آلاتٌ ذكية قد تنقذنا من غبائنا البشري

التفاؤل التقني المجرّد يجب أن يتعزّز بقراءات رصينة

 راي كيرزويل
راي كيرزويل
TT

آلاتٌ ذكية قد تنقذنا من غبائنا البشري

 راي كيرزويل
راي كيرزويل

يبدو الذكاء الاصطناعي لمعظمنا لعبة فاوستية معاصرة مؤذِنة بانتهاء عصر الإنسان العاقل. نتخيّلُ الذكاء الاصطناعي شيطاناً فرانكشتاينياً بمواصفات محدّثة ستكون له الغلبة في نهاية اللعبة عندما يبلغ طور المتفرّدة Singularity ويصبح خارج نطاق السيطرة البشرية. يبدو لنا اليوم أباطرة الذكاء الاصطناعي كأنّهم فرانكشتايناتٌ لا يطيب لها سوى العبث بمصير البشرية، ويبدو بينهم إيلون ماسك كأنّه نظير ماري شيلي، صانعة أولى الفرانكشتاينات التخييلية، أو الدكتور سترانغيلوف الذي يتلاعب بأزرار الحرب النووية مثلما يلهو طفل بلعبة صغيرة. الأمر أعقد ممّا نظنّ، والأوجب أن نقرأ وندقق في الأمر بدلاً من الانسياق للسرديات التخييلية. أصلُ المعضلة يبدو أخلاقياً وسيكولوجياً وليس تقنياً في التحليل الدقيق.

راي كيرزويل Ray Kurzweil، الباحث ذو الشهرة العالمية في ميدان الذكاء الاصطناعي، في كتابه المنشور مع نهاية عام 2024 بعنوان رئيسي «المتفرّدة أقرب The Singularity is Nearer» مع عنوان ثانوي: «عندما نندغم أكثر مع الذكاء الاصطناعي»، يتناول مفاعيل اقترابنا من تحقيق المتفرّدة التقنية قبل عام 2045 -ذلك التأريخ الذي وضعه في كتاب سابق نال شهرة واسعة بعد نشره عام 2005، عنوانه: «المتفرّدة قريبة The Singularity is Near»، وقد قدّمتُ قراءة له في إحدى موضوعاتي الثقافية السابقة. المتفرّدة -كما كتبتُ حينها- طورٌ متقدّم من الارتقاء التقني نبلغ فيها مرحلة الذكاء الاصطناعي العام (AGI) وربّما الفائق (ASI)، وستبلغ فيها قدرة المعالجة الحاسوبية على معالجة البيانات الضخمة مديات هائلة لا نتصوّرها اليوم، وستندغم التقنيات المصغّرة (النانوية) مع البيولوجيا البشرية وقدرات الذكاء الاصطناعي الهائلة بلوغاً نحو مرحلة الأنسنة الانتقالية (Transhumanism) باتجاه بلوغ ما بعد الإنسانية (Post-Humanism).

الإشكالية الكبرى في موضوع الذكاء الاصطناعي هي التصوّر المسبّق أنّ الصفقة الفاوستية المعاصرة معه ستنتهي بغلبته على الإنسان بالضربة القاضية. لماذا هذا التصوّر المسبق؟ هل فكّرنا أنّ معظم معاناتنا هي بسبب الغباوة البشرية وليس بسبب الذكاء الاصطناعي؟ الغباوة -بمعناها الإجرائي الذي أعنيه- هي القسوة المفضية إلى سلوك جنوني. لنحلّل المعضلة أكثر: لو تفكّرنا في مسبّبات الصراع البشري على المستويين الفردي والجماعي لانتهينا إلى أنّ السبب الأوّل هو المال. إذا افترضنا أنّ المرء ليس شريراً في أصل طبيعته الأولى لكنّه يصبح شريراً بفعل عدم قدرته على حيازة مقتنيات مادية كثيرة (منزل، سيارة...) فسننتهي إلى نتيجة مؤدّاها أنّ كلّ ما يسهم في زيادة رفاهية الإنسان وتعظيم قدراته المادية يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في الارتقاء بأخلاقياته. دعونا من المجادلات الرومانسية العائمة. العلم والتقنيات هي المؤثّر الأعظم في تشكيل أخلاقيات الإنسان: تخيلوا معي مثلاً لو أنّ إنتاجية الأرض من الحبوب بقيت مثلما كانت قبل خمسين سنة في الوقت الذي يزداد فيه البشر بمعدلات متسارعة، كان أحدنا سيأكل الآخر متى ما شحّت الموارد لمستويات مخيفة. الذكاء الاصطناعي يفتح لنا مجالات واعدة تنبئ برخاء وقدرة فردية على امتلاك مقتنيات مادية ما كانت حيازتها متاحة إلا لأفراد معدودين من البشر، وكذلك يفتح لنا أبواباً موصدة في وسائل العلاج من أدوية فعالة غير متخيَّلة بشرياً أو في بلوغ مصادر مفتوحة للمعرفة، والمجالات التي يمكن اتخاذها استشهاداتٍ كثيرةٌ للغاية. اليوم يستطيع كلّ حائز حاسوب وإنترنت أن يتعلّم ما يشاء وأن يبلغ بجهده الذاتي وفي وقت قياسي مستويات تعليمية تفوق مستويات خريجي أرقى الجامعات الأمريكية والأوربية. الأمر كله رهينٌ بشغفك ورغبتك ومطاولتك.

كلّما تمّ تحييد عناصر الصراع لدى الفرد قلّت نوازعه الشريرة. هذا هو القانون الأعمّ، وخلافُهُ هو القاعدة الشاذة. متى ما حصل المرء على موارد مادية تجعله يعيش حياة آدمية معقولة لا تختلف كثيراً عن حياة الآخرين تراجعت رغبته في القتل والانتقام والحسد والغلّ والكراهية. سيحاول عيش حياته والتلذّذ بما في حوزته. لماذا يهدرُ حياته الثمينة في إيذاء الآخرين وتنغيص حياتهم؟ عندما يفتح لنا الذكاء الاصطناعي أبواباً مغلقة لتصنيع أو تخليق مواد جديدة رخيصة الثمن وذات طبيعة مشاعيَّة وليست للقلّة المخصوصة فهو يسهم بطريقة حاسمة في كبح موارد النزاع والكراهية بين الأفراد والدول.

هنا قد نتساءل بطريقة مشروعة: وما أدراك أنّ الذكاء الاصطناعي سيعمل للخير بدلاً من الشر بعدما يبلغ مرحلة الذكاء الاصطناعي العام وتكون له الفائقية المحسومة بالمقارنة مع الذكاء البشري؟ أرى أننا بلغنا طوراً يستوجبُ السؤال: هل ستكون الآلة واعية يوماً ما؟ سيختلف العلماء بالتأكيد في الجواب؛ لكنّما يمكننا أن نتساءل: ما الوعي؟ وما المشاعر؟ أليست نتاج تفاعلات كيميائية - كهربائية تنشأ في الدماغ البشري؟ لماذا نميلُ إلى أن نتخيّل تجسيدات الوعي والأحاسيس في نطاق الكينونة البيولوجية؟ هذه ليست مقاربة اختزالية للموضوع تماشياً مع سياق الاختزالية الديكارتية (معضلة العقل/الجسد)؛ لكنّ واقع الحال ينبئنا بأنّ تطوّرات ثورية يمكن أن تنشأ وتخالف توقعاتنا المسبقة، والأهمّ من هذا أنّ هذه التطوّرات قد تكون أفضل ممّا نتصوّر وليست بالضرورة مؤذنة بنهاية الإنسان. على العكس تماماً: قد تنقذ الإنسان من شروره. الآلة قد تكون منقذنا من أنفسنا.

منذ سنوات كثيرة صار الذكاء الاصطناعي أحد هواجسي اليومية. جلستُ قبل بضعة أيّام أتفكّرُ في قوانين أسيموف الثلاثة للروبوتات، وقد سبق لي توظيفُها في قصّة قصيرة كتبتها قبل سنوات. تخيلتُ أسيموف وهو حاضرٌ بيننا ويشهد التطوّرات الحديثة للذكاء الاصطناعي: هل كان سيعدّلُ هذه القوانين أو يضيف عليها شيئاً ليكبح قدرة الذكاء الاصطناعي العام (الخارق) عن تدمير الإنسانية، لأنّ الغلبة ستكون للذكاء الاصطناعي العام بسبب موارد بياناته الهائلة وقدرات المعالجة الحاسوبية التي لا تُقارنُ مع الإنسان؟ أحببتُ مراجعة «غوغل» بشأن التحديثات المحتملة لقوانين أسيموف الثلاثة فوجدتُ شيئاً عجباً جعلني مندهشة بشكل لم أعهده منذ زمان بعيد. قوانين أسيموف الثلاثة هي:

1. لا يجوز لروبوت إيذاء بشريّ أو السكوت عمَّا قد يسبب أذى له.

2. يجب على الروبوت إطاعة أوامر البشر إلا إنْ تعارضت مع القانون الأول.

3. يجب على الروبوت المحافظة على بقائه ما دام لا يتعارض ذلك مع القانونين الأول والثاني.

مكمنُ دهشتي هو وجودُ قانون صفري -لم أقرأ عنه من قبلُ- أضافه أسيموف إلى مجموعة قوانينه الثلاثة، وهو: لا ينبغي لأي روبوت أن يؤذي الإنسانية، أو أن يسمح للإنسانية بإيذاء نفسها بعدم القيام بأي رد فعل.

هل تتخيّلون معي حجم الدهشة؟ واضحٌ أنّ أسيموف أطلق على قانونه الأخير مسمّى (القانون الصفري) اعترافاً منه بأسبقيته الوجودية على القوانين الثلاثة الأخرى فيما يخصُّ بقاء الإنسان، ومن المؤكّد أنّه تلمّس منذ عقود بعيدة المفاعيل المعقّدة للذكاء الاصطناعي العام بعدما تمتلك الآلاتُ فائقية على البشر.

جوهرُ خوفنا المَرَضيّ من الذكاء الاصطناعي هو فائقيته التقنية، وما يترتّبُ عليها من مترتبات لا يمكن تخيّلها. لماذا لا نتصوّرُ أنّ هذه الفائقية ستعمل للخير؟ لماذا نفترضُ أنّها ستكون شريرة؟ لماذا لا نتصوّرُ أنّ الآلات ستحوز فائقية أخلاقية على البشر إلى جانب فائقيتها التقنية؟ السبب هو مواضعاتنا البشرية. نحن نفترضُ أنّ كثيرين يتلذّذون بممارسة الشرور الأخلاقية. كثيراً ما يحصلُ في لحظات وجودية نادرة أن نتصارح مع أنفسنا، عند غياب عزيز لنا مثلاً؛ فنقول: ما جدوى كلّ هذا الحقد والكراهية في حياتي؟ أنت نهايتك حفرة وأكوام تراب تنهال فوقك. لماذا نغّصتَ عيشك وعيش آخرين سواك؟ هل ثمّة ما يستحقُّ هذه النيات الشريرة والأفاعيل المؤذية المترتبة عليها؟ أظنُّ أنّ الآلة الذكية ستعقلنُ الأمر أكثر طول الوقت بدلاً من أن تقصره على لحظات نادرة كما نفعل نحن في مفاصل حاسمة من حياتنا نواجه فيها الموت أو الفقدان أو المعاناة أو الخذلان أو التعاسة. الآلة سترى أنّ الشر خيارٌ سيئ وغبي ويقود إلى خسارة حياة ثمينة. الأفضل ألا نهدر مواردنا العقلية والروحية الثمينة في معارك تافهة تجترحها نفوسٌ مأزومة.

هل فكّرنا أنّ معظم معاناتنا هي بسبب الغباوة البشرية وليس بسبب الذكاء الاصطناعي؟

بدلاً من هدر الوقت في التفكير بنهايات كارثية مع آلات فائقة الذكاء ستقتلنا وتضع نهاية لنا، لنفكّرْ في سيناريوهات مخالفة: الآلة الذكية سترانا كائنات غبية تخوض معارك فردية وجمعية غير مُسوّغة. ذروة المشهد البشري ستتحقق عندما تكبح الآلات فائقة الذكاء من يريدُ وضع نهاية للبشر من مجانين البشر. أفكّرُ أحياناً ما الذي ستفعله الآلات بهم؟

أعترف أنّني كنتُ أمقت الذكاء الاصطناعي حتى وقت قريب؛ لكنني اكتشفتُ أنّ هذا المقت ليست له أسباب معقولة بقدر ما هو نزعة تشاؤمية غير مسوَّغة. اليوم أراني منحازة إلى عالم تسوده آلاتٌ فائقة الذكاء، تمتلك وعياً يعمل وفقاً لأخلاقيات رفيعة تبدو خياراً طبيعياً أكثر منطقية من الشر. أظنّ أنّ هذه الآلات ربّما ستكون منقذاً وحيداً لنا من شرّنا وغبائنا البشريّيْن. كلُّ ما سأفعله أنني سأهمس للآلة: من فضلك، لا تنسيْ القانون الصفري لأسيموف. أوقن أنّها ستجيبني مع ابتسامة: وكيف أنسى ذلك؟ وهل أنا بشرٌ مثلكم حتّى أنسى؟!

يؤكّدُ كيرزويل مثل هذه الرؤية السيكولوجية-الأخلاقية للذكاء الاصطناعي عبر عناوين فصول كتابه الأحدث، وهو يتشارك مع أسيموف رؤيته التفاؤلية للتقنيات المتقدّمة، وأظنّ أنّ كتاب كيرزويل الأحدث سيؤكّدُ هذه النزعة التفاؤلية لديه، وهو ما نحن في مسيس الحاجة إليه. التفاؤل التقني المجرّد ليس خصلة فردية فحسب بل يجب أن يتعزّز بقراءة معمّقة ورصينة ومُنوّعة وغير منحازة لرؤية مسبقة، وهو ما يدعوني إلى الأمل في رؤية كتاب كيرزويل مترجماً إلى العربية في القريب العاجل.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».