عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
TT

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)
أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير.
ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها.
فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً. تتحلل بقدر الله وتتبد أبداً، لتخلق بفوضاها نظاماً دقيقاً معجزاً، ليكون قدر ذاك النظام الدقيق المعجز أن تمضي فيه سنة الاهتراء والإهلاك حتى يفنى».
إذن هو نظام مُحكَمٍ خُلِقَ وكأنه من فوضى، ليهترئ إلى فوضى عارمة - وكأنها لا تفضي إلى نظام - حتى يكون في تحلله واهترائه فناؤه ونهايته نحو «مُفردة» جديدة، ليكون خلقاً جديداً، ليكون بعثاً جديداً، ليكون «البعث الحق» كما نص التنزيل الحكيم، تلك هي قصة الكون كما تتلمسها عقولنا الآن.
خالقُ فرد «واحد» في عدده. متفرد «أحد» في كيفه. «صمد» لا يعتريه تغير ولا يطال كماله نقص، خلق كل الشيء المتعدد على غير تفرد ولا كمال، كل الشيء يهترئ ويتغير ويهلك إلا وجهه، «فكل شيء هالك إلا وجهه».
خلق لكل شيء جَدَلَهُ، وخلق الإنسان الذي هو «أكثر شيء جدلاً».
سابين هوسينفلدر، العالمة الألمانية وصاحبة كتاب «الفيزياء الوجودية»... تتساءل في إطار ما أسمته فيزياء «الوقت والإهلاك والخلود»، لماذا نهرم ونشيخ كلما مرَّ علينا الوقت، لماذا لا نصبح أكثر شباباً أو نبقى على حالنا دونما تغير؟
تتساءل عن ذاك السر الغامض - أو قل التناقض - في أسس علم الفيزياء. تلك التي تقول إنه بالنظر إلى القوانين التي تحكم الأجسام المجهرية المكونة للمادة، كالجزيئات الأولية، فهي قوانين تصح دلالاتها ونتائجها في أي اتجاه للزمن المستقبل كان أو الماضي.
ورغم أننا نحن البشر وكل مخلوق حولنا من نبات وجماد بل وعوالم وأكوان، كل ذلك خلق من ذات الجزيئات الأولية، فإنه لا يصح فيه ذات الحكم لذات القوانين، وتبقى معضلة التزمن حاكمة فينا.
نحن رهينة تيار الزمان الذي يجرفنا ولا نملك منه فكاكاً ولا له مقاومة أو إيقافاً. إننا نسبح في اتجاه واحد للزمان وكأننا مقيدون بسلاسل من زمن تدفعنا نحو المستقبل على سهم من الوقت يسير نحو الأمام وليس أبداً إلى الخلف.
تتغير أماكننا. تتغير قراراتنا ورغباتنا. تبقى أمنياتنا متعلقة بأهداب أمل بالية ترجو ألا نَهرم وألا نشيخ، وألا يطالنا فعل الزمن كما نعيه ونسميه ونقر به، ولكن نبقى رهائنه، مدفوعون به.
نحن لم نَعِ من حياتنا إلا أن ما مضى قد مضى، وأن كل فعل جرى قد انقضى، لا نملك له نسخاً وعَوداً لما كان.
فإن سقط منا حجر في الماء نعلم يقيناً استحالة أن يعود أدراجه من الماء إلى أيدينا. وإن اشتعل عود ثقاب قُدَّ من جذع شجرة اجتثها حطاب في غابة. نعلم أنه من «الجنون» كما نظن أن نرى تداركاً فيزيائياً يسمح لنا أن نلج باباً نخبر فيه عود الثقاب - وبفعل ممارسات إنسانية شبيهة كالتي أتت به مشتعلاً - ينطفئ ملتئماً مستعيداً مادته الأولى وهيئته الأولى، ثم ما يلبث أن يلتحم بجسد الجذع الذي قُدَّ منه مُستعيداً أصل موضعه... ثم ما يلبث ذلك الجذع أن يهتدي لجِذره فينتصب به حياً رياناً في تربة غابته التي كانت.
إذن ما الذي يجري وقوانين الفيزياء التي تحكم جزيئات الطبيعة في كل خلق الله واحدة، ذهاباً وإياباً، ماضٍ ومستقبل، لا تنطبق على ذاك الخلق ذاته.
قال الفيزيائيون إن الإجابة في تراتبية تلك الجزيئات في حال المخلوق الواحد. فالماء هو الماء أكان ثلجاً صلباً. أم رقراقاً يسري. أم بخاراً يحمله السحاب. الفارق أن تراتبية جزيئات الماء في كل حال من صلب لسائل لغاز قد اختلفت وتغيرت. أو كما يقولون تغيرت «الإنتروبيا». تغير الترتيب بين نظام وتراتبية، وبين فوضى وعشوائية. بين تماسك وبين إهلاك.
وتلك «الإنتروبيا»... تلك الفوضى والعشوائية ومغادرة النظام والتراتبية، في زيادة لا تنتهي أبداً. كسهم الوقت وسريانه لا نملك لها منعاً ولا تحولاً. وإن قد نملك لها إبطاءً!
إذن هكذا ستنتهي الأكوان. إنتروبيا الكون في زيادة أبدية. إذن هو إهلاك وشيخوخة وفقدان قدرة وفقدان طاقة حتى يتحلل كل شيء وتنطفئ كل جذوة طاقة في كل كون. ليكون هناك خلق جديد. بعث جديد. بعث حق. لا هلاك بعده ولا تحلل فيه.
هل استسلم الإنسان لذلك؟ أكاد أقول إن علماء الأحياء ما زالوا يعملون بجد في أبحاث ترجو تأجيل الشيخوخة أو منعها. علماء الفيزياء يقولون تلك مهمة مستحيلة.
علماء الأحياء يجادلون، نستطيع أن نقهر الشيخوخة، أن نؤخرها كثيراً على الأقل. أي نستطيع أن نبطئ الإنتروبيا، وأن نخفف الاهتراء وإن لم نوقفهما، وعلماء الفيزياء يقولون، في الكون سيبقى الإهلاك أمضى، حتى وإن قلَّ في خلق سيزيد حتماً في غيره.
حتى الأدب... حينما أراد أن يقرأ في هذا السؤال بفلسفة خيال الأديب، وقف منه موقف الحائر العاجز لا تسعفه شطحات الخيال... فها هو إسحق أزيموف في روايته الخيالية «السؤال الأخير»، يضع بطل روايته أمام حاسوب ليسأله: «هل هناك وسيلة لنوقف التحلل والإهلاك وفوضى الجزيئات في الكون؟ هل ممكن أن نوقف الإنتروبيا في الكون الكبير كي لا يشيخ؟»، وعلى مدار مليارات السنين - كما يصفها خيال الأديب - تأتي إجابة الحاسوب، أن ليست لديه معلومات كافية للإجابة عن السؤال.
يبقى الحال في خيال الأديب هكذا إلى أن تحلل كل شيء وخمدت كل طاقة، وفني كل نجم وبقي في الكون ظلام بلا حياة... فتأتي إجابة الحاسوب «فليكن خلقاً جديداً».
إذن التحلل والشيخوخة والنقص والاهتراء والهلاك. قَدَرُ كل خلق متزمن. قَدَرٌ لا فكاك منه... قدرٌ هو في حقيقته «جدل». صراع ومجالدة ومجادلة بين البقاء أو الهلاك.
هو قَدَرُ صراع المتناقضات في الشيء الواحد. ألم يأتِ في التنزيل الحكيم القول الحق عن «مضغة مخلقة وغير مخلقة» في أطوار خلق الإنسان. وكذلك عن حي يُخلَق من ميتٍ ومَيَّتٍ يُخلَق من حي في الحديث عن أطوار خلق النبات. «إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون».
وهنا نظن الوحي ينتصر لمقاربة الفيزيائيين. بتأكيد صراع المتناقضات في الشيء الواحد، أو قل جدل الطبيعة بين بقاء وهلاك في الشيء الواحد، وبالإقرار بالإنتروبيا حقيقة حاكمة.
ما ذاك الصراع في جُلِ مخلوقات الحق سبحانه، وجدلها السرمدي بين البقاء والهلاك، وما سمي اهتراءً أو تحللاً أو إنتروبيا، إلا عينُ «تسبيح» المخلوق - الهالك المتزمن - للخالق الحق السرمدي المنزه عن كل نقص وكل هلاك.
وهو ذات الصراع وذات الجدل وذات التسبيح، الذي يعطي للزمن معناه وحقيقة وجوده.
ولأن الله فوق الزمن، وسبحانه أن يتزمَّن والسموات والأراضين يتزمَّنّ.
ولأنه سبحانه سرمدي منزه عن النقص وعن الهلاك، وكل شيء هالك إلا وجهه.
والأكوان بما فيها ومن فيها - السماوات السبع والأرض ومن فيهن تهترئ وتتحلل وتفنى بفعل الإنتروبيا. إلا هو سبحانه.
ففي عين تنزههه عما يُلِمُ بخلقه عينُ تنزيههم له. «عين تسبيحهم له». وإن لم نفقهه.
«تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً»
سبحانه من خلقنا إنساناً يُسبحِه فطرة... حين أمضى فينا جدل الطبيعة، شيخوخة واهتراءً وتزمناً.
ويسبحه عقلاً. حين قدرت حِكمَته أن نقارب بعقولنا الحق قبولاً وإعراضاً، فكان لنا فوق جدل المخلوقات جدل ليس لغير الإنسان منه حظ التكريم... وليكون «الإنسان أكثر شيء جدلاً».
فَكِّرُوا تَصِّحُوا.
- باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!