عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
TT

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير.
ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها.
فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً. تتحلل بقدر الله وتتبد أبداً، لتخلق بفوضاها نظاماً دقيقاً معجزاً، ليكون قدر ذاك النظام الدقيق المعجز أن تمضي فيه سنة الاهتراء والإهلاك حتى يفنى».
إذن هو نظام مُحكَمٍ خُلِقَ وكأنه من فوضى، ليهترئ إلى فوضى عارمة - وكأنها لا تفضي إلى نظام - حتى يكون في تحلله واهترائه فناؤه ونهايته نحو «مُفردة» جديدة، ليكون خلقاً جديداً، ليكون بعثاً جديداً، ليكون «البعث الحق» كما نص التنزيل الحكيم، تلك هي قصة الكون كما تتلمسها عقولنا الآن.
خالقُ فرد «واحد» في عدده. متفرد «أحد» في كيفه. «صمد» لا يعتريه تغير ولا يطال كماله نقص، خلق كل الشيء المتعدد على غير تفرد ولا كمال، كل الشيء يهترئ ويتغير ويهلك إلا وجهه، «فكل شيء هالك إلا وجهه».
خلق لكل شيء جَدَلَهُ، وخلق الإنسان الذي هو «أكثر شيء جدلاً».
سابين هوسينفلدر، العالمة الألمانية وصاحبة كتاب «الفيزياء الوجودية»... تتساءل في إطار ما أسمته فيزياء «الوقت والإهلاك والخلود»، لماذا نهرم ونشيخ كلما مرَّ علينا الوقت، لماذا لا نصبح أكثر شباباً أو نبقى على حالنا دونما تغير؟
تتساءل عن ذاك السر الغامض - أو قل التناقض - في أسس علم الفيزياء. تلك التي تقول إنه بالنظر إلى القوانين التي تحكم الأجسام المجهرية المكونة للمادة، كالجزيئات الأولية، فهي قوانين تصح دلالاتها ونتائجها في أي اتجاه للزمن المستقبل كان أو الماضي.
ورغم أننا نحن البشر وكل مخلوق حولنا من نبات وجماد بل وعوالم وأكوان، كل ذلك خلق من ذات الجزيئات الأولية، فإنه لا يصح فيه ذات الحكم لذات القوانين، وتبقى معضلة التزمن حاكمة فينا.
نحن رهينة تيار الزمان الذي يجرفنا ولا نملك منه فكاكاً ولا له مقاومة أو إيقافاً. إننا نسبح في اتجاه واحد للزمان وكأننا مقيدون بسلاسل من زمن تدفعنا نحو المستقبل على سهم من الوقت يسير نحو الأمام وليس أبداً إلى الخلف.
تتغير أماكننا. تتغير قراراتنا ورغباتنا. تبقى أمنياتنا متعلقة بأهداب أمل بالية ترجو ألا نَهرم وألا نشيخ، وألا يطالنا فعل الزمن كما نعيه ونسميه ونقر به، ولكن نبقى رهائنه، مدفوعون به.
نحن لم نَعِ من حياتنا إلا أن ما مضى قد مضى، وأن كل فعل جرى قد انقضى، لا نملك له نسخاً وعَوداً لما كان.
فإن سقط منا حجر في الماء نعلم يقيناً استحالة أن يعود أدراجه من الماء إلى أيدينا. وإن اشتعل عود ثقاب قُدَّ من جذع شجرة اجتثها حطاب في غابة. نعلم أنه من «الجنون» كما نظن أن نرى تداركاً فيزيائياً يسمح لنا أن نلج باباً نخبر فيه عود الثقاب - وبفعل ممارسات إنسانية شبيهة كالتي أتت به مشتعلاً - ينطفئ ملتئماً مستعيداً مادته الأولى وهيئته الأولى، ثم ما يلبث أن يلتحم بجسد الجذع الذي قُدَّ منه مُستعيداً أصل موضعه... ثم ما يلبث ذلك الجذع أن يهتدي لجِذره فينتصب به حياً رياناً في تربة غابته التي كانت.
إذن ما الذي يجري وقوانين الفيزياء التي تحكم جزيئات الطبيعة في كل خلق الله واحدة، ذهاباً وإياباً، ماضٍ ومستقبل، لا تنطبق على ذاك الخلق ذاته.
قال الفيزيائيون إن الإجابة في تراتبية تلك الجزيئات في حال المخلوق الواحد. فالماء هو الماء أكان ثلجاً صلباً. أم رقراقاً يسري. أم بخاراً يحمله السحاب. الفارق أن تراتبية جزيئات الماء في كل حال من صلب لسائل لغاز قد اختلفت وتغيرت. أو كما يقولون تغيرت «الإنتروبيا». تغير الترتيب بين نظام وتراتبية، وبين فوضى وعشوائية. بين تماسك وبين إهلاك.
وتلك «الإنتروبيا»... تلك الفوضى والعشوائية ومغادرة النظام والتراتبية، في زيادة لا تنتهي أبداً. كسهم الوقت وسريانه لا نملك لها منعاً ولا تحولاً. وإن قد نملك لها إبطاءً!
إذن هكذا ستنتهي الأكوان. إنتروبيا الكون في زيادة أبدية. إذن هو إهلاك وشيخوخة وفقدان قدرة وفقدان طاقة حتى يتحلل كل شيء وتنطفئ كل جذوة طاقة في كل كون. ليكون هناك خلق جديد. بعث جديد. بعث حق. لا هلاك بعده ولا تحلل فيه.
هل استسلم الإنسان لذلك؟ أكاد أقول إن علماء الأحياء ما زالوا يعملون بجد في أبحاث ترجو تأجيل الشيخوخة أو منعها. علماء الفيزياء يقولون تلك مهمة مستحيلة.
علماء الأحياء يجادلون، نستطيع أن نقهر الشيخوخة، أن نؤخرها كثيراً على الأقل. أي نستطيع أن نبطئ الإنتروبيا، وأن نخفف الاهتراء وإن لم نوقفهما، وعلماء الفيزياء يقولون، في الكون سيبقى الإهلاك أمضى، حتى وإن قلَّ في خلق سيزيد حتماً في غيره.
حتى الأدب... حينما أراد أن يقرأ في هذا السؤال بفلسفة خيال الأديب، وقف منه موقف الحائر العاجز لا تسعفه شطحات الخيال... فها هو إسحق أزيموف في روايته الخيالية «السؤال الأخير»، يضع بطل روايته أمام حاسوب ليسأله: «هل هناك وسيلة لنوقف التحلل والإهلاك وفوضى الجزيئات في الكون؟ هل ممكن أن نوقف الإنتروبيا في الكون الكبير كي لا يشيخ؟»، وعلى مدار مليارات السنين - كما يصفها خيال الأديب - تأتي إجابة الحاسوب، أن ليست لديه معلومات كافية للإجابة عن السؤال.
يبقى الحال في خيال الأديب هكذا إلى أن تحلل كل شيء وخمدت كل طاقة، وفني كل نجم وبقي في الكون ظلام بلا حياة... فتأتي إجابة الحاسوب «فليكن خلقاً جديداً».
إذن التحلل والشيخوخة والنقص والاهتراء والهلاك. قَدَرُ كل خلق متزمن. قَدَرٌ لا فكاك منه... قدرٌ هو في حقيقته «جدل». صراع ومجالدة ومجادلة بين البقاء أو الهلاك.
هو قَدَرُ صراع المتناقضات في الشيء الواحد. ألم يأتِ في التنزيل الحكيم القول الحق عن «مضغة مخلقة وغير مخلقة» في أطوار خلق الإنسان. وكذلك عن حي يُخلَق من ميتٍ ومَيَّتٍ يُخلَق من حي في الحديث عن أطوار خلق النبات. «إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون».
وهنا نظن الوحي ينتصر لمقاربة الفيزيائيين. بتأكيد صراع المتناقضات في الشيء الواحد، أو قل جدل الطبيعة بين بقاء وهلاك في الشيء الواحد، وبالإقرار بالإنتروبيا حقيقة حاكمة.
ما ذاك الصراع في جُلِ مخلوقات الحق سبحانه، وجدلها السرمدي بين البقاء والهلاك، وما سمي اهتراءً أو تحللاً أو إنتروبيا، إلا عينُ «تسبيح» المخلوق - الهالك المتزمن - للخالق الحق السرمدي المنزه عن كل نقص وكل هلاك.
وهو ذات الصراع وذات الجدل وذات التسبيح، الذي يعطي للزمن معناه وحقيقة وجوده.
ولأن الله فوق الزمن، وسبحانه أن يتزمَّن والسموات والأراضين يتزمَّنّ.
ولأنه سبحانه سرمدي منزه عن النقص وعن الهلاك، وكل شيء هالك إلا وجهه.
والأكوان بما فيها ومن فيها - السماوات السبع والأرض ومن فيهن تهترئ وتتحلل وتفنى بفعل الإنتروبيا. إلا هو سبحانه.
ففي عين تنزههه عما يُلِمُ بخلقه عينُ تنزيههم له. «عين تسبيحهم له». وإن لم نفقهه.
«تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً»
سبحانه من خلقنا إنساناً يُسبحِه فطرة... حين أمضى فينا جدل الطبيعة، شيخوخة واهتراءً وتزمناً.
ويسبحه عقلاً. حين قدرت حِكمَته أن نقارب بعقولنا الحق قبولاً وإعراضاً، فكان لنا فوق جدل المخلوقات جدل ليس لغير الإنسان منه حظ التكريم... وليكون «الإنسان أكثر شيء جدلاً».
فَكِّرُوا تَصِّحُوا.
- باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».