العملة اللبنانية تفقد «هيبتها» بعد قرار الحكومة «دولرة» الأسعار

البلد يستورد 85% من حاجاته... وتكاليف المعيشة تتخطى قدرات المواطنين

تسعير المشتريات بالدولار أصبح القاعدة المعتمدة في المتاجر اللبنانية  (أ.ف.ب)
تسعير المشتريات بالدولار أصبح القاعدة المعتمدة في المتاجر اللبنانية (أ.ف.ب)
TT

العملة اللبنانية تفقد «هيبتها» بعد قرار الحكومة «دولرة» الأسعار

تسعير المشتريات بالدولار أصبح القاعدة المعتمدة في المتاجر اللبنانية  (أ.ف.ب)
تسعير المشتريات بالدولار أصبح القاعدة المعتمدة في المتاجر اللبنانية (أ.ف.ب)

تحسب سيدة أربعينية على رف السوبر ماركت سعر عبوة صابون اليدين بالعملة المحلية: «1.4 دولار يعني 120 ألف ليرة لبنانية»، وتتردد قبل وضعها في سلة مشترياتها. فالسلع اليوم صارت تسعر بأكملها بالدولار الأميركي، «ونحن في المقابل نتلقى رواتبنا بالليرة»، بحسب ما تقول، ما ضاعف الضغوط على الطبقة العاملة والموظفين بشكل قياسي.
وليست السيدة التي تعمل موظفة في القطاع العام إلا عيّنة من عشرات آلاف اللبنانيين الذين وضعوا أخيراً تحت أمر واقع، يتمثل في دفع ثمن السلع بما يساوي قيمتها بالدولار، إثر خطة «دولرة الأسعار» التي دفعت وزارة الاقتصاد باتجاهها، رغم أن رواتب معظم الموظفين، خصوصاً في القطاع العام، لا تزال بالليرة اللبنانية.
وتقلصت قيمة رواتب الموظفين في القطاعين العام والخاص إلى مستويات قياسية بفعل التضخم، وتدهور قيمة العملة المحلية، في مقابل عجز حكومي عن رفع قيمة الرواتب بما يتناسب مع الاحتياجات وحجم التضخم. تقول السيدة: «لا يكفيني راتبي لشراء مستلزمات المنزل لأسبوع، وبالكاد نستطيع شراء طعامنا لأسبوع»، في إشارة إلى أن راتبها لا يكفي لملء السلة بالأساسيات. وعليه، تختار حاجتها ضمن قائمة أولويات محددة.
- لا ثقة بالعملة الوطنية
و«الدولرة» التي باتت رسمية بقرار وزاري، ليست قراراً جديداً عملياً، كون لبنان يستورد القسم الأكبر من احتياجاته. يقول وزير الاقتصاد السابق رائد خوري لـ«الشرق الأوسط»: «مرّ لبنان بفترة استمرّت من التسعينات حتى 2014، كان فيها البنك المركزي يتدخل بشكل يومي لتثبيت سعر الليرة اللبنانية على 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد، وكان كل شيء في تلك الآونة (مدولراً) من القروض إلى المدارس، إضافة إلى المداولات اليومية، من هنا لم يشعر المواطن بـ(الدولرة) طوال تلك الفترة، وكان التعامل بالليرة لا يعد مخاطرة».
وأضاف خوري: «لكن اليوم عندما فُقدت الثقة بالعملة الوطنية، أصبحت الدولرة واضحة، وهذا يشبه إلى حدّ بعيد ما حصل في الثمانينات عندما تدهورت الليرة بشكل كبير»، مشيراً في المقابل إلى أنه لا يمكن وصف الدولرة بالإيجابية أو السلبية «فهي باتت أمراً واقعاً»، ويرى أن التسعير بالدولار في السوبر ماركت أفضل للمواطن لأسباب عدّة، ولا سيما منها الحد من الغش الذي انتشر كثيراً في الفترة الأخيرة.
وعن أسباب «الدولرة»، رأى خوري أن وجود «الدولرة» في الاقتصاد اللبناني سببه أن لبنان بلد مستهلك، ويستورد أكثر مما يصدر، «وبالتالي نحن في حاجة إلى الدولار لشراء الحاجيات، إذ إن 90 في المائة من السلة الاستهلاكية، مستوردة».
وأسف خوري لأن العملة الوطنية فقدت قيمتها كلياً، قائلاً إن الليرة تعكس الاقتصاد، فإذا كان هذا الأخير استهلاكياً، وميزان المدفوعات سلبياً، يعني أن الليرة لا قيمة لها، ولن تعود لها قيمة، إلا بالاقتصاد المنتج من خلال إدخال الدولار إلى البلد. وذكّر خوري بأنه حذّر منذ بداية الأزمة من الوصول إلى هذا الدرك، لافتاً إلى أن البديل يكون باقتصاد مستدام، «ولهذا السبب استعنّا بماكنزي ووضعنا خطّة للبلد».
وعن «الدولرة الشاملة»، رأى خوري ضرورة حصولها في لبنان و«لنعلّق التداول بالعملة الوطنية، حتى تستعيد هيبتها»، لكنه أشار في المقابل إلى أن الدولة اللبنانية لن تتخلى عن استعمال الليرة، وذلك لمصلحتها الخاصة، وليس لخير المواطن، وذلك لسبب واحد وهو أن الدولة تصرف على رواتب القطاع العام بالليرة، من هنا مصلحتها تقتضي استمرار التداول بالليرة، لأن هذا الأمر أوفر لها من الدولار. ورأى «أننا ما زلنا في مرحلة بعيدة جداً عن الحل»، محذّراً من «أننا في مرحلة سكوت وهدوء قبل الانفجار الكبير».
- «دولرة» منذ أيام الحرب
أما الرواية التاريخية لـ«الدولرة» في لبنان، فعرض لها الباحث الاقتصادي والمالي الدكتور محمود جباعي، مشيراً، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «لا تاريخ محدداً وثابتاً لبداية الدولرة في لبنان، ولكنها ظهرت مع بداية الحرب الأهلية، حيث كان لبنان ينعم قبلها بنظام اقتصادي متين في عهد الرئيس فؤاد شهاب، الذي كان يعمل على النمو المتوازن وعمل القطاعات الإنتاجية في البلاد بالتوازي مع قطاع الخدمات والاقتصاد الريعي». وأضاف: «نتيجة لذلك كان يُدخل الرساميل إلى البلد، خصوصاً من خلال المصارف، وذلك بفعل قانون السرية المصرفية، فتكوّنت الاحتياطات الأجنبية في المصارف اللبنانية عند مصرف لبنان».
وتابع جباعي بالإشارة إلى أنه «مع نشوب الحرب الأهلية والدمار الذي طال معظم القطاعات والمصالح المنتجة، انهارت الليرة اللبنانية إلى حدود ما يوازي الألف ضعف لتصل إلى 3000 ليرة مقابل الدولار، ما اضطر المؤسسات والتجار للاعتماد على العملات الأجنبية بسبب انهيار العملة الوطنية لإمكانية متابعة مصالحهم وإنتاجيتهم».
وعن انهيار العملة الوطنية، أكد جباعي أنه منذ 2019 وحتى اليوم، أصبح الانهيار أكبر، ولا سيما مع تمنع لبنان عن دفع ديونه السيادية، وهي خطوة خفّضت تصنيف لبنان الائتماني، «ما يعني غياب الثقة كلّياً بالوضع المالي، وهذا الأمر أسهم بانهيار العملة». وقال إن التسعير بالدولار هو الساري، في ظل اقتصاد غير منتج، «فلبنان يستورد أكثر من 85 في المائة من حاجاته الاستهلاكية، المسعّرة أصلاً بالدولار، وهذا أسهم بأن يصبح اقتصادنا شبه مدولر».
بعد انهيار العملة اتجهت كل القطاعات إلى «الدولرة» من جديد، وذلك لحماية رأسمالها وأرباحها، بحسب جباعي الذي كشف أن «300 ألف مهنة حرّة يشكّلون 25 في المائة من سكان لبنان، يسعّرون كل شيء بالدولار، وبالنتيجة ارتفاع نسبة الدولرة سببه الانهيار والخوف من انهيار أكبر»، وتابع بالإشارة إلى «أننا نتّجه إلى مزيد من الضغط، إن وصلنا لمائة ضعف، قد نلامس 150 ألف ليرة، فبالتالي الأفضل للشركات الخاصة التسعير بالدولار». واستبعد تحول الدولة إلى «الدولرة الكاملة» لزيادة عائداتها، «لأنه لا قدرة للدولة اللبنانية على هذا الأمر بالاقتصاد، وبالقانون لا يمكن لأي دولة أن تستغني عن عملتها الوطنية».


مقالات ذات صلة

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

المشرق العربي رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

تُوفّي الموسيقار اللبناني إيلي شويري، عن 84 عاماً، الأربعاء، بعد تعرُّضه لأزمة صحية، نُقل على أثرها إلى المستشفى، حيث فارق الحياة. وأكدت ابنته كارول، لـ«الشرق الأوسط»، أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن تعلم به العائلة، وأنها كانت معه لحظة فارق الحياة.

المشرق العربي القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

وجّه المجلس التأديبي للقضاة في لبنان ضربة قوية للمدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، عبر القرار الذي أصدره وقضى بطردها من القضاء، بناء على «مخالفات ارتكبتها في إطار ممارستها لمهمتها القضائية والتمرّد على قرارات رؤسائها والمرجعيات القضائية، وعدم الامتثال للتنبيهات التي وجّهت إليها». القرار التأديبي صدر بإجماع أعضاء المجلس الذي يرأسه رئيس محكمة التمييز الجزائية القاضي جمال الحجار، وجاء نتيجة جلسات محاكمة خضعت إليها القاضية عون، بناء على توصية صدرت عن التفتيش القضائي، واستناداً إلى دعاوى قدمها متضررون من إجراءات اتخذتها بمعرض تحقيقها في ملفات عالقة أمامها، ومخالفتها لتعليمات صادرة عن مرجع

يوسف دياب (بيروت)
المشرق العربي جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

رأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن فرص انتخاب مرشح قوى 8 آذار، رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، «باتت معدومة»، مشيراً إلى أن الرهان على الوقت «لن ينفع، وسيفاقم الأزمة ويؤخر الإصلاح». ويأتي موقف جعجع في ظل فراغ رئاسي يمتد منذ 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث فشل البرلمان بانتخاب رئيس، وحالت الخلافات السياسية دون الاتفاق على شخصية واحدة يتم تأمين النصاب القانوني في مجلس النواب لانتخابها، أي بحضور 86 نائباً في دورة الانتخاب الثانية، في حال فشل ثلثا أعضاء المجلس (86 نائباً من أصل 128) في انتخابه بالدورة الأولى. وتدعم قوى 8 آذار، وصول فرنجية إلى الرئاسة، فيما تعارض القوى المسيحية الأكثر

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

جدد سفير المملكة العربية السعودية لدى لبنان، وليد بخاري، تأكيد موقف المملكة من الاستحقاق الرئاسي اللبناني بوصفه «شأناً سياسياً داخلياً لبنانياً»، حسبما أعلن المتحدث باسم البطريركية المارونية في لبنان بعد لقاء بخاري بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، بدأ فيه السفير السعودي اليوم الثاني من جولته على قيادات دينية وسياسية لبنانية. وفي حين غادر السفير بخاري بكركي من دون الإدلاء بأي تصريح، أكد المسؤول الإعلامي في الصرح البطريركي وليد غياض، أن بخاري نقل إلى الراعي تحيات المملكة وأثنى على دوره، مثمناً المبادرات التي قام ويقوم بها في موضوع الاستحقاق الرئاسي في سبيل التوصل إلى توافق ويضع حداً للفراغ الرئا

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

تأتي جولة سفيرة الولايات المتحدة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا على المرجعيات الروحية والسياسية اللبنانية في سياق سؤالها عن الخطوات المطلوبة لتفادي الشغور في حاكمية مصرف لبنان بانتهاء ولاية رياض سلامة في مطلع يوليو (تموز) المقبل في حال تعذّر على المجلس النيابي انتخاب رئيس للجمهورية قبل هذا التاريخ. وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر نيابية ووزارية أن تحرك السفيرة الأميركية، وإن كان يبقى تحت سقف حث النواب على انتخاب رئيس للجمهورية لما للشغور الرئاسي من ارتدادات سلبية تدفع باتجاه تدحرج لبنان من سيئ إلى أسوأ، فإن الوجه الآخر لتحركها يكمن في استباق تمدد هذا الشغور نحو حاكمية مصرف لبنان في حال استحال عل

محمد شقير (بيروت)

اللبنانيون يحتفلون بوقف إطلاق النار... ونازحون يعودون إلى الجنوب والبقاع رغم التحذيرات

يلوِّح الناس بالأعلام اللبنانية وأعلام حركة «أمل» في مدينة صور بعد سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» (رويترز)
يلوِّح الناس بالأعلام اللبنانية وأعلام حركة «أمل» في مدينة صور بعد سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» (رويترز)
TT

اللبنانيون يحتفلون بوقف إطلاق النار... ونازحون يعودون إلى الجنوب والبقاع رغم التحذيرات

يلوِّح الناس بالأعلام اللبنانية وأعلام حركة «أمل» في مدينة صور بعد سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» (رويترز)
يلوِّح الناس بالأعلام اللبنانية وأعلام حركة «أمل» في مدينة صور بعد سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» (رويترز)

مع دخول وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» حيز التنفيذ في الساعة الرابعة من صباح اليوم (الأربعاء) بالتوقيت المحلي (02:00 بتوقيت غرينتش)، نزل آلاف اللبنانيين إلى شوارع في بيروت، احتفالاً.

وسُمع دوي طلقات نارية في أنحاء العاصمة بيروت، بعد سريان وقف إطلاق النار؛ لكن لم يتضح بعد ما إذا كان ذلك احتفالًا.

أما في النبطية، فأطلق مواطنون مفرقعات نارية، ابتهاجاً بعودتهم إلى الجنوب.

ومع دخول وقف إطلاق النار حيِّز التنفيذ، بدأ أهالي الجنوب والبقاع العودة إلى قراهم. وتشهد الطرق المؤدية إلى هاتين المنطقتين مواكب للسيارات التي تنقل العائلات.

رجل يلوِّح بعلم لبنان في مدينة صيدا بالجنوب بينما يتجه النازحون إلى منازلهم بعد سريان وقف إطلاق النار (أ.ف.ب)

وتوجهت مئات السيارات نحو الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، مع انعدام حركة الطيران الحربي والمُسيَّرات الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية، رغم تحذير الجيش الإسرائيلي النازحين من العودة إلى مناطقهم.

امرأة تحمل صورة حسن نصر الله أثناء عودتها إلى الضاحية الجنوبية في بيروت (أ.ب)

وكان الجيش الإسرائيلي قد وجَّه -فجر الأربعاء، إثر بدء سريان اتفاق لوقف إطلاق النار بينه وبين «حزب الله»- تحذيراً إلى النازحين من جنوب لبنان من العودة إلى منازلهم، والاقتراب من مواقعه في هذه المنطقة.

وقال المتحدث باسم الجيش، أفيخاي أدرعي، عبر حسابه في منصة «إكس»: «إنذار عاجل إلى سكان جنوب لبنان: مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيِّز التنفيذ، وبناء على بنوده، يبقى الجيش الإسرائيلي منتشراً في مواقعه داخل جنوب لبنان. يحظر عليكم التوجه نحو القرى التي طالب جيش الدفاع بإخلائها، أو باتجاه قوات جيش الدفاع في المنطقة».