الأدب السعودي أمام متغيرات المرحلة

في مجاميع صدرت بعد الألف الثانية انفتح أفق لشعرية أكثر رحابة

الأدب السعودي أمام متغيرات المرحلة
TT

الأدب السعودي أمام متغيرات المرحلة

الأدب السعودي أمام متغيرات المرحلة

ينقل الناقد المصري عمار علي حسن في كتابه «النص والسلطة والمجتمع» عن نجيب محفوظ قوله إن انحسار عهد عبد الناصر جرد الكتّاب من مصدر كان يمد الكتابة بالحيوية، كما تمثلت في مخاتلة الرقيب بغية تناول موضوعات لم يكن من المسموح تناولها. يقول محفوظ: «إن المبدعين في السبعينات كانوا أحراراً في أن يقولوا ما يشاءون في أحاديثهم ومقالاتهم، وهو ما جنى على الجانب الإبداعي لديهم، حيث لم تكن أمامهم تحديات كتلك التي وجدت في الستينات، والتي قادت إلى إنجاز الأعمال الإبداعية، بما فيها من رموز وإسقاطات للتعبير عما يريدونه».
هذا الرأي صحيح إلى حد بعيد، أي ليس على إطلاقه، ولا أظن محفوظ قصد الإطلاق، ذلك أن في مصر، كما في كل البلاد العربية ودول أخرى كثيرة في العالم، ظل هامش الكتابة مقيداً بأطر تتسع أو تضيق، لكنها ظلت قائمة. صحة الرأي في نسبيته، أي أنه بالقياس إلى ما كان عليه الوضع يمكن القول إن هامشاً قد اتسع. ذلك الاتساع مهم في كل الحالات، حتى حين نسلّم بنسبيته. وهو مهم أيضاً للتعرف على الأثر الذي يتركه في طبيعة الكتابة الأدبية والإنتاج الثقافي بأنواعه المختلفة من الفكر إلى الفن إلى العلم.
ملاحظة نجيب محفوظ مطروحة اليوم على بيئات اجتماعية وثقافية تعيش عهداً غير مسبوق من الانفتاح الاجتماعي؛ حيث اتسع هامش المسموح به اتساعاً لم يكن من المحلوم به لدى معظم الراغبين فيه المنادين إليه. ولعل البيئة السعودية هي التي ستخطر ببال من يقرأ هذا الكلام. ذلك أن المملكة منذ سنوات قلائل كانت تعيش حالة اختناق اجتماعي وثقافي قد يسميه البعض ضوابط أو التزاماً، وهناك من سيسميه محافظة، ومن المؤكد أن هناك من يراه الطريق القويم الذي ضل عنه المجتمع. لكن هناك من سيراه الطريق المطلوب منذ أمد بعيد، أي الابتعاد عن طرق التشدد غير المبرر، والقسر الاجتماعي الذي لا تقره سماحة الدين واتساع مساحة الاختلاف وتعدد الآراء في كثير من المسائل.
الأدب السعودي منذ بدايته هو قصة التفاعل وسط بيئات اجتماعية وثقافية محافظة، ومساعي الكتّاب للوصول إلى منطقة من التوازن التي تسمح بإنتاج أعمال تحقق معادلة الجمال والقيمة الدلالية ضمن القيم والضوابط السائدة. ولكن تلك البيئات لم تكن متماثلة في درجة الانفتاح أو المحافظة. كانت دائماً بيئات مختلفة باختلاف مناطق المملكة التي جمعت أطراف الجزيرة العربية؛ من الحجاز المتاخم لمصر والسودان حتى الأحساء الخليجية، ومن الشمال القريب من الشام حتى عسير ونجران وجيزان في جنوب الجزيرة العربية، وصولاً إلى نجد التي ظلت معزولة نسبياً وسط الجزيرة إلى أن اتسعت صلاتها مع تطور الدولة وتعدد مشارب التأثير وقنوات الاتصال. تنوع جغرافي وسكاني وثقافي انعكس بالضرورة على المنتج الفكري والثقافي، وأفرز من ثم صوراً مختلفة من التفاعل البيئي على امتداد ما يقارب القرن من النشاط والإنتاج المتعدد والمتأثر ببيئات قريبة؛ مصر والشام والعراق واليمن، بل الهند وإيران، وغيرها.
ذلك التعدد أو التنوع في الإنتاج وما صاحبته من حريات وقيم متفاوتة هو الذي تأثر بصورة مباشرة بما مرت به المملكة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أو بالتحديد بعد حادثة الحرم المكي على يد جماعات حملت لواء التشدد والاعتراض على ما كانت المملكة تحققه على مستويات تنموية شملت الفنون والحياة الاجتماعية والاقتصادية. الأعمال الأدبية التي صدرت في تلك الفترة كانت مرايا لما كان يحدث بقدر ما كانت محاولات متواصلة لاختراق القيود الصماء التي أقامها جهاديون وبعض المنتمين لهيئة الأمر بالمعروف، أو من قدموا أنفسهم إلى المجتمع على أنهم حماة للفضيلة. في روايات لكتاب مثل تركي الحمد وبدرية البشر ويوسف المحيميد، وقصائد لشعراء مثل فوزية أبو خالد ومحمد الثبيتي وعبد الله الصيخان، ومقالات وروايات لكتاب مثل عبد الله بن بخيت، وقصص قصيرة لمحمد علي علوان وصالح الأشقر، وأعمال لغازي القصيبي، من بينها ردوده على خطاب التشدد الديني ومساجلاته معهم، في كل ذلك وغيره كثير قلق وغضب ومحاولات متصلة لاستعادة صوت الاعتدال والانفتاح النسبي، بغية اختراق القيود التي لم تفرضها الدولة بقدر ما أقامتها تلك الجماعات المتطرفة على اختلاف توجهاتها.
ذلك الخطاب المناهض للتشدد لم يكن بطبيعة الحال هو كل ما هنالك، فقد أنتج كثيراً مما ليس له صلة بالتشدد الديني، فما أنتجه من أساليب لمواجهة ذلك الخطاب وفي مسعى لمناهضته وتجاوزه، تحول إلى سمة لأعمال أدبية كثيرة حتى صار جزءاً أساسياً لفهم المشهد الثقافي والإبداعي السعودي. بمعنى أننا لكي نعرف الأعمال الأدبية من سرد وشعر علينا أن نتذكر أنها كتبت وفي خلفيتها رفض ضمني لما انتشر من تطرف ديني. والسؤال الآن: بانحسار ذلك التطرف، إلى أين سيتجه أولئك الذين تشكل خطابهم الإبداعي على مناهضة تلك التوجهات الجهادية والوعظية المتطرفة؟
لن تكون المشكلة بطبيعة الحال نضوب القدرات الإبداعية، وإنما ستكون نضوب مفردات التعبير الشعري واستراتيجيات السرد والبلاغة التي تشكلت ضمن تلك المواجهات. أي أن تلك المفردات والاستراتيجيات قد تصاب بما سمّته سلمى الخضراء الجيوسي «الإرهاق الجمالي»، أي افتقارها للقيمة الإبداعية. وفي تقديري أن من بين سمات الخطاب الذي تشكل من تلك المفردات والسمات سمة الغموض أو الرموز الشعرية المتخفية، لا لأسباب فنية فحسب وإنما أيضاً للالتفاف على خطاب التطرف. من أمثلة ذلك قول الشاعر عبد الله الصيخان مخاطباً الوطن:
وأنت البسيط
البسيط، فقل للعصافير
إن الفضاء مديح اتساع لعينيك كي لا تطير
فإن العصافير خائفة،
فكن وطني ممعناً في الهدوء
لكي تعتلي ذروتك.
أو في قول محمد الثبيتي:
«صب لنا وطناً في الكؤوس
يدير الرؤوس»،
أو قوله في موضع آخر:
فارتبت في الأوطان
«لا تحمي العليل من الردى»
وارتبت في الشطآن
«لا تروي الغليل من الصدى»
فذهبت في بحر الجنون عميقا.
إنه النداء لوطن أحس أولئك بأنه مختطف وغريب. ذلك الاختطاف هو الذي جعل محمد العلي -أحد رواد الحداثة الشعرية- يقول: «لا ماء في الماء»، أي لا وطن في الوطن. لكن وقع الاختطاف كان أشد ما يكون على المرأة. وقد وجدت الشاعرة فوزية أبو خالد اختصاراً مجازياً له في عنوان ديوانها «إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟» كما في خطاب الاحتجاج الشعري الفائر في تضاعيف ذلك الديوان.
في مجاميع شعرية صدرت بعد الألف الثانية، استطاع الخطاب الشعري لدى فوزية أبو خالد نفسها ولدى غيرها مثل علي الدميني ومحمد الدميني وأشجان الهندي وأحمد الملا، وشعراء تلك الألفية مثل محمد إبراهيم يعقوب وعبد اللطيف بن يوسف وهيفاء الجبري وعبد الوهاب أبو زيد وغيرهم، أن يفتحوا أفقاً لشعرية أكثر رحابة في انفتاحها على الإنساني والعاطفي، مثلما حدث لدى روائيين مثل أميمة الخميس ومحمد حسن علوان وعبده خال وآخرين. لكن ذلك الانفتاح على المختلف من الهموم والانشغالات لم يشمل الجميع أو الأكثرية بعد. وحين يحدث ذلك فسيصل المنتج الأدبي إلى فضاءات مغايرة؛ لكنها لن تخلو من تحديات أخرى وهموم مرحلة مختلفة. ذلك أن خفوت حس التطرف وسطوته لا يعني الوصول إلى «يوتوبيا» موعودة، بل إن لهذه المرحلة مشكلاتها أو تحدياتها التي نرى كثيراً منها حولنا. وفي طليعتها التشظي الاجتماعي أو تراخي العلاقات الأسرية، وطغيان الفردية والعلاقات السائلة. كما أن منها تراجع الهوية الثقافية تحت ضغوط العولمة؛ سواء تمثل ذلك في طغيان الإنجليزية في التواصل اليومي، أو تبني عادات وأنماط سلوكية ومظهرية غربية. ولنتذكر هنا أن الحداثة الأدبية التي انتشرت في الثمانينات لم تنحصر في مواجهة التزمت الديني، وإنما تضمنت أيضاً مواجهة لبعض النتائج السلبية للحداثة نفسها، بطغيان المدن التي «بلا قلب»، بتعبير أحمد عبد المعطي حجازي. تلك المدن هي عنوان المرحلة اليوم بإيجابياتها وسلبياتها، وليس أكثر من الأدب وعياً بتلك المتغيرات وتفاعلاً معها. السؤال هو: أي لغة سيطورها الأدب لمواجهة تلك المتغيرات؟ وأي موقف سيتخذ؟
إن الأدب الجاد ليس ناتجاً للبهجة ولا لليأس، وإنما هو ناتج للتفاعل الشفاف والمعمق، أي المركّب، مع ما يحدث داخل الإنسان وخارجه، ولعل عبارة للشاعر الآيرلندي ييتس تختصر بعض ذلك، حين قال: «من خصومتنا مع الآخرين تنتج البلاغة، ومن خصومتنا مع أنفسنا ينتج الشعر».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

حملة على مواقع التواصل ترفض دخول أحد قيادات «الأفروسنتريك» إلى مصر

كابا كاميني في إحدى زياراته لمصر (صفحته على «فيسبوك»)
كابا كاميني في إحدى زياراته لمصر (صفحته على «فيسبوك»)
TT

حملة على مواقع التواصل ترفض دخول أحد قيادات «الأفروسنتريك» إلى مصر

كابا كاميني في إحدى زياراته لمصر (صفحته على «فيسبوك»)
كابا كاميني في إحدى زياراته لمصر (صفحته على «فيسبوك»)

عادت قضية «الأفروسنتريك» للواجهة مجدداً في مصر، مع انتشار إعلان لأحد قيادات حركة «الأفروسنتريك» ودعاتها المشهورين، يدعي البروفسير كابا كاميني، عن إنتاج فيلم وثائقي حول الأصول الأفريقية للحضارة المصرية القديمة، والإعلان عن قرب زيارته لمصر، وفق متابعين له.

وتصاعدت حملةٌ على وسائل التواصل تشير إلى أن «وجود كابا في مصر غير مرحب به»، وتصدر اسمه «الترند» على «إكس» في مصر، الأربعاء، تحت عنوان «مش عايزين كابا في مصر».

وأعلن «البروفسور كابا»، كما يسمي نفسه على صفحته بـ«فيسبوك»، عن فيلم وثائقي تم إنتاجه بالفعل، ومن المقرر عرضه يوم 20 يونيو (حزيران) الحالي بعنوان «نيجوس إن كيميت»، وترجمتها «الملك في مصر» أو «الملك في الأرض السوداء»، وقُوبل هذا الإعلان بسيل من التعليقات على صفحة الناشط الأميركي مفادها أنه «غير مرحب به في مصر».

ونشرت صاحبة حساب على «إكس» تدعى «جيسي يسري» صورة لكابا وهو يمسك مفتاح الحياة «عنخ» وكتبت معلقةً أن هذا هو «كابا» زعيم «الأفروسنتريك» الذين يقولون إنهم أحفاد المصريين القدماء، وإن المصريين الحاليين دخلاء على مصر. ولفتت إلى أن «كابا» سيأتي إلى مصر الجمعة المقبل 20 يونيو (حزيران) الحالي، وأنه نظم تجمعاً اسمه «زنوج كيميت»، ومن المعروف أن «كيميت» هو اسم قديم لمصر، ويعني «الأرض السوداء»، وطالبت صاحبة التعليق الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والسياحة بأن يتخذوا الاحتياطات اللازمة، وأن يحرصوا على أن يرافقه مرشدون سياحيون مثقفون وطنيون، لمنع المهازل التي حصلت في زياراته السابقة، وفق تعبيرها.

وعلّق البعض متسائلاً لماذا لا تمنعه وزارة الداخلية من دخول مصر طالما أنه غير مرغوب فيه؟ وتصاعدت تعليقات أخرى ترفض حضوره إلى مصر وتدعو لمنعه من دخولها، في مقابل تعليقات أخرى تدعو لتجاهله وعدم إعطائه قيمة كبيرة لأن الاهتمام به بهذا الشكل يمنحه شهرة.

بينما نشر آخرون ما يفيد بأن المصريين القدماء رسموا الأفارقة على المعابد كأسرى وعبيد مقيدين، رداً على مزاعم «الأفروسنتريك».

وتتكرر بين فترة وأخرى مزاعم من بعض أنصار «الأفروسنتريك» تنسب الحضارة المصرية القديمة إلى الأفارقة السود، وتدعي أن مصر الحديثة تستولي على هذا الإرث وتنسبه إلى غير أصله، وهو ما يصفه عالم الآثار المصري، الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف مكتبة الإسكندرية، بأنها «ادعاءات تفتقر إلى الأساس العلمي، ولا تستند إلى أي أدلة أثرية، لغوية، أو بيولوجية معتمدة».

وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الحضارة المصرية القديمة نشأت على ضفاف النيل، وتميزت باستقلالها الثقافي والديني واللغوي، ولم تكن حضارة معزولة، بل تفاعلت مع محيطها، مع احتفاظها بهويتها المتفردة، والدراسات العلمية المستندة إلى تحليل المومياوات، والنقوش، والفن الجنائزي، واللغة المصرية القديمة، تؤكد جميعها أن سكان مصر القديمة كانوا من أصول محلية تشكلت تاريخياً داخل وادي النيل، ولا يمكن اختزالهم في تصنيفات عرقية حديثة».

أحد منشورات كابا حول الفيلم الوثائقي (صفحته على «فيسبوك»)

ويدعو عبد البصير إلى التعامل مع مثل هذه الحركات على 3 مستويات، «أولاً المنع إذا ثبت الضرر بالأمن القومي أو التحريض على الكراهية، ثانياً عدم التضخيم الإعلامي لهم حتى لا يحصلوا على شهرة لا يستحقونها، ثالثاً تقوية أدوات المعرفة والدفاع الثقافي الوطني عبر برامج وخطط التوعية المتنوعة».

وتأسست حركة «الأفروسنتريزم» أو «الأفروسنتريك» في ثمانينات القرن العشرين على يد الناشط الأميركي أفريقي الأصل موليفي أسانتي، الذي قدم العديد من الكتب، بل وأنشأ معهداً للأبحاث باسمه يسعى من خلاله لإعادة تقييم وتقدير الثقافة الأفريقية وإثبات مركزيتها في الحضارات القديمة، وفق تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية.

فيما يشير عالم الآثار المصري، الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، إلى وجود «حرب شرسة من (الأفروسنتريك) على الحضارة المصرية تتعدد أشكالها، تمثلت في عرض شبكة (نتفليكس) فيلم (الملكة كليوباترا) الذي يسيء إلى الحضارة المصرية، ويُظهر الملكة كليوباترا ببشرة سوداء ترويجاً لفكر (الأفروسنتريك) بأن الحضارة المصرية أصلها أفريقي في تحدٍ واضحٍ للرفض المصري من متخصصين وغيرهم لهذا الطرح».

ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أن «الدعوات التي تطالب بمنع دخول دعاة هذه الحركة إلى مصر تعتمد على رأي الجهات الأمنية، وإذا لم تتمكن فصراعنا هو صراع هوية ومجابهة الغزو الفكري تعتمد على تعزيز الهوية وبناء الإنسان المصري، وتأكيد عمق وجذور الشخصية المصرية وهو أقوى الأسلحة»، مطالباً بـ«خطة ممنهجة وممولة من وزارة الثقافة ووزارة السياحة والآثار لمجابهة (الأفروسنتريك) عبر برامج إعلامية موجهة باللغة العربية وعدة لغات لتوضيح حقيقة الهوية والشخصية المصرية عبر العصور، لأن هذه الحركات هدفها الطعن في الهوية».

وسبق أن تصاعدت قضية «الأفروسنتريك» في مصر مع إنتاج شبكة «نتفليكس» فيلماً عن الملكة كليوباترا عام 2023، يظهرها ببشرة سمراء وشعر مجعد، وهو ما اعترضت عليه وزارة السياحة والآثار، ووصفته بـ«تزييف التاريخ» و«المغالطة الصارخة»، ونشرت أدلة تؤكد الملامح اليونانية التي كانت تتمتع بها الملكة البطلمية، صاحبة البشرة البيضاء والملامح الرقيقة، وأكدت الوزارة وقتها بالأدلة وفحوصات الحمض النووي للمومياوات أن «المصريين القدماء لا يحملون ملامح الأفارقة».

جانب من الصور التي نشرها كابا عن الفيلم الوثائقي (صفحته على «فيسبوك»)

ويرى الخبير السياحي والباحث في الحضارة المصرية القديمة، بسام الشماع، أن «(الأفروسنتريك) الذين يدّعون أن الحضارات الأفريقية القديمة التي كانت قائمة جنوب الصحراء تم السطو عليها من المصريين، لم ينجحوا في إثبات ما يدعونه، بل وأرى هناك مبالغة في إعطائهم أكثر من قدرهم»، وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «من واقع خبرتي كمرشد سياحي أرى مبالغة كبيرة في إعطاء هذه الحركة قيمة، فهم يحاولون منذ نحو 100 سنة أن يرسخوا فكرهم ولكنهم فشلوا، وحين تم إنتاج فيلم (الملكة كليوباترا) السمراء أثبتت الإحصاءات أنه حصل على أقل نسبة مشاهدة في تلك الفترة».

وأشار إلى محاولات أخرى لسرقة الحضارة المصرية أو تزييفها، موضحاً: «هناك محاولات من اليهود للسطو على الحضارة المصرية ومحاولات من الأميركيين والتقنيين لترويج فكرة أن الكائنات الفضائية هي التي صنعت الحضارة المصرية، وهذه الدعاوى هي ما يجب أن نواجهها بالتوعية العلمية المنضبطة».

وأضاف الشماع أن «زمن المنع انتهى، لن نستطيع منع هؤلاء من دخول مصر، بل بالعكس فكرة تصويرهم على أنهم عبيد أو المنع سيجذب التعاطف معهم عالمياً، لذلك يجب أن يتم مواجهتهم بشكل عملي أكثر جدية»، ودعا إلى «إقامة مؤتمر دولي أمام الأهرامات يضم كبار العلماء في الحضارة، ينتهي بتوصيات تنفي كل المزاعم التي تشاع عن الحضارة المصرية القديمة، مثل مزاعم (الأفروسنتريك) أو الكائنات الفضائية أو المزاعم اليهودية حول الحضارة المصرية».