ما الذي أحدثته حرب العراق التي تُصادف ذكرى نشوبها العشرون، اليوم، في بنية المجتمع العراقي، ومن ثم في الثقافة العراقية؟ كيف انعكس هذا الحدث الكبير في نتاجات الكُتاب العراقيين؟ هل يمكن الحديث عما قبل الحرب وبعدها، بما أفرزته من نتائج لاحقة على المستويات: الاجتماعي، والاقتصادي، والأخلاقي، وطبيعة النظام السياسي؟ خصوصاً أنها أتت بعد حصار شديد استمر عشر سنوات، وقبلها الحرب العراقية - الإيرانية الطاحنة التي استمرت ثماني سنوات؟
هنا شهادات عدد من الكُتاب العراقيين:
- برهان شاوي: تناولتُ في رواياتي كل حروب العراق
الحقيقة، يواجه العراقيون سؤالاً ملتبساً هو: هل الحرب التي قام بها معظم دول العالم (المتحضر) بقيادة أميركا ضد العراق، من أجل إسقاط النظام الدكتاتوري الاستبدادي، هي تحرير للعراق أم احتلال له؟ لقد تغيرت الإجابات وفق الأهواء والميول السياسية، على الرغم من أن الأمم المتحدة أصدرت قراراً باعتبار العراق بلداً محتلاً من قِبل أميركا. هذا موضوع شائك، سيبقى قيد الاختلاف لزمن طويل في ذمة التاريخ.
أدبياً، تناولتُ فترة الحروب التي شارك فيها العراق في أعمالي الروائية، فمثلاً تناولتُ الحرب العراقية الإيرانية في أكثر من رواية، وأيضاً تناولتُ القصف الأميركي للعراق في «متاهة الأشباح»، حيث يختفي البيت الكبير الذي يضم عوائل كثيرة في منطقة الحيدرخانة، ولا يبقى منه سوى حفرة تفتح شدقيها، تكونت من خلال سقوط صاروخ أميركي.
مآسي الشعوب خلّدها الأدب. «الحرب والسلام» لتولستوي خلّدت الحرب الروسية الفرنسية، و«كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» لريمارك كشفت عن بشاعة الحرب العالمية الثانية، بل إن نصوص برتولد بريخت ضد الحرب كشفت عن المأساة وعبثية الحروب. وحتى في روايتي «الحِداد يليق بالسيدة بغداد» تناولت روح جندي يريد العودة إلى العراق، بعد أن سقط شهيداً في البلاد المجاورة، نتيجة الحروب العبثية التي قام بها النظام العراقي. لكن حرب إسقاط النظام الدكتاتوري واحتلال العراق، تناولتها، بتبِعاتها وحضورها، في «متاهة قابيل» من خلال «همرات» القوات الأميركية وقطعها الشوارع. والبيوت التي تهدمت على سكانها، ومئات الألوف من الأرواح التي أُزهقت خلال تلك الحرب. الحرب مأساة.
- شاكر الأنباري: أصبح العراق كياناً آخر
قضت الحرب على تلك الصورة القديمة التي ارتسمت طويلاً في أذهاننا عن العراق، وأصبحنا نرى كياناً آخر لم يعد يمتُّ بصلة إلى مُدننا، وشوارعنا، ونمط إنساننا الذي هشّمته التغيرات المتلاحقة، ففقَد البوصلة، نوعاً ما؛ كون ذلك البركان المتفجر أضخم مما يستطيع تفسيره أو التعايش معه. هذا على صعيد المجتمع، والمكان، وموازين القوى التقليدية التي تربَّى عليها الفرد. وتطلَّب ذلك سنوات كي يجد الكُتّاب رؤية متماسكة لاستخدام واقع مهشّم، تحكمه الهشاشة، في نص شعري أو روائي، أو عبر فنون أخرى. كتبتُ شخصياً أكثر من رواية تناولت حقيقة الزلزال الذي حصل؛ أي موت القديم وولادة مجتمع جديد شاذّ السمات، وأكثر ما ظهر لديّ في رواية «بلاد سعيدة»، وجاءت عن حياة قرية عاشت الاحتلال، وزوال النظام السياسي، وانفراط المقاييس المتعارف عليها. والتقطت في تلك الرواية محو الذاكرة القديمة للقرية وبشرها، سواء على صعيد المكان أو التقاليد أو العلاقات البشرية، حيث وجد سكان القرية أنفسهم في مستنقع غير مألوف، لا يفهمون ما يجري لهم، وهو ما جعلهم يشعرون بالعجز، واليأس، وضياع المنطق. أما في روايتي الثانية «نجمة البتاويين» فقد حضرت الفكرة نفسها، لكن القارئ يجد روحه في عاصمة العراق؛ بغداد، وهي تعيش فوضى عارمة، من تفجيرات، وجنود أجانب، وصراعات طائفية، وانمحاء لوجهها المتحضر المديني، بعد انهيار السلطة السابقة وضبابية الأفق، مما ترك بصمته على حياة أبطال الرواية فانصرفوا إلى الخمرة، والعبث اليومي، والبحث عن طريق للهروب. وباعتبار أن الحرب؛ أيّ حرب، لا يمكن أن تترك سوى المآسي، فنحن، باعتبارنا كُتّاباً، ما زلنا نتخبط في نتائجها وتفاعلاتها. ومعظم الأدب العراقي بعد تلك الحرب جاء صدى مصمّاً، وترجيعاً عالي النبرة للكارثة اليومية التي يعيشها المجتمع ونُخَبه. اكتشفنا، متأخرين، أن الحرب لم تكن حلاً للنفق المظلم الذي سار فيه العراق منذ أربعين سنة.
- ميسلون هادي: قدمتُ الحرب ومسارات تمنح الأمل
إذا نسينا كل شيء حفظناه، فنحن بالتأكيد لا ننسى بيتاً شعرياً قاله المتنبي أو أبو تمام عن موضوع الحرب أو أي حدث فارق من الأحداث، وفي عصرنا الحالي فإن فن الرواية هو الجنس الأدبي الأكثر استيعاباً لأحداث الأمة، سواءً بعد الحرب العالمية وبداية الخمسينات، أم في نكسة يونيو (حزيران)، أم الحرب العراقية الإيرانية، أم التغييرات التي حصلت بعد عام 2003، حتى إننا يمكننا أن نعتبر الرواية المرآة العاكسة للواقع المحتدم؛ ليس في الوطن العربي فحسب، وإنما في العالم كله، حيث نجد كُتاباً ارتبطت أسماؤهم بأعمال معيّنة عن الحرب خلّدوا فيها أماكن ومدناً وأحداثاً عن طريق الرواية، ولولاهم لطواها النسيان، ومنها مثلاً روايات: الكاتب الألماني ريمارك «ليلة لشبونة»، و«للحب وقت وللحرب وقت»، وهناك أيضاً روايات أرنست همنغواي، وبعض كُتاب أميركا اللاتينية الذين عاشوا واقعاً مشتعلاً وساخناً، فاشتهروا بأسطرة هذا الواقع عن طريق مضامين «تراجيدية» عالية التوتر، أضافوا إليها شكلاً جديداً باللغة. وهكذا دخلت الرواية اللاتينية نادي العالمية عن طريق التجارب التي تفاعلت مع الانقلابات والاضطرابات العسكرية لبلدانهم. في العراق أيضاً كانت لتجارب الحروب والاضطرابات الحصة الكبرى في الروايات التي صدرت خلال الخمسين سنة الأخيرة، لكنها بعد عام 2003 اكتسبت حرية أكبر في تناولها من زوايا جديدة لا تخضع لشعارات وتوجهات آيديولوجية أو رسمية. بالنسبة لي، قدمتُ الحرب في رواياتي بالتوازي مع مسارات أخرى تمنح الأمل الممكن، حتى في أسوأ الظروف. وهذا ما حدث في «العرش والجدول» مثلاً، أو «حلم وردي فاتح اللون»، أو «أجمل حكاية في العالم»، وبما أن الحرب، كما يقول الشاعر زهير بن أبي سلمى: «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ ... وما هو عنها بالحديث المرجم»، فإن كمية الحزن أو القهر الموجودة في الحياة اليومية، ستكون عبئاً على القارئ الذي عاش شرورها وتفاصيلها المؤلمة، إذا ما أعادها الكاتب دون كسرها بما هو مختلف عن الصورة المعتمة التي اختبرها الناس، أو شاهدوها في الإعلام.
- خضير الزيدي: ثلاث حروب وحصار ملأت خزانات الذاكرة
للحرب أيضاً فضيلتها الوحيدة على الكُتّاب الجنود من أمثالي؛ كونها تمدّهم بدراما سردية لا تنتهي لتاريخ الدم العراقي المستباح عبر التاريخ، ومن جانب آخر أشفق، ولا أحسد، على كُتّاب بلدان عدة لا يوجد ما يمدُّهم بدراما الدم المسفوح مثلما حدث أو يحدث في بحيرة الدم العراقية، ذلك انعكس على نتاجاتهم فذهبوا إلى داخل النفس الإنسانية والتفكر أو التأمل لاختراقها، من أجل استجداء الحبل الشوكي للأدب السردي المعاصر لديهم على مستوى الأدب الغربي. ولا غرابة في أن نتاجات الحداثة تشتغل على روايات أو قصص المطبخ والطعام والأزياء والمكتبة، فيما نحن العراقيين نحتاج لألف سنة مقبلة كي نتخلص من فوبيا الحروب اللصيقة بوجداناتنا الحزينة، وهي ترثي الأرامل والأصدقاء واليتامى بسرديات كبرى، أو ربما ملاحم صغرى عن تاريخ الدم المسفوح.
ثلاث حروب وحصار بمرتبة الحرب كانت كافية لملء خزانات الذاكرة لجيل الكتابة السردية الحالي، جيل الجنود الأحياء وهو يعكف على تدوين المآسي الهائلة. من الصعب؛ بل المستحيل، أن تنجو من الحرب، لكنني على المستوى الشخصي كنت ألوذ بصفائح الرمل والخنادق من أجل هذا اليوم. ربما آخِر ما صدر لي هو رواية «صديقي المترجم» لحكاية رسخت في رأسي من عشرين عاماً، لجندي هرب في أثناء الحرب عندما قتل زميله الجندي الصديق، فقام باستبدال الأوراق الثبوتية بينه وبين صديقه. بين مفقود بالحرب، وقتيل بمنزلة شهيد وبكل الامتيازات. يهرب ولكن أهله يتسلّمون جثته من دون رأس. فتغدق السلطة آنذاك عليهم الثروة؛ كون ابنهم «شهيداً»، فالحرب حكاية تاريخ عسكري لذواتنا، نستعين بالنهل من هذا التاريخ، لنفسّر ما يحدث في يومنا هذا، فالكُتاب الجنود عبر التاريخ هم أبناء بررة لتاريخ الدم.
- حميد المختار: الحرب الأخيرة أثّرت ثقافياً سلباً وإيجاباً
الحروب، كل الحروب، هي أداة خراب وتهديم للقيم الإنسانية المجتمعية والأخلاقية ولكل ما هو جميل وجليل، فيسود الخراب والقبح، وهذا كله سيؤثر على الأوضاع الفكرية الإبداعية والثقافية عموماً، وهذا ما حصل بعد الحرب الأخيرة في العراق وسقوط النظام البعثي وانهيار كل مؤسساته ومأثوراته الثقافية والحزبية. وقد حصل معنا هذا، حيث توقفت الحياة الثقافية في العراق وانقطعت السبل بالمثقفين العراقيين، لكن في الوقت نفسه أضافت هذه الحرب لنا صفحة جديدة من الأحداث في مواد خام تصلح لأن تكون ثيمات روائية وقصصية وملحمية. إذن فالحرب الأخيرة أثّرت سلباً وإيجاباً في حركية وسيرورة الوضع الثقافي العراقي بعامة. تقف الحياة وتكون حداً فاصلاً بين عهدين: عهد دكتاتوري منهار صار يقبع في خانة الماضي الأسود، وعهد ديمقراطي مفتوح يمنح الكاتب فرصة جديدة لرؤية العالم بنظرة أخرى غير تلك التي سادت في كل إرثه الثقافي والسردي، ثم إنها - أي الحرب وسقوط النظام الدكتاتوري - فتحا باباً أمام ظهور أسماء جديدة في كتابة الرواية، مما أضاف وهجاً ودماً جديداً للسردية العراقية، وعلى صعيد تجربتي الشخصية فقد واكبتُ كل هذه التطورات الدراماتيكية مستغلاً فرصة الدخول إلى عهد جديد لم يمُرّ به العراق من قبل، وصار لزاماً علينا جميعاً أن نكتب ما نشعر به ونعيشه، خصوصاً وقد صار متاحاً لنا أن ندخل الأماكن المحظورة في الكتابة، تلك المحرَّمات التي وضع النظام السابق أمامها خطوطاً حمراء، والذي يتجاوزها سيختفي عن وجه البسيطة، ولذلك وبعد أن أنجزت معظم رواياتي التي فضحت النظام السابق، كتبت روايتي «تابو» التي واكبت التطورات الجديدة بعد سقوط النظام، بل صِرتُ ألعن ساسة العهد الديمقراطي الجديد الذين واصلوا مسيرة الخراب العام التي بدأها النظام المقبور وأكملها هؤلاء الفاسدون.