آنا أخماتوفا وموديلياني: تعاهدا على الموت معاً ثم ذهبا لمصيرين متباعدين

جاءت لتقضي شهر العسل في باريس فأذهلتها وسامته وبريقه الداخلي

أميديو موديلياني - آنا أخماتوفا
أميديو موديلياني - آنا أخماتوفا
TT

آنا أخماتوفا وموديلياني: تعاهدا على الموت معاً ثم ذهبا لمصيرين متباعدين

أميديو موديلياني - آنا أخماتوفا
أميديو موديلياني - آنا أخماتوفا

لم تكن العلاقة العاطفية التي جمعت بين الشاعرة الروسية المعروفة آنا أخماتوفا، والرسام الإيطالي الشهير أميديو موديلياني، منبتة تماماً عن سياق «الغزو» الأنثوي الروسي للقارة الأوروبية في القرنين الفائتين. فقبل علاقة أخماتوفا وموديلياني بعدة عقود كانت هناك لو سالومي التي خلبت لب نيتشه وريلكه وفرويد وعباقرة آخرين. وبعدها بسنوات كانت ليلي بريك تكسر قلب ماياكوفسكي شاعر الثورة البلشفية، وتوقع في حبائلها عدداً من كتاب الغرب، تماماً كما كان حال أختها إلسا تريوليه التي عبر قلبها محطات عدة قبل أن يستقر عند أراغون، وحال غالا التي كانت حبيبة بول إيلوار، قبل أن تقع في غرام سلفادور دالي وتقضي معه بقية حياتها.
أما آنا أخماتوفا المولودة في أوديسا الأوكرانية عام 1899 فكانت خليطاً مثيراً للحيرة بين الفتنة الجمالية المندفعة باتجاه الحياة وبين التراجيديا المؤلمة التي كانت تهيئ لأعظم شاعرات روسيا مآلها القاتم. وقد عمدت الشاعرة المولودة تحت اسم «آنا غورينكو» إلى تبني اسم جدتها التترية أخماتوفا، بعد أن زجرها أبوها العسكري المحتج على نزوعها الإباحي قائلاً «لا توسخي اسم العائلة النبيلة بأبيات وقحة ومنحطة» لتجيبه من جهتها دون خوف «اسمك هذا لست بحاجة إليه». وقد تفتحت موهبة آنا في القرية القيصرية القريبة من بطرسبورغ، كتبت آنا بتأثر بالغ وهي تتمشى في الحدائق التي ذرعها من قبلها شعراء روسيا العظام، بينهم بوشكين «كم على هذه الأغصان من وجدانيات معلقة».
وإذا لم يكن نيكولاي غوميليوف، الذي وقع في غرام آنا، يمتلك أي قدر من الوسامة، فالأرجح أن ذكاءه الحاد وموهبته العالية، فضلاً عن رغبتها في الانعتاق من سطوة الأب، هي العوامل التي دفعت الصبية الحسناء إلى الإصرار على الزواج منه رغم المعارضة الشديدة للعائلة. وإذ قررت أن تقضي شهر عسلها المرتقب بين الربوع الفرنسية والإيطالية، كان القدر من جهته يلعب لعبته الخطرة ويمهد لها سبل اللقاء بموديلياني أحد أعظم الفنانين التشكيليين في العصور كافة. فقد كان أميديو قد قدم من إيطاليا إلى باريس بهدف استكمال دراسته في الفن عام 1906، حيث تجمع أكثر الروايات على لقائه بأخماتوفا عام 1910 في مقهى روتوندا الذي كان ملتقى للكتاب والفنانين في ذلك الوقت. وحيث أعجب كل منهما بالآخر لم تأبه أخماتوفا بالوضع المادي المزري لشريد المدن البوهيمي، الذي تروي عنه أنه اضطر أن يقاسمها مقعداً حجرياً في إحدى حدائق باريس لأنه لم يكن يملك المال اللازم لدعوتها إلى المطعم المجاور.
أما زيارتها لمنزل الفنان فتؤكدها اعترافاتها الشخصية، وقولها في وقت لاحق «كان بيته مليئاً بالرسومات من الأرض حتى السقف، وكنا ندردش عن الشعر لساعات، نتلو خلالها أبياتاً لبودلير وأبولينير وفيرلين ومالارميه الذين نحفظ أبياتهم عن ظهر قلب». فيما أعرب أميديو عن افتتانه بالزرافة الطويلة التي تشبه الملكات الفينيقيات بشعرها الأسود وأذنيها الملتصقتين وأنفها المعقوف. وحين عرض عليها رسم بورتريهات لها لم تتأخر في الموافقة، لكنها لم تقر بتعريها أمام الفنان، معلنة أنه رسمها من عنديات خياله المحض، نافية في الوقت ذاته أي تواصل جسدي بين الطرفين.
وحين عادت أخماتوفا لتعيش مع غوميليوف ووالدته في غرفة ضيقة في تسارسكوي سيلو، لم يكن لنشاطهما الشعري المشترك أن يزيل من مخيلتها الأطياف الساحرة للفنان الإيطالي الوسيم. وإذ بدأت علاقتهما بالترنح بفعل التنافس الشعري الضمني، وبفعل فائض الرغبات والتعلق المرَضي بالحرية، استغلت آنا سفر زوجها إلى أفريقيا ومكوثه أشهراً معدودة لممارسة هواية الصيد، وعادت بمفردها إلى باريس، حيث كان موديلياني ينتظرها على أحر من الجمر، ليقضيا معاً أوقاتاً مترعة بالحب، وليصطحبها وهو المعجب بالفن الفرعوني إلى متحف اللوفر، محاولاً أن يوفر لها معرفة أفضل بفنون التشكيل، فيما قرأت له نماذج من شعرها حازت على إعجابه.
«كان له رأس جميل وعيون تلمع كالذهب ليس له مثيل في العالم كما أنه شخص حزين، كتوم، ذو سر مشوق»، كتبت آنا عن موديلياني في أحد اعترافاتها المتأخرة، كما تنقل أماني غيث في كتابها المميز «ملكة النيفا، آنا أخماتوفا». وإذا كانت الأسئلة المتصلة بالأسباب الفعلية التي حالت دون استمرار العلاقة وقتاً أطول لا تجد أجوبة شافية لها، لكن الأرجح بأن التباعد الجغرافي بين المبدعين العاشقين، وإصرار أخماتوفا على عدم مغادرة وطنها الأم، فضلاً عن دخول موديلياني اللاحق في غير مغامرة غرامية، هي من بين العوامل التي أوصلت العلاقة إلى فصلها الختامي. ولعل تكتم آنا على العلاقة ولجوئها إلى إحراق رسائل موديلياني إليها، هو البرهان الأكثر دلالة على الظروف القاسية التي عاشتها. وقد ذهب البعض إلى القول بأن جهاز المخابرات السوفياتي بالذات هو الذي أحرق مكتبة الشاعرة ورسائلها وأوراقها الشخصية أثناء مداهمته لمنزلها.
وإذا كانت أقدار العاشقين المتغايرة لم تتح لقصة حبهما الغامضة أن تستمر طويلاً، إلا أنها رسمت لهما مصيرين ملبدين بالآلام ومتشابهين في مآلهما المأساوي. فموديلياني رسام الشخصيات الطولية والعيون معدومة البؤبؤ الناظرة أبداً إلى الداخل لم توفر له وسامته وموهبته المفرطتان سبل السعادة والراحة اللتين نشدهما بلا طائل. ومع أنه دخل في علاقة عاطفية مع الرسامة وعارضة الأزياء جان هيبوتيرن، إلا أن مزاجه العصبي والمتقلب حول تلك العلاقة إلى دوامة من المشاجرات العنيفة والصاخبة. وحين قرر الزواج منها بعد أن ولدت له ابنة حملت اسم أمها نفسه، كان مرض السل قد أنهكه بالكامل إلى أن فارق الحياة عام 1920، إلا أن المأساة لم تقف عند هذا الحد، بل تمثل فصلها الأكثر قتامة بانتحار عشيقته جان التي كانت حاملاً في شهرها التاسع، ليتم دفنها مع موديلياني في القبر ذاته.
أما آنا التي لم تكف يوماً عن نسج علاقات غرامية مع الرجال، التي كتبت في مقالة لها «إن ثقافة المرأة تقاس بعدد عشاقها»، فقد تزوجت عام 1918 بعد انفصالها عن غوميليوف من فلاديمير شيليكو، الشاعر وعالم الحضارات دون أن تعثر بسبب غيرته الشديدة على الطمأنينة المنشودة، لتنفصل عنه بعد سنوات ثلاث، أي في السنة ذاتها التي أعدم فيها غوميليوف بتهمة التآمر على نظام الحكم. ثم لتتزوج للمرة الثالثة من المؤرخ نيكولاي يونين، الذي صمدت علاقتها به طويلاً، ليضع لها نظام الاستبداد الستاليني حدها المأساوي بموت يونين مريضاً ويائساً في أحد معتقلاته النائية. على أن خسارات آنا لم تتوقف عند هذا الحد، بل إن هذا النظام بالذات ما لبث أن اغتال ابنها ليف، ودفع من لم يقم باغتيالهم من شعراء روسيا الكبار إلى الانتحار. ومع أن قلب أخماتوفا التي رحلت عن هذا العالم عام 1966 كان مكتظاً بالعشاق، إلا أنها في العمق الأخير من روحها كانت قد أفردت لموديلياني مكاناً لا يدانيه أحد. صحيح أن الشواهد الفنية على العلاقة قد اقتصرت على بضع قصائد عاطفية وبورتريه واحد نجا من الإتلاف، وصحيح أن كلاً منهما قد دفن بعيداً عن الآخر، لكن الصحيح أيضاً أنهما كانا قد تعاهدا على الموت معاً، وفق ما عبرت عنه آنا في قصيدتها «أغنية اللقاء الأخير»، التي جاء فيها:
«كانت خطواتي يومها رشيقة وخفيفة
رغم البرودة والعجز في صدري
ومن دون أن أنتبه وضعت في يمناي قفازي الأيسر
وسط الأشجار سمعت الخريف يهمس لي: موتي معي
لقد خذلني اليأس
وأعرف أن الحزن والوجع هما قدري
ولذا أجبت:
عزيزي: وأنا أيضاً أرغب في أن أموت معك».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)
المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)
TT

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)
المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)

أُزيل فيل برتقالي ضخم كان مثبتاً على جانب طريق رئيسي بمقاطعة ديفون بجنوب غرب إنجلترا، بعد تخريبه، وفق ما نقلت «بي بي سي» عن مالكي المَعْلم الشهير الذي كان يميّز هذا الطريق.

والفيل البرتقالي، الذي كان مثبتاً في حقل على جانب طريق «إيه 38» قرب قرية كينفورد القريبة من مدينة إكستر، قد رمّمته عائلة تافرنر التي تملكه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

ورُشَّت كلمتا «لا للقمامة» عليه، ويُعتقد أنّ ذلك كان رداً على خطط مثيرة للجدل لإنشاء موقع مكبّ نفايات مؤقت على الأرض المملوكة للعائلة.

المعلم يخضع لعملية ترميم بعد التخريب (مواقع التواصل)

يُعدُّ اقتراح إنشاء موقع مكبّ للنفايات جزءاً من طلب تخطيط مُقدَّم من شركة «بي تي جنكنز» المحلّية، ولم يتّخذ مجلس مقاطعة ديفون قراراً بشأنه بعد.

بدورها، قالت الشرطة إنه لا شكوك يمكن التحقيق فيها حالياً، ولكن إذا ظهرت أدلة جديدة على وجود صلة بين الحادث ومقترح إنشاء مكبّ للنفايات، فقد يُعاد النظر في القضية.

أما المالكة والمديرة وصانعة «الآيس كريم» بشركة «آيس كريم الفيل البرتقالي» هيلين تافرنر، فعلَّقت: «يخضع الفيل لعملية ترميم بعد التخريب الرهيب الذي تعرَّض له»، وأضافت: «ندرك أنّ ثمة اختلافاً في الآراء حول الخطط، ونرحّب بالمناقشات العقلانية، لكنْ هذه ليست المرّة الأولى التي نضطر فيها إلى مُطالبة الشرطة بالتدخُّل».

وتابعت: «نطالب الجميع بالاستفادة من هذه اللحظة، فنتفق على إجراء هذه المناقشة بحكمة واحترام متبادَل».