ماذا يقول هذا الباحث الخبير المطلع من الداخل على شؤون الحركات الأصولية وشجونها؟ إنه يقول لنا ما معناه: أن منطق الأصولية الإسلاموية يرتكز إلى أربع مسلّمات: الأولى هي أن مسلمي العالم كله يشكلون الأمة الإسلامية بصفتها أمة عالمية موحدة تقف في مواجهة جميع الأمم الأخرى غير المسلمة. وهم يعتمدون على مفهوم أساسي ذاع صيته وانتشر، هو: الولاء والبراء. بمعنى أن ولاء كل مسلم هو لصالح الإسلام والمسلمين الآخرين فقط. وبالتالي، البراء من جميع من هم غير مسلمين من أتباع الأديان والفلسفات والعقائد الأخرى. أما المسلّمة الثانية، فتقول بضرورة تشكيل دولة الخلافة الإسلامية التي تضم جميع مسلمي الأرض والتي لا تعترف بالحدود الحالية الكائنة بين الدول الإسلامية كالسعودية ومصر والمغرب، إلخ. كل هذه يعتبرونها حدوداً مصطنعة. وأما المسلّمة الثالثة، فتقول بضرورة تطبيق الشريعة كقانون وحيد لدولة الخلافة الإسلامية. ينبغي تطبيقها بما فيها الحدود البدنية كقطع يد السارق وجلد شارب الخمرة ورجم المرأة المخطئة، إلخ. إنهم يطبّقون تفسيرهم الأصولي للشريعة بشكل حرفي على جميع رعايا المملكة الإسلامية حتى ولو كانت مضادة بشكل صارخ للمفاهيم الحديثة لحقوق الإنسان. وأما المسلّمة الرابعة، فتقول بضرورة توسيع رقعة الدولة الإسلامية أكثر فأكثر بواسطة الجهاد. وهم يقصدون الجهاد الحربي الدموي فقط؛ لأنهم يجهلون كلياً الجهاد الأكبر الذي تحدثنا عنه سابقاً أو يتجاهلونه. ضمن هذا المعنى، فإن الأصوليين الإسلامويين يستخدمون الجهاد كأداة فعالة وفتاكة لإرهاب الآخرين وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية.

فتوى ماردين

يقول لنا هذا الباحث الضليع المطلع بأنه اجتمع في مدينة ماردين التركية أكثر من اثني عشر عالماً إسلامياً كبيراً وأعلنوا إدانتهم للتطبيق المتطرف لفتوى شهيرة كان ابن تيمية قد أصدرها في المدينة ذاتها قبل سبعة قرون. لقد شوّه الجهاديون الدمويون فتوى شيخ الإسلام التي تقول حرفياً «يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُعامل الخارج على شريعة الإسلام بما يستحقه». فأصبحت على أيدي المتطرفين المعاصرين: تنبغي «محاربة» غير المسلمين بالطريقة التي يستحقونها! وهكذا شوّهوا فتوى ابن تيمية أو قُلْ حرفوها عن طريق إحلال كلمة «محاربة» أو «مقاتلة» محل كلمة «معاملة». ثم يخبرنا الباحث بأن الجماعات التكفيرية كانت منذ سنوات الستينات من القرن الماضي تستخدم هذه الفتوى المحرفة كأداة فعالة وفتاكة لتبرير اعتداءاتها الدموية على الآخرين. كما واستخدموها ضد الأنظمة العربية والإسلامية القائمة بحجة أنها مرتدة عن الإسلام، وبالتالي فيحق شرعاً إسقاطها واغتيال قادتها لأنهم لم يعودوا مسلمين في نظرهم! وهكذا بلغ التطرف بالجهاديين الدمويين مبلغه... ولكن لحسن الحظ، فإن فتوى ماردين الجديدة أعادت الأمور إلى نِصابها وقالت حرفياً «فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في ماردين لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسكاً أو مستنداً لتكفير المسلمين والخروج على حكامهم، بل هي فتوى تحرّم كل ذلك». ثم أردفت فتوى ماردين الجديدة قائلة بأن العالم كله ينبغي أن يصبح أرض سلام وتسامح وتعايش بين مختلف الأديان والأقوام والمذاهب دون استثناء. وكل هذا متوافق مع جوهر الآية القرآنية الكريمة المذكورة سابقاً «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى....» إلخ. وهذا ما أعلنته أيضاً وثيقة الأخوة الإنسانية الموقّعة في أبوظبي من قِبل بابا روما وشيخ الأزهر بحضور الشيخ محمد بن زايد (بتاريخ 4 فبراير (شباط) 2019). وهذا ما أعلنته أيضاً وثيقة مكة المكرمة الموقّعة من قِبل أكثر من 1200 عالم إسلامي كبير (بتاريخ 30 مايو (أيار) 2019). وقد حصل ذلك في ظل القيادة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين وللأمير محمد بن سلمان، الذي هو قائد نهضوي وتنويري عربي كبير.
ولكن ماذا فعل المتطرفون الظلاميون؟ لقد رفضوا هذا الانفتاح الفكري والديني الكبير الذي حصل في ماردين وأبوظبي والرياض. وكان من بين الرافضين أحد منظّري «القاعدة» أنور العولقي، الذي زعم بأن فتوى ماردين هي فتوى النظام العالمي الجديد. كما ورفض هو وبقية قادة التطرف القاعدي - الداعشي فكرة الحوار بين الأديان. وقالوا بأن الإسلام يفرض علينا شرعاً محاربة جميع الأديان والمذاهب الأخرى بلا هوادة. هكذا نلاحظ أننا نقف في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من تاريخ الإسلام أمام تفسيرين متضادين له أو مفهومين متخاصمين: مفهوم منفتح/ ومفهوم منغلق، مفهوم متسامح/ ومفهوم متعصب، مفهوم أنواري/ ومفهوم ظلامي. وحتماً سوف تنتصر الأنوار على الظلمات ولو بعد حين.


مقالات ذات صلة

فوز «صلاة القلق» للمصري محمد سمير ندا بجائزة الرواية العربية

كتب رواية «صلاة القلق» للكاتب المصري محمد سمير ندا (صورة من صفحة الكاتب على «إنستغرام»)

فوز «صلاة القلق» للمصري محمد سمير ندا بجائزة الرواية العربية

فاز المصري محمد سمير ندا بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الثامنة عشرة اليوم الخميس عن روايته (صلاة القلق) الصادرة عن منشورات ميسكلياني.

كتب الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

مفاجآت عدّة وإجابات غير متوقعة، تحملها الدراسة التي أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب «المرأة الدينية المرأة النسوية»... الخطاب المسكوت عنه

«المرأة الدينية المرأة النسوية»... الخطاب المسكوت عنه

ينطلق كتاب «المرأة الدينية المرأة النسوية... كشف مضمرات الخطاب السردي في ضوء علم اجتماع الأدب»، للناقدة العراقية د. موج يوسف

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

«الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

تقود هيئة الأدب والنشر والترجمة مشاركة الرياض الاستثنائية بصفتها «ضيف الشرف» في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025، ضمن دورته التاسعة والأربعين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب ماريو فارغاس يوسا

يوسا في بغداد: «هذا ليس حسناً يا سيدي!»

استمع يوسا على هامش جولاته عبر العراق لأشخاص ممن سُجنوا أو تعرضوا للتعذيب فترة الحكم البعثي وزار سجن «أبو غريب».

ندى حطيط (لندن)

المسكونون بشغف الأسئلة

ديفيد دويتش
ديفيد دويتش
TT
20

المسكونون بشغف الأسئلة

ديفيد دويتش
ديفيد دويتش

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية تتيحُ للكاتب أن يبوح بتفاصيل أو جزئيات ما كان متاحاً له البوحُ بها في غير سيرته الذاتية، وهذه التفاصيل أبعدُ من محض حياته العاطفية أو علاقاته مع الجنس الآخر أو مغامراته أو طيشه أو عنفوانه أو حتى جنونه.

أحْدَثُ كتابٍ في السيرة الذاتية قرأتُهُ كتبه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل الذي يُنسبُ إليه ابتداعُ مفاهيم الليبرالية والحرية والنظم السياسية الحديثة، كما عضّد مفهوم المنفعة الذي ابتدعه جيريمي بنثام. هذه كلها ثورات هائلة في التفكير البشري، لكنّ المثير في السيرة الذاتية هو الإسهاب في عرض تفاصيل مسيرته التعليمية، وتلك خصيصة يتشارك بها معه كلّ من كتبوا سِيَرَهم الذاتية وهم أعلامٌ فلسفية أو علمية أو تقنية. ثمّة الكثيرُ من الخواص المشتركة بين هؤلاء، منها مثلاً: أنهم ذاتيو التعليم Self-Educated، والكثير منهم لم ينالوا تعليماً مدرسياً تقليدياً على الشاكلة التي نعرف، كما أنّهم نشأوا في بيئات أسرية تعلي شأن الانضباط والصرامة والجدية المفرطة والحساسية تجاه الزمن إلى الحدّ الذي جعل هؤلاء في أعمارهم المتقدّمة يرون أنّهم لم يعيشوا أطوار طفولتهم الأولى بطريقة طبيعية. هل ندموا على تلك الطفولة؟ ربما. يجب ألا ننسى أنّ كلّ شيء بثمن، وليس مِنْ منحة مجانية في هذه الحياة. هل كانوا سيصبحون سعداء لو عاشوا في كنف عائلات أقلّ انضباطاً؟ ربما. نحن في النهاية نميل لتقدير الحياة التي لم نَعِشْها أكثر من تلك التي عشناها، وتلك حكاية أخرى غير حكايتنا هذه.

غلاف «نسيج الواقع»
غلاف «نسيج الواقع»

تخبرُنا السير الذاتية لتلك الأسماء الذائعة أنّها تشاركت هوساً غير طبيعي في التفكّر بالأسئلة الوجودية الأولى، وأنّها سعت إلى بلوغ إجابات لها عن طريق التفكّر الذاتي وليس كجعبة معرفية جاهزة مثلما تفعل المدارس والجامعات. أولى تلك الأسئلة هي أسئلة البدايات: كيف بدأ الكون؟ وكيف بدأ الوعي؟ وكيف بدأت الحياة؟ هذه الأسئلة تستمرّ مع الحياة، ويعمل المرء المتفكّر حثيثاً لتعديلها تبعاً للمستحدثات المعرفية التي تحصل في حياته، لكنّه لن يقبل أبداً بالمعرفة الجاهزة. إنّه كمن يسعى للتنقيب في الأعماق سعياً لبلوغ نمط تفكير واضعي النظريات أو مبتدعي الفرضيات أو راسمي المقاربات التطوّرية. يبدو المرء من هؤلاء وكأنّه يتشارك تجربة من يقرأ له ولا يكتفي بالإمساك بالإجابات الناجزة.

في الفلسفة مثلاً يشرع المرء من هؤلاء منذ بواكير طفولته الأولى يتساءل: كيف لي أن أتيقّن من أنّ ما أراه أمامي وأحسّه بأعضاء حسّي هو ذاته ما يراه ويحسّه سواي من الذين يختبرون ذات الظروف التي أخضع لها؟ هذا التفكّر بشأن معضلة اليقين الوجودي هو بوّابة الولوج إلى التفكّر الفلسفي الحقيقي، ومن البديهي أنّ من يقرأ المصنّفات الفلسفية ابتداءً من أفلاطون وأرسطو وسائر الفلاسفة وهو مهجوس بهذا النمط من الأسئلة هو كائن يختلف جوهرياً عمّن يبتغي المعرفة المجرّدة. إنّه فرق جوهري بلا شك أن تكتفي بمعرفة التواريخ والشخوص والأمكنة والأزمنة. رجلٌ على شاكلة جون ستيوارت مل لن يقبل بهذا الدور غير الفعّال. يريد أن يكون جزءاً فاعلاً في صناعة تاريخه المعرفي.

خذ معضلة الوعي. هي الأخرى معضلة شديدة التعقيد لا تنفع معها مقاربةُ القراءة غير المهجوسة بدافعية الأسئلة الأولى. تبدأ معضلة الوعي بالاختمار في العقل الشغوف عندما يتساءل: من أين ينشأ الوعي؟ من الدماغ. وما هو الدماغ؟ أليس كتلة عضوية تتكوّن من الكاربون والفسفور و...؟ ما الذي يدعو تشكيلاً عضوياً متشكّلاً من ذرّات مشخّصة إلى امتلاك خاصية الوعي؟ عندما سيقرأ من يفكّرُ بمثل هذه الأسئلة لاحقاً في كتابات فلاسفة العقل والباحثين في العلوم العصبية ستكون قراءته مدفوعة ومحفّزة بشغف أسئلة الطفولة الأولى والأطوار الزمنية اللاحقة لها وليست محض واجب أكاديمي أو قراءة عابرة أو استزادة للخزين المعرفي.

ليست الأسئلة الأولى قرينة - بالضرورة - بالطفولة، بل هي في الغالب خصيصة عقلية ونفسية تتقدّم وتتطوّر مع ارتقاء صاحبها معرفياً وخبرةً في المعيش اليومي، كما أنّها لا تقتصر على أسئلة البدايات كما يحصل مع الطفولة. مسألة الدولار الأميركي مثلاً تصلح مثالاً ممتازاً. هل تساءلت يوماً: لماذا صار الدولار الأميركي عملة عالمية عقب اتفاقية (بريتون وودز) بعد الحرب العالمية الثانية؟ أو كيف نشأت فكرة النقود والعناصر المرتبطة بها من بنوك وقروض وتأمين ممّا يُشكّلُ التاريخ المالي للعالم؟ أؤكّدُ أنّ مَنْ يشرعُ في دراسة الاقتصاد بادئاً بأسئلة من هذا النوع سيتحصّلُ على معرفة بآليات عمل الاقتصاد العالمي أفضل بكثير ممّن يكتفي بقراءة الكلاسيكيات الاقتصادية العالمية. من يكتفي بهذه الكلاسيكيات ستجابهه معضلاتٌ سيعجز عن تفسيرها أو تسويغها بالرجوع إلى خزين قراءاته.

الأمثلة في العلم الحديث كثيرة، غير أنّني سأختارُ مثالاً متفرّداً هو ديفيد دويتش David Deutsch. يعرفُ عن هذا الفيزيائي الأكسفوردي أنّه من أوائل من تفكّروا في موضوع الحوسبة الكمومية Quantum Computing ووضع خوارزميات صالحة لها. يبدو الأمر عادياً؛ إذ إنّ كثيراً من العلماء والمهندسين يعملون اليوم في حقل الحوسبة الكمومية لكونها قرينة الذكاء الاصطناعي لجهة ثوريتها المفاهيمية ومفاعيلها التطبيقية. الأمر سيختلف تماماً لو قرأنا كتابيْن نشرهما دويتش: الأوّل عنوانه «نسيج الواقع» والثاني عنوانه «بداية اللانهاية»، والكتابان مترجمان إلى العربية. يرى دويتش أبعد من مشهد المفاهيم والتطبيقات المجرّدة. هو يطمحُ لبلوغ نظرية كلّ شيء في المعرفة، وكتب كثيراً كيف أنّ طموحه الخارق هذا ظلّ مدفوعاً بشغف الأسئلة الأولى التي تشكّلت في طفولته وشبابه. في كتابه الأوّل «نسيج الواقع» - الذي ارتأى المترجم العربي عبارة «نسيج الحقيقة» عنواناً له - يطمح دويتش إلى تأسيس نظرية في المعرفة تقوم على أربعة أعمدة: تفسير العوالم المتعدّدة المستمدّة من نظرية الكم، نظرية كارل بوبر في المعرفة، النظرية الاحتسابية الخاصة بِآلان تورنغ، نظرية التطوّر الدارويني الحديثة. في كتابه الثاني «بداية اللانهاية»، يتناولُ دويتش موضوع التنوير Enlightenment ابتداءً من القرن الثامن عشر، ويعلنُ عن رؤية مبشّرة بقرب بداية تفاعل تسلسلي لا نهائي محتمل من المعرفة الخلاقة. الكتاب بأكمله ذو نكهة فلسفية رائعة ويسعى لمقاربة سؤال جوهري: كيف ولماذا تطوّر الإبداع في البشر؟ أهمّ ما نتعلّمه من دويتش ونظرائه هو: الجرأة الفكرية في مقاربة الموضوعات وعدم الركون إلى المواضعات الجاهزة أو الشعور بالتثاقل من وعورة المسعى الفكري غير المطروق من قبلُ، أمّا الدرس الثاني فهو أنّ القيمة الفلسفية للموضوعات المطروقة تبدو نتاجاً لسنوات طويلة من التفكّر الذي بدأ منذ سنوات الطفولة الأولى ولم يكن محض تطوّر تقني أو رغبة في الارتقاء الأكاديمي.

معظمُ البشر لا يريدون إقلاق عقولهم بشيطان الأسئلة الجوهرية أو المسكوت عنها سواء كان هذا في بواكير حياتهم أو في أطوارها اللاحقة. هم يريدون معرفةً على قدر ما يخدمهم ويوفّرُ لهم عملاً يعتاشون منه ويقضون بقية حياتهم في سكينة الهدوء ومنطقة الراحة Comfort Zone. ليس على هؤلاء مثلبة؛ فَهُمْ يعيشون بالكيفية التي يرتاحون لها. في مقابلهم هناك من لا يستطيع العيش سوى بإدامة التفكّر الحثيث في أسئلة تلحّ عليه بشأن موضوعات جوهرية وجودية أزلية أو مستجدّة. إنّها مسألة تكوين ذهني وأنماط نفسية تختلف كثيراً بين البشر.

أفكّرُ أحياناً لو أنّ بشراً من طراز جون ستيوارت مل وُجِدوا في عصرنا هذا حيث التفجّر المعلوماتي والبيانات الكبيرة ووسائل المعرفة متاحةٌ مجاناً لمن يشاء، ما الذي كانوا سيفعلونه؟ هل كان شغفهم سيتعاظم بطريقة لا نهائية أم كان سيخفت لأنّ ما يصبح سهل المنال يفقدُ خاصية الجذب السحرية الكامنة في كلّ أمر نادر وغير متاح بالمجان. لستُ أعرف على وجه الدقّة جواباً لهذا السؤال؛ لكنّ أمراً واحداً أجدُني متيقّنة غاية التيقُّن منه: الأسئلة الذاتية المستديمة تقود إلى معرفة جوهرية حقيقية متى ما تابعها سائلُها ولم يكتفِ بالوقوع في فخّ المعرفة (أو الإجابات) الجاهزة.