حي «مصر الجديدة» ينبض بالعراقة ويتنفس الحداثة

يحتفظ برونقه وتراثه المعماري الأوروبي

بنايات وشوارع مصر الجديدة صنعت للحي سحره الخاص (مبادرة تراث مصر الجديدة)
بنايات وشوارع مصر الجديدة صنعت للحي سحره الخاص (مبادرة تراث مصر الجديدة)
TT

حي «مصر الجديدة» ينبض بالعراقة ويتنفس الحداثة

بنايات وشوارع مصر الجديدة صنعت للحي سحره الخاص (مبادرة تراث مصر الجديدة)
بنايات وشوارع مصر الجديدة صنعت للحي سحره الخاص (مبادرة تراث مصر الجديدة)

يحاكي التاريخ، ويتشح برداء الحداثة، يقف حي «مصر الجديدة» شامخاً في شرق العاصمة القاهرة، مفتخراً بأنه واحد من أرقى أحيائها. وُلد الحي على يد رجل الأعمال البلجيكي إدوارد لويس جوزيف إمبان الذي اشتهر بـ«البارون إمبان»، قبل 128 عاماً، حيث تم إنشاؤه عام 1905. وطوال هذه العقود احتضن زواره وسكانه من المصريين والأجانب، بين بناياته وشوارعه وميادينه التي لكل منها نكهته المميزة التي صنعت للحي سحره الخاص.

قصر البارون (وزارة السياحة والآثار)

إذا أخذتك قدماك إلى حي مصر الجديدة، فإنك قد ذهبت في رحلة إلى خارج إطار القاهرة الصاخب، وخلالها سترصد عيناك كيف خُطط له بشكل مميز، وستنتعش ذائقتك مع النمط العمراني وجماليات العقارات ذات الطراز المعماري المتميز بالحي، كما ستسرح بخيالك لتضع إجابة عن سؤال: كيف تطور الحي عبر العصور؟

روح أوروبية
مع نشأة الحي بأيدٍ أجنبية على غير ما هو معتاد في ذلك الوقت، فإن أول من سكنوه كانوا من الأجانب الذين وفدوا إلى مصر للعمل، وبدورهم صمموا منازل وفيلات على الطراز المعماري الأوروبي لمحاكاة طبيعة حياتهم، بل واستقدموا لذلك كبراء المهندسين الأوروبيين.

حي مصر الجديدة يتسم بجماليات العقارات ذات الطراز المعماري الأوروبي (مبادرة تراث مصر الجديدة)

ولنقل هؤلاء السكان إلى ضواحي القاهرة الأخرى، نفذت إحدى الشركات الفرنسية أول خط مترو كهربائي في الشرق الأوسط، والذي عُرف بعد ذلك بـ«مترو مصر الجديدة»، والذي أضحى إحدى العلامات المميزة بالحي.
بعد جلاء السكان الأجانب عن الحي وتركهم مصر مع قيام ثورة يوليو 1952، سكنت الحي الطبقة الأرستقراطية والغنية من المصريين، وهو ما ساهم في الحفاظ على هيئة الحي ومستواه الاجتماعي حتى الآن.

ماذا تزور في مصر الجديدة؟
يملك الحي إرثاً غنياً تركه الأجانب، ممثلاً في بعض المعالم الأثرية أو مناطق بعينها، وهي تجذب الزوار للحي، للتجول فيها والتنزه بمعالمها التي ما زالت محتفظة برونقها.
- قصر البارون: إحدى العلامات المميزة للحي، ويقع في قلبه، وبالتحديد في شارع العروبة، وهو من أهم التحف المعمارية التي شُيِّدَت بمصر الجديدة، بل وفي مصر بشكل عام، فعبر صورته المعمارية ذات الطراز الهندي، واللون البني المحروق (السيينا)، يقف متميزاً عن بقية المدينة.
أنشأه البارون إمبان في الفترة بين 1907 و1911، وهو رجل أعمال وصناعة بلجيكي الأصل، منحه ملك بلجيكا لقب «بارون» نظراً لما حققه من نجاحات اقتصادية كبرى، وقد كلف المهندس المعماري الفرنسي ألكساندر مارسيل ببناء هذه التحفة المعمارية.
يتكون التصميم الداخلي للقصر من بدروم وطابقين يعلوهما سطح؛ وتحيط بالقصر حديقة كبيرة من جميع الجهات. خُصص بدروم القصر مسكناً للخدم، ويتكون من مجموعة من الغرف تربطها ممرات وأبواب. ويتوسط مبنى القصر سلم حلزوني، ومصعد يربط جميع أدوار القصر بالبدروم.
يتكون الدور الأرضي من غرفة استقبال، وغرفة طعام، بالإضافة إلى غرفة للبلياردو. أما الدور الأول فيتكون من أربع غرف، لكل منها الشرفة والحمام الخاص بها. أما عن سطح القصر فهو بمثابة مساحة مفتوحة تقع بأحد جوانب البرج المميز لقصر البارون.
يفتح القصر أبوابه من 9 صباحاً إلى 6 مساء، وأسعار التذاكر للأجانب تبلغ 100 جنيه مصري، (الدولار يساوي 30 جنيهاً في المتوسط)، كما يمكن زيارة بانوراما سطح القصر بتذكرة منفصلة عن تلك الخاصة بزيارة القصر بقيمة 50 جنيهاً، كذلك تتاح جلسات التصوير بالقصر مقابل 800 جنيه.
- قصر السلطانة ملك: يقع أمام قصر البارون مباشرة، وأحد أهم القصور التاريخية وأجملها في مصر. يعود إنشاؤه إلى بدايات القرن العشرين، وتم أخيراً الانتهاء من ترميمه وافتتاحه كمركز للإبداع الرقمي وريادة الأعمال.
كان القصر معروفاً باسم صاحبه الأمير حسين كامل، ثم شاعت تسميته بقصر السلطانة ملك، زوجته التي عاشت فيه، وأحياناً يطلق عليه قصر السلطان نسبة إلى اسم الشارع المجاور له. ويعد القصر من أوائل المباني التي شُيدت في حي مصر الجديدة، حيث بدأت أعمال تشييده في صحراء هليوبوليس شمال شرقي القاهرة، بين عامي 1906 و1907.
- كنيسة البازيليك: وهي كنيسة تاريخية أسسها أيضاً مؤسس الحي، وهي تتوسط مصر الجديدة، ويمكن أن تراها ماثلة أمامك من شوارع مصر الجديدة الرئيسية. وتتسم بتصميمها المعماري الفريد على الطراز البيزنطي المشابه لكاتدرائية آيا صوفيا في إسطنبول. وقد دفن البارون إمبان في «البازيليك» عام 1930، حسب وصيته، رغم وفاته في مسقط رأسه بلجيكا.
وبجانب الآثار التاريخية، تتعدد مناطق مصر الجديدة التي يمكن زيارتها، وأبرزها:
- الكوربة: هي منطقة تعد متحفاً مفتوحاً بلا أسوار، حيث يوجد ميدان ذو طبيعة خاصة، يتميز بشكله المثلث، ترقد على أضلاعه ثلاث بنايات ضخمة صممت بهندسة معمارية فريدة من نوعها، إلى جانب انتشار الكافيهات ذات الطابع الغربي.
وترجع تسمية الميدان بهذا الاسم «لا كوربيه» إلى استدارة الشارع على غير عادة الشوارع في ذلك الوقت، والكلمة تعني بالإيطالية: الانحناءة، أو القوس، حيث كان المترو يأخذ انحناءة أو دوراناً في هذا المكان، فكان «الكمساري» البلجيكي الجنسية ينادي بكلمة «الكورب» فصارت اسماً للمكان.
يتميز هذا الميدان ببنايات ضخمة صممت بهندسة معمارية فريدة من نوعها، ومن هذا الميدان كانت بداية مصر الجديدة ذات «البوائك» أو الأقواس التاريخية التي يشتهر بها ميدان الكوربة. ويضم الميدان فندق «هليوبوليس بالاس»، أو قصر الاتحادية (قصر الرئاسة الآن)، الذي يعد درة تاج الكوربة. وقد بدأ العمل فيه عام 1906، وافتتح عام 1910 في حفل فخم.
ويشهد «الكوربة» وفود المصريين والعرب والأجانب من مختلف الفئات السِّنية، كما أن أصول بعض ساكنيه تمتد لجذور أجنبية، للاحتفال بأجواء الأعياد والمناسبات المختلفة، مع تخليد الذكرى بالتقاط الصور التي تتزين خلفيتها بالتراث المعماري الأوروبي المميز. كما يضم كثيراً من المحال التجارية والمطاعم والكافيهات والأسواق التجارية.
- روكسي: تعد من أكثر المناطق التجارية التي تجذب نحوها المواطنين، لا سيما متاجر بيع الملابس، كما أن بها كثيراً من المتنزهات والكافيهات والمطاعم.
- شوارع وميادين مصر الجديدة: يوجد بالحي عدد كبير من الشوارع والميادين الحديثة التي تربط بين المناطق وبعضها ببعض، وأهمها: ميدان تريومف، وميدان المحكمة، وميدان سفير، وميدان سانت فاطيما، وميدان الجامع، وميدان هليوبوليس، وميدان الإسماعيلية، وشارع الحجاز، وشارع الأهرام، وشارع الميرغني، وشارع إبراهيم اللقاني.

خدمات ترفيهية
تتمثل الخدمات الترفيهية في مصر الجديدة في وجود كثير من المراكز التجارية الضخمة، وأهمها «سيتي ستارز مول»، و«سيتي سنتر ألماظة»، اللذان يعدان من أشهر المراكز التجارية المصرية، إلى جانب عدد من دور السينما. ويضم الحي عدداً من الحدائق الشهيرة، مثل حديقة «الميريلاند» وحديقة «الغابة»، كذلك يضم الحي مكتبة مصر الجديدة، ومطار القاهرة الدولي، ومدينة ملاهي «السندباد»، وعدداً كبيراً من النوادي الرياضية والاجتماعية، ومنها: الغابة، والشمس، وهليوبوليس.
كما تكثر في مصر الجديدة المطاعم والكافيهات، القديمة والحديثة، الفاخرة والشعبية، والتي تنتمي لكافة المطابخ العالمية، وتمتاز بتصاميم رائعة ومميزة، وجميعها يواكب متطلبات المكان وسكانه وزواره، وتناسب جميع الأذواق والفئات.

أين تقيم؟
إذا كنت ترغب في الإقامة بمصر الجديدة، فأمامك مجموعة كبيرة من الفنادق التي يمكن الاختيار من بينها، وأهمها:
- فندق «توليب الجلاء» مصر الجديدة (يبعد حوالي 5 كيلومترات عن مطار القاهرة الدولي). وفندق «لو ميريديان» مطار القاهرة (يرتبط الفندق بمبنى رقم 3 للركاب بمطار القاهرة الدولي). وفندق «هيلتون هليوبوليس» (يبعد حوالي 5 كيلومترات عن مطار القاهرة الدولي). وفندق «تريومف بلازا» (يبعد عن مطار القاهرة الدولي مسافة 30 دقيقة بالسيارة). وفندق «البارون» (يواجه قصر البارون مباشرة، ويقع على بعد 12 كيلومتراً من مطار القاهرة الدولي).

التنقل والمواصلات
ما يميز حي مصر الجديدة سهولة الوصول إليه من جميع أنحاء القاهرة، فهو قريب من مطار القاهرة الدولي وكذلك من وسط القاهرة، كما يمكن الوصول إليه بشتى أنواع المواصلات، كما يمر به الخط الثالث لمترو الأنفاق (في محطتي كلية البنات والأهرام).


مقالات ذات صلة

«الأزهر» يؤكد رفضه القطعي لدعاوى «الديانة الإبراهيمية»

شمال افريقيا «الأزهر» يؤكد رفضه القطعي لدعاوى «الديانة الإبراهيمية»

«الأزهر» يؤكد رفضه القطعي لدعاوى «الديانة الإبراهيمية»

أعلنت مشيخة الأزهر في القاهرة «رفضها القطعي لدعاوى (الديانة الإبراهيمية)». وأكدت دعمها لـ«التعاون» بين الأديان وليس دمجها.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا جورجيت جبارة... ذكريات «الباليرينا» العربية الرائدة

جورجيت جبارة... ذكريات «الباليرينا» العربية الرائدة

في وقتٍ كان فيه كل لبناني يغنّي على ليل قضيّته، جعلت جورجيت جبارة من الباليه الكلاسيكي قضيتها. عبرت به خطوط التماس وحواجز المسلّحين بين «شرقيّة» و«غربيّة»، من بيروت المسيّجة بالنيران إلى طرابلس شمالاً. بحذاء «الساتان» الزهري قطعت الأميال بين مدرسة زرعتها في شارع «الحمراء»، وأخرى في عاصمة الشمال، وما بينهما معهد الرقص الذي امتدّ على وسع أحلامها في قضاء كسروان. عمر الباليرينا قصير كحياة فراشة، لكن جورجيت جبارة وهي فوق ثمانينها، ما زالت مسكونة بالرقص. صحيحٌ أن جسدها اعتزله منذ 35 عاماً، إلا إن روحها تنبض به.

كريستين حبيب (بيروت)
شمال افريقيا القاهرة تستضيف النسخة الرابعة  من معرض «طلال تاريخ تقرأه الأجيال»

القاهرة تستضيف النسخة الرابعة من معرض «طلال تاريخ تقرأه الأجيال»

بمناسبة مرور 35 عاماً على تأسيس الأمير طلال بن عبد العزيز، المجلس العربي للطفولة والتنمية، يستضيف المجلس معرض «طلال تاريخ تقرأه الأجيال»، في نسخته الرابعة 2023 في مقرّه بالقاهرة. وقال الأمير عبد العزيز بن طلال بن عبد العزيز، رئيس المجلس، لـ«الشرق الأوسط»: «يتناول المعرض ملامح مسيرة مؤسسه الأمير طلال بن عبد العزيز، وعطاءاته للإنسانية ودوره في حفز الاهتمام بمختلف أبعاد قضايا الطفل العربي، ويسلط الضوء على أسباب إنشاء المجلس، وكذلك أسباب إنشاء المنظمات التنموية المختلفة التي دشّنها الأمير طلال، سواء كانت للمرأة أو للطفل، أو للتنمية المستدامة، أو الشبكة العربية للمنظمات الأهلية، أو حتى فيما يتعلق ب

نادية عبد الحليم (القاهرة)
شمال افريقيا حريق دار مسنين في القاهرة يعيد أزمة «الحماية المدنية» للواجهة

حريق دار مسنين في القاهرة يعيد أزمة «الحماية المدنية» للواجهة

أعاد حريق دار مسنين في القاهرة الحديث عن «إجراءات الحماية المدنية».

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق من أعمال الفنانة مريم حتحوت بمعرضها الحالي (حتحوت)

لماذا ألهم الحمار تشكيليين مصريين؟

بألوان دافئة وخطوط معاصرة تقدم الفنانة مريم حتحوت رؤية فلسفية واجتماعية للحمار من خلال 30 لوحة في معرضها المقام حالياً بغاليري «ديمي» بالقاهرة، بعنوان «تنويعات على الحمار»، تتضمن جميع اللوحات معالجات بصرية تثير تعاطف المتلقي معه، وتجعله يشعر بالألفة تجاهه. وتُعَدُّ لوحات حتحوت في المعرض حلقة من سلسلة أعمال ومعارض وفعاليات تشكيلية مصرية كثيرة احتفت بهذا الحيوان على مدى سنوات طويلة، لم تقتصر على الفنانين الذين تصدوا لتناول الريف المصري؛ فالحمار لم يكن مجرد عنصر بارز من عناصر البيئة لمن أراد استلهامها في تجربته الإبداعية، إنما امتد تجسيده ليمثل جزءاً أساسياً في بعض الأعمال. وكان الفنان المصري الر

نادية عبد الحليم (القاهرة)

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
TT

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

تأكيدات مصرية على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، بشأن «الدور النبيل» الذي تقوم به القوات المصرية ضمن بعثات حفظ السلام عبر «تعزيز السلم والأمن» في أفريقيا، وأنها تعكس «الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في القارة السمراء».

تصريحات وزير الخارجية جاءت خلال زيارته للكتيبة المصرية ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية، التي تأتي أيضاً قبيل أسابيع من مشاركة جديدة مرتقبة مطلع العام المقبل في الصومال ضمن قوات حفظ سلام أفريقية، وسط تحفظات إثيوبية التي أعلنت مقديشو استبعاد قواتها رسمياً، وأرجعت ذلك إلى «انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الزيارة المصرية للقوات التي يمر على وجودها نحو 25 عاماً، تعد بحسب خبراء تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، تأكيداً على «الحضور المتنامي للقاهرة، وتعزيزاً لمشاركاتها بالقارة السمراء»، مستبعدين أن تتحول أي تحفظات إثيوبية تجاه الوجود المصري بمقديشو لمواجهات أو تصعيد عسكري.

وبحسب ما كشفته «الخارجية المصرية» في أواخر مايو (أيار) 2024، «فمنذ عام 1960، عندما أرسلت مصر قواتها إلى عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، خدم ما يزيد على 30 ألفاً من حفظة السلام المصريين في 37 بعثة لحفظ السلام في 24 دولة، وبصفتها واحدة من كبريات الدول التي تسهم بقوات نظامية في عمليات حفظ السلام، تنشُر مصر حالياً 1602 من حفظة السلام من النساء والرجال المصريين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو الديمقراطية والسودان وجنوب السودان والصحراء الغربية».

ووفق تقديرات نقلتها «هيئة الاستعلامات» المصرية الرسمية، منتصف يونيو (حزيران) 2022، تسترشد مصر في عمليات حفظ السلام بثلاثة مبادئ أممية أساسية، وهي «موافقة الأطراف والحياد، وعدم استعمال القوة إلا دفاعاً عن النفس، ودفاعاً عن الولاية».

بدر عبد العاطي يصافح كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

وتاريخياً، شاركت مصر في قوات حفظ السلام بأفريقيا في «الكونغو أثناء فترة الحرب الأهلية من 1960 إلى 1961، ثم من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وكوت ديفوار لمساعدة الأطراف الإيفوارية على تنفيذ اتفاق السلام الموقع بينهما في يناير (كانون الثاني) 2003، والصومال في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1992 إلى فبراير (شباط) 1995، وأفريقيا الوسطى من يونيو 1998 إلى مارس (آذار) 2000، وأنغولا من 1991 وحتى 1999، وموزمبيق من فبراير 1993 إلى يونيو 1995، وجزر القمر من 1997 وحتى 1999، وبوروندي منذ سبتمبر (أيلول) 2004، وإقليم دارفور بالسودان منذ أغسطس (آب) 2004».

وضمن متابعة مصرية لقواتها، التقى بدر عبد العاطي، الجمعة، مع أعضاء كتيبة الشرطة المصرية المُشاركة في مهام حفظ السلام ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في الكونغو الديمقراطية خلال زيارته التي بدأت الخميس، واستمرت ليومين إلى العاصمة كينشاسا، لتعزيز التعاون بكل المجالات، وفق بيان صحافي لـ«الخارجية المصرية».

وقال عبد العاطي إن «مصر إحدى كبرى الدول المساهمة في قوات حفظ السلام الأممية»، مؤكداً أن «وجود الكتيبة المصرية في الكونغو الديمقراطية يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين وأهمية الشراكة الاستراتيجية مع دول حوض النيل الجنوبي». كما نقل وزير الخارجية، رسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتضمن سبل تعزيز العلاقات، وإحاطة بما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون خلال زيارته وتدشين «مجلس أعمال مشترك».

ووفق الخبير في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، فإن كلمة السر في مشاركة مصر بشكل معتاد ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا بشكل عام هي «طبيعة القوات المصرية حيث تتجلى الإمكانات العالية والخبرات التاريخية المتراكمة، ما جعل مصر دائمة المشاركة والحضور ضمن قوات حفظ السلام منذ أزمان بعيدة»، مؤكداً أن لمصر تجارب عدة في العمل ضمن بعثات حفظ السلام في كثير من دول أفريقيا التي شهدت نزاعات وأوضاع أمنية بالغة التعقيد، مثل ساحل العاج، والكونغو، وأفريقيا الوسطى، وأنغولا، وموزمبيق، وليبيريا، ورواندا، وجزر القمر، ومالي وغيرها.

جانب من كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في مهام حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية (الخارجية المصرية)

الحاج أشار إلى أنه رغم أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها كثير من دول أفريقيا «تزيد من تعقيد» عمل بعثات الأمم المتحدة الخاصة بحفظ السلام في أفريقيا، وعدم قدرة هذه البعثات على إحراز أي تقدم في ظل نقص المؤسسات الديمقراطية الفعالة في عدد من البلدان الأفريقية؛ فإن مصر تدرك جيداً مدى أهمية تكثيف حضورها الأمني في القارة السمراء، باعتبار أن «العدول عن المشاركة المصرية ضمن بعثات حفظ السلام، سوف يترك فراغاً عريضاً» ربما تستغله دول أخرى تنافس مصر في خارطة التمركز الفاعل في أفريقيا.

الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، أوضح أن هناك قوات لحفظ السلام تتبع الأمم المتحدة، وأخرى تتبع الاتحاد الأفريقي، وكل له ميزانية منفصلة؛ لكن يتعاونان في هذا المسار الأمني لحفظ الاستقرار بالدول التي تشهد اضطرابات ومصر لها حضور واسع بالاثنين، مؤكداً أن مشاركة القاهرة بتلك القوات يتنامى ويتعزز في القارة الأفريقية بهدف استعادة الحضور الذي عرف في الستينات بقوته، وكان دافعاً ومساهماً لتأسيس الاتحاد الأفريقي والحفاظ على استقرار واستقلال دوله.

وهو ما أكده وزير الخارجية المصري خلال زيارته للكتيبة المصرية بالكونغو الديمقراطية بالقول إن «المشاركة في بعثات حفظ السلام تعكس الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في أفريقيا، والمساهمة الفاعلة في صون السلم والأمن الدوليين».

هذا التأكيد المصري يأتي قبل نحو شهر من المشاركة المصرية في قوات حفظ السلام الأفريقية، بالصومال، حيث أكد سفير مقديشو لدى مصر، علي عبدي أواري، في إفادة، أغسطس الماضي، أن «القاهرة في إطار اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي من يناير 2025 وتستمر حتى عام 2029. بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية»، قبل أن تعلن مقديشو، أخيراً «استبعاد القوات الإثيوبية رسمياً من المشاركة في عمليات البعثة الجديدة؛ بسبب انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الرئيس الصومالي خلال توقيعه قانوناً في يناير الماضي يُبطل مذكرة تفاهم «أرض الصومال» وإثيوبيا (حساب الرئيس الصومالي على «إكس»)

ولم تعلق أديس أبابا رسمياً على هذا الاستبعاد، لكن تحدّث وزير الخارجية الإثيوبي السابق، تاي أصقي سيلاسي، في أغسطس الماضي، عن الموقف الإثيوبي بشأن البعثة الجديدة لقوات حفظ السلام في الصومال، حيث طالب بـ«ألا تشكّل تهديداً لأمننا القومي، هذا ليس خوفاً، لكنه تجنّب لإشعال صراعات أخرى بالمنطقة»، مؤكداً أن بلاده «أصبحت قوة كبرى قادرة على حماية مصالحها».

وعدَّ الخبير الاستراتيجي المصري أن استمرار الوجود المصري في قوات حفظ السلام على مدار السنوات الماضية والمقبلة، لاسيما بالصومال له دلالة على قوة مصر وقدرتها على الدعم الأمني والعسكري وتقديم كل الإمكانات، لاسيما التدريب وتحقيق الاستقرار، مستبعداً حدوث أي تحرك إثيوبي ضد الوجود المصري في الصومال العام المقبل.

فيما يرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن الاستعداد القوي الذي أظهرته مصر للمشاركة ضمن بعثة حفظ السلام في الصومال، يأتي من واقع الحرص المصري على استتباب الأمن في هذه البقعة الاستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لأن استتباب الأمن في الصومال يعني تلقائياً تأمين حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومن ثم ضمان انسياب الحركة التجارية الدولية عبر قناة السويس. فضلاً عن أن مصر لن تنزوي بعيداً وتترك الصومال ملعباً مميزاً للقوات الإثيوبية، خصوصاً بعدما أبرمت إثيوبيا اتفاقاً مطلع العام مع إقليم «أرض الصومال» لاستغلال منفذ «بربرة» البحري المطل على ساحل البحر الأحمر.

وفي تقدير عبد الناصر الحاج فإن نجاح مصر في أي مشاركة فاعلة ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا، يتوقف في المقام الأول، على مدى قدرة مصر في انتزاع تفويضات واسعة من مجلس السلم والأمن الأفريقي لطبيعة عمل هذه البعثات، بحسبان أن إحدى المشكلات التي ظلت تسهم في إعاقة عمل بعثات حفظ السلام، هي نوعية التفويض الممنوح لها؛ وهو الذي ما يكون دائماً تفويضاً محدوداً وقاصراً يضع هذه البعثات وكأنها مُقيدة بـ«سلاسل».

وأوضح أنه ينبغي على مصر الاجتهاد في تقديم نماذج استثنائية في أساليب عمل قواتها ضمن بعثات حفظ السلام، بحيث يصبح الرهان على مشاركة القوات المصرية، هو خط الدفاع الأول لمدى جدواها في تحقيق غاية حفظ السلام.