عندما قدم جناح المملكة العربية السعودية معرض «مقار» في بينالي فينيسيا للعمارة عام 2020 كانت الجائحة مستحكمة، وجاء العرض متوافقاً مع الحالة العالمية ومع الموضوع العام للبينالي «كيف سنعيش سوياً». بعد انتهاء البينالي انتقل العرض لحي جميل بجدة ليعرض حتى السابع من أغسطس (آب) المقبل، وبالأمس احتضن «فن جميل» بالشراكة مع هيئة فنون العمارة والتصميم، برنامجاً عاماً ليوم واحد حول تاريخ الملاجئ والبنية التحتية والمظاهر المكانية في أوقات الظروف الاجتماعية المتغيرة، وأقيمت جلسات حوار حول المعرض تضمن لقاءات مع المنسقين أزما ز. ريزفي ومرتضى فالي ومعماري «ستوديو باوند» وهم حسام الدقاق وحصة البدر وبسمة كعكي.
يعرض «مقار» صوراً نادرة ومواد وبحوثاً أرشيفية دقيقة، ومخططات عمرانية، ونماذج معمارية، ورسومات عابرة تعود إلى تاريخ الملاجئ، وتدرس كيفية تكيُّف البيئة المبنية والنسيج الحضري لاستيعاب الظروف الاجتماعية المتغيرة. وتبرز أهميته في المملكة تحديداً، كونها بلداً استضاف ويواصل استضافة العديد من الحجاج أثناء مواسم الحج، فإن الحاجة إلى الحجر الصحي، سواء كان مخططاً له للوقاية أثناء مواسم الحج، أو قسرياً في لحظات الأزمات، تضمن تحويل الأماكن والبنيان الخاصة والعامة، فتتغير لتصبح بكل حدودها ملاجئ معزولة للتعافي تعمل على خدمة الصحة العامة.
- جولة على «مقار»
أتيحت لي الفرصة للتجول في المعرض والحديث مع المهندس المعماري حسام الدقاق من «ستديو باوند»، وهو أحد القيمين على المعرض.
بداية العرض يثير في النفس شجوناً ومشاعر متضاربة، حيث إنه يدور حول فترة من العزلة والخوف شملت العالم بأكمله، لكنه هنا يأخذنا بعدسة مقربة ويستكشف كيف تحولت المباني في السعودية وتكيفت مع فترة الحجر الصحي. عبر التنقل ما بين «ماكيتات» المباني المعمارية قديماً وحديثاً وعبر عرض الصور، يتبدى لنا أن ما مر بنا في تلك الفترة الحرجة كان له امتداد تاريخي في العمارة في المملكة، وأيضاً له تأثير مستقبلي من حيث تغير استخدامات المنازل وطرق العيش بين داخل الأبنية وخارجها.
- محطات العزل
يبدأ الدقاق الجولة بالإشارة لعنوان العرض، وهو «مقار»، قائلاً إنه مستوحى من فترة جائحة «كورونا» ومن الحاجة للانعزال: «بدأنا العمل بدراسة فكرة العزل الصحي تاريخياً انطلاقاً من ابن سينا مروراً بتاريخ البندقية في القرن الـ14، نجد أن الفكرة لها عمق تاريخي، وأيضاً لها مرادفات معاصرة».
توفر النظرة التاريخية الإطار العام والخلفية التي ينطلق منها العرض، وإن كان يعنى أكثر بفكرة الحجر فيما يتعلق بالمناطق المحيطة بالبحر الأحمر. يشير إلى مخطط يبرز بعض محطات الحجر الصحي على سواحل البحر الأحمر في اليمن والسودان ومصر وجدة: «هذه هي المحطات التي كان يمر بها الحجاج في رحلتهم نحو مكة المكرمة». يسرد العرض تطور فكرة الحجر الصحي منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى بدايات القرن التاسع عشر.
نمر على المحطات المختلفة على الخريطة المجسمة أمامنا لنصل لمدينة جدة، حيث تقع «الكرانتينا» أو «المحجر»، وهي محطة العزل الصحي التي أقيمت في جنوب المدينة عام 1950، يقول: «اسمها مقتبس من الكلمة اللاتينية، التي تعني العزلة 40 يوماً، بنيت في الخمسينات، ووقتها أثبت بناؤها أن السعودية قادرة على استعادة السيطرة على حدودها الطبية».
يمر الدقاق في حديثه على مدينة الحجاج القديمة في جدة، نراها من خلال صور أرشيفية، قائلاً: «عملياً مدن الحجاج التي بنيت في السبعينات والثمانينات للحجاج، لم تقم فقط لضرورة طبية، بل أيضاً لعزل الحجاج عن بقية السكان».
- الفنادق ووظيفة جديدة
فيما يتعلق بالفصل بين الناس، وهو أساس فكرة الحجر الصحي أو «الكوارنتين»، يمكننا رؤية وظيفة مدن الحجاج في هذا الإطار. ولكن فترة الجائحة أبرزت مباني أخرى استخدمت للغرض ذاته: وهي الفنادق، حيث كان القادمون للمملكة يقضون فيها فترة من الحجر الصحي للتأكد من خلوهم من الفيروس.
يصحبني الدقاق لمنصة عرض أخرى عن الفنادق في السعودية: «هنا ندرس فكرة الفنادق واستخدامها محطات للعزل الصحي. الفندق له دور كبير، من حيث الوظيفة فهو يماثل المستشفى، وليس مصادفة أن يستخدم محطة عزل». العرض يقدم صوراً لأقدم وأهم الفنادق في المملكة مثل فندق اليمامة في الرياض: «(أوتيل اليمامة) كان يقع على طريق يضم كل الوزارات، لذلك كان الفندق يستضيف الاجتماعات المهمة مثل اجتماع هنري كيسنجر والملك فيصل. هناك أيضاً (فندق إنتركونتننتال) في الرياض، الذي اكتسب أهمية خاصة تكمن في أن الفندق أصبح يحتل مساحة عمرانية ليست محصورة فقط على مبنى واحد». يمر على فندق آخر يثبت نظريته «(ماريوت خريص الرياض) تحول إلى مستشفى في الثمانينات، وكان ذلك التحول سهلاً من الناحية الهندسية حيث يوجد تشابه كبير ما بين الفندق والمستشفى».
من العرض التاريخي نصل للمعاصر في عرض مصور لكل الفنادق التي استخدمت للعزل الصحي في الرياض خلال فترة جائحة «كورونا»، ونرى أيضاً في العرض عدداً من الأبواب الخشبية التي تمثل أبواب غرف من فنادق مختلفة.
- المنزل... داخله وخارجه
نصل في الجولة لقسم المنزل أو البيت، يقول الدقاق، «تاريخياً، تكيف البيت السعودي مع احتياجات الإنسان واستخداماته، وخلال الجائحة تغيرت الطريقة التي نعيش فيها في بيوتنا، ومناطقنا الداخلية تغيرت أيضاً». في السعودية قديماً كانت العائلة تتقاسم السكن في مبانٍ تجتمع حول فناء، تغير المفهوم مع ظهور مفهوم العائلة الواحدة التي تعيش منفصلة «هنا ظهرت البوابات بشكل قوي لتحجز المنازل عن الخارج وعن بعضها».
على حائط مجاور، نرى عرضاً مصوراً لمنازل توضح فكرة أن الجائحة دفعت بالسكان لاستخدام المساحات الخارجية بشكل أكبر: «أصبح لقاء الآخرين خارج البيوت المغلقة أمراً مفضلاً، وهو عكس ما اعتاده الناس». يشير إلى الصور: «هنا حجبنا المساحات الداخلية باللون الأبيض لإبراز المساحات الخارجية والبوابات ولتوضيح كيف انتقلت فكرة الخصوصية من داخل المنازل لخارجها».
يضيف محدثي قائلاً: «المعرض يطرح فكرة وسؤالاً عن التعايش بين الناس، ليس فقط خلال فترة الجائحة، وإنما أيضاً على المدى الطويل، لأن كثيراً من أساليب الحياة التي تسببت فيها الجائحة ستظل معنا في المستقبل». في العرض أيضاً حائط يحمل ملصقات دعائية لمعقمات ومنظفات، يطلق عليه الدقاق اسم «حائط التعقيم»، ويضيف: «أصبحنا مهوسين بالتعقيم والتنظيف لكل شيء يدخل المنزل، هنا نرى تسليع التعقيم والنظافة عبر المنتجات التجارية».