عاد الملف النووي الإيراني إلى واجهة الأحداث العالمية بعد أن أخذ يلوح في الأفق شبح «إيران نووية» عقب تسريبات من تقرير أخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن العثور في موقع «فوردو» بالغ التحصين، على يورانيوم مخصب بنسبة 83.7 في المائة القريبة جداً من النسبة المطلوبة للحصول على سلاح نووي. ثم صدر تقرير آخر صادر عن «معهد العلوم والأمن» في واشنطن مفاده، أن إيران قادرة على إنتاج خمس قنابل نووية باستخدام مخزونها الحالي من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 و20 في المائة، وذلك خلال شهر واحد، وأنها قادرة على إنتاج أول قنبلة بعد 12 يوماً مما يسمى «بدء الاختراق» (Breakout). وجاءت زيارة مدير عام الوكالة الدولية رافاييل غروسي إلى طهران مستبقاً اجتماع مجلس المحافظين الدوري في فيينا، لتعيد الملف النووي إلى دائرة الضوء بعد أن كشفه دور إيران في الحرب الروسية على أوكرانيا والقمع الداخلي الأعمى الذي أوقع مئات الضحايا وأدخل إلى سجون النظام آلاف المحتجين. وبغض النظر عما ستؤول إليه عملياً زيارة غروسي أو ما سيصدر عن مجلس محافظي الوكالة الدولية، فإن الأسئلة الأهم تتناول موقع النووي في الاستراتيجية الإيرانية الشاملة وأهداف السياسة الإيرانية داخلياً وخارجياً والحيرة ربطاً بالعقوبات التي تضرب الاقتصاد الإيراني منذ سنوات.
وبكلام آخر، ما هو المكسب الاستراتيجي الذي تتوقعه السلطات الإيرانية الثيوقراطية التي جاءت إلى الحكم مع ثورة الخميني والثمن الذي تبدو أنها مستعدة لدفعه لتطوير برنامجها النووي الذي تؤكد أنه سلمي الطابع من غير أن تتمكن من إقناع العالم به؟
هذه الأسئلة وغيرها يتناولها توماس غومارت، مدير المعهد الفرنسي للدراسات الدولية والباحث الاستراتيجي المعروف في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان «الطموحات الخفية» للقوى العالمية الكبرى، الذي خصص منه فصلاً موسعاً لإيران، إلى جانب فصول أخرى تتناول الولايات المتحدة، والصين، والهند، والسعودية وتركيا.
منذ السطور الأولى، يشدد الكاتب على أن الجمهورية الإسلامية «نهضت على المواجهة الأساسية مع الولايات المتحدة الأميركية، ومنذ العام 1979 خرجت من الحضن الأميركي لترتمي في الحضن الصيني مع العمل على التمكن من التأثير المباشر على التوازنات الإقليمية. ولتحقيق هذا الغرض، فإنها تستخدم إمكاناتها العسكرية والميليشاوية في إطار استراتيجية توسعية وصولاً إلى ضفاف المتوسط وتطور برنامجاً نووياً من أجل فرض نفسها كقوة (إقليمية)، وتحولها إلى قلعة حصينة» بمعنى ألا تجرؤ قوة أخرى على مهاجمتها بفعل ما يمثله الردع النووي، علماً بأن إيران تدأب منذ سنوات على تأكيد أن «برنامجها سلمي محض ولا تسعى أبداً للتحول إلى قوة نووية».
ويؤكد الكاتب، أن الرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي بعكس عدد من الذين سبقوه «لا يرى حاجة إلى انخراط إيران في الاقتصاد المعولم، بل يفضل أن تفرض نفسها على محيطها الإقليمي من خلال تصاعد تأثيرها على بلدان مثل العراق، وسوريا، ولبنان واليمن؛ الأمر الذي يعد أفضل وسيلة لتعزيز (الحرس الثوري)».
يرى توماس غومارت، أن طهران تنظر إلى النفط وإلى القدرات النووية على أنهما الرافعتان الرئيسيتان لقوتها ولتمكنها من التفوق والهيمنة، ويسرد تاريخ انطلاق البرنامج النووي مع الشاه والأطراف التي تم التعاون معها «الولايات المتحدة، ألمانيا، فرنسا وأخيراً روسيا»، ويذكر بأن الطيران الإيراني حاول في سبتمبر (أيلول) من العام 1980 تدمير مفاعل «إوزيراك» العراقي. إلا أنه فشل في ذلك في حين نجح الطيران الإسرائيلي في إزالته في العام التالي. ويؤكد الكاتب، أن طهران سعت منذ العام 1990 لإعادة إطلاق برنامجها النووي لـ«تخوفها من وجود برنامج نووي عراقي سري» وليس بسبب أن إسرائيل قوة نووية في المنطقة.
ولأن السلطات الإيرانية تعتبر نفسها في حالة حصار دائمة إقليمياً ودولياً، فإنها منذ العام 2012 وبحثاً عن المحافظة على «إرثها الثوري»، فإنها تسخر لذلك أربع أدوات: المجموعات الميليشياوية المرتبطة بها والتي تغذيها في مناطق نفوذها وبرامجها الصاروخية - الباليستية والمسيّرات وعملياتها البحرية، وأخيراً الحرب السيبرانية. وفيما خص الأداة الأولى، يشير الكاتب إلى أن إيران خصصت 16 مليار دولار لتدخلها في العراق واليمن ولبنان في السنوات العشر الأخيرة و10 مليارات لسوريا التي أمدتها بديون تصل إلى 20 مليار دولار.
أما في لبنان، فإن طهران توفر لـ«حزب الله» 700 مليون دولار في العام، وبذلك ومن خلال نفوذها في الدول الأربع المشار إليها فإنها تحقق هدفاً رئيسياً، وهو أن مواجهتها مع واشنطن «تحصل في المسرح الخارجي وليس على الأراضي الإيرانية».
إقليمياً، تسعى إيران من خلال التدخل المباشر وغير المباشر إلى تحقيق مجموعة أهداف: ففي اليمن، تسعى «لحرمان المملكة السعودية من عمقها الاستراتيجي ومد نفوذها إلى البحر الأحمر وخليج عدن».
بالمقابل، فإن تدخلها في العراق وسوريا ولبنان غرضه «الاستحصال على بعد استراتيجي يوصلها إلى شرق المتوسط لممارسة ضغوط مباشرة على إسرائيل». وفي حين تنظر طهران إلى العراق على أنه «مشكلة داخلية إيرانية»، فإن الحرب في سوريا مكّنتها من قلب المعادلة بين النظام و«حزب الله» لصالح الأخير الذي «يتمتع بالسيطرة على مساحات واسعة من القرار اللبناني».
يؤكد المؤلف، أن موجة الاحتجاجات اتي ضربت إيران عقب وفاة الشابة الكردية مهسا أميني في شهر سبتمبر الماضي طرحت جدياً مصير النظام الراهن وقدرته على البقاء، ويكشف عن أن دبلوماسيين في وزارة الخارجية الأميركية التقاهم الخريف الماضي، أكدوا له أن «أيام النظام أصبحت معدودة». والسبب الرئيسي في ذلك، كما نقل عنهم، أن النظام «غير قادر على التطور»، وأنه «يفتقد لغورباتشوف إيراني».
من هذا المنطلق، يؤكد الكاتب، أن ثمة ثلاث أولويات رئيسية للمرشد الإيراني علي خامنئي في الوقت الحاضر: الأولى، ضمان بقاء النظام التيوقراطي والاستمرار في فرض خطاب ثوري لمواصلة السيطرة على الجماهير كما هو الحال منذ أربعين عاماً، مفضلاً بذلك الهيمنة على الأذهان على التنمية الاقتصادية.
والثانية، ضمان أمن إيران ومعها النظام من خلال الحصول على السلاح النووي. ويضيف الكاتب «لا نرى اليوم سبباً لتخلي إيران عن هذا الهدف بعد التضحيات التي قدمتها في العقود الماضية والتي جعلتها تنقطع عن العالم الغربي». ويضيف المؤلف «أن (خيار) الصبر الاستراتيجي الذي التزمت به سيفضي في النهاية إلى نتيجة». أما إذا تم التوصل إلى اتفاق نووي «جديد»، فإنه سيعني رفع العقوبات الاقتصادية عنها. بيد أنه «لن يزيح إيران عن هدفها الأبعد وهو تحولها إلى قلعة حصينة» لن يجرؤ أحد على مهاجمتها، وأن أي قيادة «ستبقى مقتنعة أن السلاح النووي هو الضمانة الأمنية الأكثر وثوقاً» للمستقبل.
تبقى الأولوية الثالثة التي يسعى النظام الإيراني إلى تحقيقها رغم الصعوبات المترتبة عن خياراته وهي التنمية الاقتصادية التي تعيقها العقوبات الغربية وسياسات النظام.
ويؤكد الكاتب، أن إيران تتمتع بإمكانات كبيرة وبموقع جغرافي متميز ما يفترض بها أن تضع نفسها مجدداً على خريطة العولمة الاقتصادية والتجارية. ويذكّر الكاتب، بأن لإيران حدوداً يبلغ طولها 8731 كلم، منها 2700 كلم بحرية، وأن لها حدوداً مشتركة مع 15 دولة. وتقع على محور شمال - جنوب بين منطقة بحر قزوين وعلى محور شرق - غرب، تحتل فيه موقعاً وسطياً بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى مع مساحة تصل إلى 1.68 مليون كلم مربع.
بيد أن المؤلف يسارع للتأكيد أن أمراً كهذا سيكون «مستحيلاً» بالنظر لتركيبية الحكم الراهن الذي رمى بنفسه في الحضن «الشرقي»، خصوصاً الصيني «بشكل رئيسي» ولكن أيضاً الروسي والهندي؛ الأمر الذي تبينه الإحصائيات المتوافرة عن المبادلات التجارية، ولكن أيضاً الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها طهران وبكين في المصاف الأول.
كتاب «الطموحات الخفية»... إيران تسعى لضمان أمنها بالحصول على السلاح النووي
المؤلف توماس غومارت: «النفط والنووي» سلاح طهران لإثبات الوجود
كتاب «الطموحات الخفية»... إيران تسعى لضمان أمنها بالحصول على السلاح النووي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة