شوقي أبي شقرا يعيد نشر ترجماته في مجلة «شعر»

رامبو ولوتريامون وريفردي كما في الخمسينات

شوقي أبي شقرا يعيد نشر ترجماته في مجلة «شعر»
TT

شوقي أبي شقرا يعيد نشر ترجماته في مجلة «شعر»

شوقي أبي شقرا يعيد نشر ترجماته في مجلة «شعر»

كتب الكثير عن دور مجلة «شعر» في التمرد على الأوزان والقوافي، وعن شعرائها الذين خاضوا معارك الدفاع عن حداثتهم واختلافهم، وما نشره أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، وغيرهم، لكن كتب أقل عما ترجمه هؤلاء الشعراء أنفسهم لكبار شعراء الحداثة الذين وجدوا فيهم نموذجاً يبنون عليه وينقدونه أحياناً.
وفي محاولة لإلقاء الضوء على طبيعة هذه الترجمات، وإعادة التعريف بها، قامت «دار نلسون» في بيروت بالتعاون مع «مؤسسة أنور سلمان الثقافية» بإصدار كتاب يجمع ترجمات أحد شعراء مجلة «شعر» البارين، شوقي أبي شقرا، كما صدرت حينها، مصورة ومجتمعة مع دراسات كتبها في حينه، إضافة إلى مقدمة جديدة كتبها أبي شقرا لتأطير تلك المرحلة، وشرح رؤيته إليها من وجهة نظره اليوم...
يبدأ كتاب «حبر ترجمات كالخمر يعتق» الذي يصدر بعد أيام، وهو مختارات معربة من شعر رامبو ولوتريامون وريفردي بعبارة «إن الفضاء يلائم الزرافة» ليتحدث أبي شقرا في مقدمته عن الصعود والتحليق في الفضاء الشعري، في نهاية خمسينات القرن الماضي. ويقول إن «تلك الأيام في بيروت وفي مجلة (شعر)، هي ما نحاول أن نكون معها هناك. في تلك المجرة أو المحراب أو الصدفة القوية».
يصف تلك الفترة، بكثير من الحنين والشاعرية، يقول بأنها كانت «ريانة»، «جديدة» و«مقدامة». وعمّا كان يقوم به جماعة مجلة «شعر» يقول: «نحن الرعاة ونحن العصا، لنقود الشعر ونرسل النثر إلى العالم حوالينا. وفي أي مكان. وفي سواء السبيل». وفي مكان آخر نقرأ «ها نحن مرة ثانية وثالثة أمام الدهشة من كوننا القطار الذي يحمل ما حمل من الثمار ومن التكاوين في مدار الوجود». ويسمي أبي شقرا نصوصه بالعربية لهؤلاء الشعراء بأنها «ترجمة مجتهدة»، وهو لا يزال «طرّ الشاربين، طرّ القريحة».
مقدمة المترجم هي تمهيد لترجمات من مختارات الشعراء الثلاث، مقرونة بدراسة عن كل منهم، تجمع بين النقد والشاعرية.
بعد أربع عشرة قصيدة لرامبو يقدم أبي شقرا دراسة عن الشاعر الذي يعتبر أشعاره «مفاجئة، مقتضبة، غنية بالالتفافات، بالأدغال والمواضيع غير المكتشفة». فهذا الطفل الذي ولد عام 1854 في شارلفيل، عندما بلغ الخامسة عشرة، كتب أشعاراً وأرسلها إلى فارلين. أعجب بها هذا الأخير واستدعاه إلى باريس. لا تتحدث الدراسة بوضوح عن العلاقة التي ربطت الشاعرين، وانتهت بإطلاق فارلين النار على معصم رامبو وإصابته، وسجنه بسبب فعلته سنتين، في حين توقف رامبو عن الكتابة الشعرية. يكتب أبي شقرا تعليقاً على القصة التي يلمّح إليها ولا يصرّح: «حكاية رامبو، في التحليل الأخير، حكاية خلقية، ولكن حزينة ومؤسفة جداً. ما نحبه في رامبو الثائر أكثر من الفنان، رجل التحديات جميعها، والاحتقارات كلها. والفكرة أن هذا الرجل الخيّر اضطر أن يخفض رأسه، وأن هذه العبقرية الأرستقراطية استجدت عبثاً الهناءات المتواضعة، وأن هذا الكافر أنكر كل أحلامه. هذه الفكرة لا تريح».
وفي نهاية الدراسة الشيقة يتساءل الكاتب، ماذا لو لم يوجد رامبو، رغم عمره الأدبي القصير حيث توقف عن الكتابة ولم يتجاوز العشرين سنة. كان سيترك فراغاً، لأنه «ساحر كبير، أضاء قنديلاً ضخماً على باب الأدب الحديث بكامله، قبل أن يموت عام 1891».
نقرأ تعريب أبي شقرا لرامبو، فنلحظ كم أن هذا النقل يحمل شخصية المترجم، وأسلوبه واشتقاقاته واختياراته السوريالية للألفاظ: تجد مثلاً في قصيدة تحمل عنوان «المركب السكران»:
أزباد من أزهار هزهزت ترجعاتي ورياح لا توصف جنّحتني في هنيهات
ونقرأ أيضاً:
باركت العاصفة يقظاتي البحرية
ورقصت أخفّ من فليّنة على الأمواج
وفي قصيدة رامبو «المستحيل» نقرأ:
أرسلت إلى الشيطان سعف الشهداء، أضواء الفن، كبرياء المخترعين، حماسة السالبين. عدت إلى الشرق وإلى الحكمة الأولى الخالدة – يظهر أن هذا حلم الكسل الثقيل!
الجزء الثاني من الكتاب مخصص لترجمة مختارت من قصائد لوتريامون (1846 - 1870) النثرية. أما الدراسة هذه المرة فهي لهاني أبي صالح، وليس لصاحب الترجمات. تصف الدراسة الكونت لوتريامون واسمه الحقيقي إيزيدور دوكاس بأنه «كان ذا أصالة فذة، حانقة وغير منتظرة. كان عبقرية مريضة، بل بصراحة مجنونة. ففي جنون الأحمق، ينفلق هذا الأخير أكثر، وأما في جنون العبقري فيمس شكل الذكاء، وليس الذكاء نفسه».
ولد لوتريامون في الأورغواي لوالدين فرنسيين هاجرا إلى أميركا الجنوبية، وعاش طفولة قاسية ويتم مبكر، ومعاناة من الحروب القاسية التي دارت رحاها بين الأرجنتين والأورغواي منتصف القرن التاسع عشر. عاد إلى فرنسا التي لم تكن أكثر إنصافاً، حيث لم يتمكن من نشر مخطوطة كتابه «أناشيد مالدورو». مات ميتة غامضة ولم يعرف كتابه وينشر إلا بعد موته بسنوات، ويعتبر لوتريامون أول من كتب قصيدة النثر.
ثمة رابط بين الشاعرين الفرنسيين اللذين يحتفي بهما الكتاب رامبو ولوتريامون، وهو أنهما أظهرا عبقرية مبكرة، وحققا شهرة عبرت السنين، وماتا في عمر الورد، واعتبر كل منهما، بالنسبة للنقاد، مفصلاً في تاريخ الشعر الحديث.
وقد عكف أبي شقرا على ترجمة أشعار لوتريامون الذي عاش 24 عاماً فقط، وتوفي سنة 1870، بكثير من الأريحية، وكأنه كاتبها. ربما أن النثرية المستفيضة للوتريامون أراحت أبي شقرا وأمدته بالزخم.
أما الشاعر الثالث فهو بيار ريفردي، الذي يعتبر أبي شقرا شعره «موجة» ويرى أنه «حافل بالتفاصيل الملونة والمعقدة» التي نجدها في الموجة البحرية أو النهرية. ويلفت إلى حالة الاسترخاء التي تبثها كلمات هذا الشاعر، وصوره التي تمنح كلماته طعماً خاصاً، وشفافيته التي تنشر ظلالاً خافقة. «تلك الجمل في القصيدة هي بمثابة الضربة الحمراء في لوحة سوداء وبمثابة الضوء الكبير المشع على الساحة بين أضواء صغيرة».
يقول عنه، «لم يشترك ريفردي في فوضى عصره الإجبارية، بل قام وفعل كل شيء ضمن الشعر. ظل نقياً ناصعاً. ولكنه التقى عصره وجيله معاً في مغامرته الشعرية، سابقاً إياهما أحياناً. والشعراء اللبنانيون، من فترة القبل، لم يتأثروا به لأنهم لم يحزروه. بل لم يحزره وطنه، ما عدا الأفذاذ والنقد. وباختصار هو قليلاً كجملته هذه: سيرك ينفجر ضحكاً وآلاماً، سيرك يعزم الجميع إليه». وهنا قصيدة من ترجمة أبي شقرا لريفردي، من ديوان «ينابيع الريح» 1928.
الصوت البعيد
الجناح يتداعى
والأيدي تتعانق حول السلسلة
الألحان البحرية
طول الجدار
والريح التي تجذبني
الضوء يذهب بعيداً
لا ينتهي
إنها حكاية في القطار
سيوقفنا عند الكيلومترات الأولى
لهذا الطريق
في زاوية أخرى
طبيعة السماء
ومرساة الأرض
في الحركة التي تسندها
إشارة المساء الماضي تعود
أمام المقهى
في البعيد تحدث الخيبة
ومن حول السماء تنطفئ النجوم
ينتهي الهواء عند الأشعة الأخيرة
بين يدي الممتلئتين بكثرة
هو ذا النهار الذي ينتظر
يجب أن نعود
إلى فصل
أو إلى حزن آخر.
هي عودة إلى مجلة «شعر» التي رغم عمرها القصير، وتفرق روادها، لا تزال نبعاً للاكتشاف والدرس.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اختبار «اللهجة الفلاحي»... تندُّر افتراضي يتطوّر إلى «وصم اجتماعي»

لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
TT

اختبار «اللهجة الفلاحي»... تندُّر افتراضي يتطوّر إلى «وصم اجتماعي»

لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)

مع انتشار اختبار «اللهجة الفلاحي» عبر مواقع التواصل في مصر بشكل لافت خلال الساعات الماضية، وتندُّر كثيرين على مفردات الاختبار التي عدَّها البعض «غير مألوفة» وتحمل معاني متعدّدة؛ تطوّر هذا الاختبار إلى «وصم اجتماعي» بتحوّل ناجحين فيه إلى مادة للسخرية، بينما تباهى خاسرون بالنتيجة، وعدّوا أنفسهم من أبناء «الطبقة الراقية».

وكتبت صاحبة حساب باسم بسمة هاني بعد نشر نتيجة اختبارها «اللهجة الفلاحي»، 5/ 20، عبر «فيسبوك»: «يعني أنا طلعت من EGYPT»، مع تعبير «زغرودة» للدلالة إلى الفرح.

ونشر حساب باسم المهندس رامي صورة لرجل يركب حماراً ويجري بسرعة وفرح، معلّقاً أنه هكذا يرى مَن نجحوا في اختبار «اللهجة الفلاحي».

وكتب حساب باسم سعيد عوض البرقوقي عبر «فيسبوك»: «هذا اختبار اللهجة الفلاحي... هيا لنرى الفلاحين الموجودين هنا وأقصد فلاحي المكان وليس الفكر».

ورداً على موجة السخرية والتندُّر من هذا الاختبار، كتب صاحب حساب باسم محمد في «إكس»: «هناك فلاحون يرتدون جلباباً ثمنه ألف جنيه (الدولار يساوي 48.62 جنيه مصري) ويمتلك بيتاً من هذا الطراز – نشر صورة لبيت بتصميم فاخر – ويعرف الصح من الخطأ، ويعلم بالأصول وهو أهل للكرم، تحية لأهالينا في الأرياف».

وأمام التحذير من تعرّض المتفاعلين مع الاختبار إلى حملات اختراق، كتب الإعلامي الدكتور محمد ثروت على صفحته في «فيسبوك»: «اختبار اللهجة الفلاحي مجرّد (ترند) كوميدي وليس هاكرز، ويعبّر عن جهل شديد في أصولنا وعاداتنا المصرية القديمة». فيما كتب حساب باسم إبراهيم عبر «إكس»: «أخاف المشاركة في الاختبار والحصول على 10/ 20. أهلي في البلد سيغضبون مني».

وتضمّ مصر عدداً من اللهجات المحلّية، وهو ما يردُّه بعض الباحثين إلى اللغة المصرية القديمة التي تفاعلت مع اللغة العربية؛ منها اللهجة القاهرية، واللهجة الصعيدية (جنوب مصر)، واللهجة الفلاحي (دلتا مصر)، واللهجة الإسكندراني (شمال مصر)، واللهجة الساحلية واللهجة البدوية. ولمعظم هذه اللهجات اختبارات أيضاً عبر «فيسبوك».

اختبار «اللهجة الفلاحي» يغزو وسائل التواصل (فيسبوك)

في هذا السياق، يرى أستاذ الأدب والتراث الشعبي في جامعة القاهرة الدكتور خالد أبو الليل أنّ «هذا (الترند) دليل أصالة وليس وصمة اجتماعية»، ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنّ «إقبال البعض في وسائل التواصل على هذا الاختبار محاولة للعودة إلى الجذور».

ويُضيف: «صوَّر بعض الأعمال الدرامية أو السينمائية الفلاح في صورة متدنّية، فترسَّخت اجتماعياً بشكل مغاير للحقيقة، حتى إنّ أي شخص يمتهن سلوكاً غير مناسب في المدينة، يجد، حتى اليوم، مَن يقول له (أنت فلاح) بوصفها وصمة تحمل معاني سلبية، على عكس طبيعة الفلاح التي تعني الأصالة والعمل والفَلاح. محاولة تحميل الكلمة معاني سلبية لعلَّها رغبةُ البعض في التقليل من قيمة المجتمعات الزراعية لأغراض طبقية».

ويتابع: «مَن يخوض الاختبار يشاء استعادة المعاني التي تعبّر عن أصالته وجذوره، أما من يتندّرون ويسخرون من الفلاحين فهُم قاصرو التفكير. ومن يخسرون ويرون أنّ خسارتهم تضعهم في مرتبة اجتماعية أعلى، فهذا تبرير للفشل».

ويشير أبو الليل إلى دور إيجابي تؤدّيه أحياناً وسائل التواصل رغم الانتقادات الموجَّهة إليها، موضحاً: «أرى ذلك في هذا الاختبار الذي لا يخلو من طرافة، لكنه يحمل دلالة عميقة تردُّ الحسبان للفلاح رمزاً للأصالة والانتماء».

لقطة من فيلم «المواطن مصري» الذي تدور أحداثه في الريف (يوتيوب)

ويعيش في الريف نحو 57.8 في المائة من سكان مصر بعدد 45 مليوناً و558 ألف نسمة، وفق آخر إحصائية نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2022، بينما يبلغ سكان المدن نحو 40 مليوناً و240 ألف نسمة.

من جهتها، ترى أستاذة علم الاجتماع في جامعة بنها، الدكتورة هالة منصور، أنّ «الثقافة الشعبية المصرية لا تعدُّ وصف (الفلاح) أمراً سلبياً، بل تشير إليه على أنه (ابن أصول) وجذوره راسخة»، مضيفة لـ«الشرق الأوسط»: «يُسأل الوافدون إلى القاهرة أو المدن الكبرى عن أصولهم، فمَن لا ينتمي إلى قرية يُعدُّ غير أصيل».

وتُرجِع الوصم الاجتماعي الخاص بالفلاحين إلى «الهجرة الريفية الحضرية التي اتّسع نطاقها بدرجة كبيرة نظراً إلى ثورة الإعلام ومواقع التواصل التي رسَّخت سلوكيات كانت بعيدة عن أهل الريف».

وتشير إلى أنّ «السينما والدراما والأغنيات ترسّخ لهذا المنظور»، لافتة إلى أنه «من سلبيات ثورة 1952 التقليل من قيمة المهن الزراعية، والاعتماد على الصناعة بوصفها قاطرة الاقتصاد. وقد أصبحت تلك المهن في مرتبة متدنّية ليُشاع أنَّ مَن يعمل في الزراعة هو الفاشل في التعليم، وهذا لغط يتطلّب درجة من الوعي والانتباه لتصحيحه، فتعود القرية إلى دورها المركزي في الإنتاج، ومكانها الطبيعي في قمة الهرم الاجتماعي».

وعمَّن فشلوا في اختبار «اللهجة الفلاحي» وتفاخرهم بذلك بوصفهم ينتمون إلى طبقة اجتماعية راقية، تختم أستاذة علم الاجتماع: «هذه وصمة عار عليهم، وليست وسيلة للتباهي».