رغم نجاح زيارته التاريخية.. مهمة أوباما في أفريقيا لم تنته بعد

جولة الرئيس الأميركي.. بين الاعتراف بالفساد والإشادة بتطور القارة

الرئيس الأميركي باراك أوباما لدى مغادرته أديس أبابا أول من أمس متجها إلى واشنطن (أ.ف.ب)
الرئيس الأميركي باراك أوباما لدى مغادرته أديس أبابا أول من أمس متجها إلى واشنطن (أ.ف.ب)
TT

رغم نجاح زيارته التاريخية.. مهمة أوباما في أفريقيا لم تنته بعد

الرئيس الأميركي باراك أوباما لدى مغادرته أديس أبابا أول من أمس متجها إلى واشنطن (أ.ف.ب)
الرئيس الأميركي باراك أوباما لدى مغادرته أديس أبابا أول من أمس متجها إلى واشنطن (أ.ف.ب)

ربما يكون الرئيس الأميركي باراك أوباما قد اقترب خلال زيارته لأفريقيا من عظام أبناء الحضارات القديمة، أكثر من اقترابه من الأفارقة العاديين - وهي الزيارة التي قد تكون الأخيرة له كرئيس، ولكن يبقى له شرف المحاولة.
وفي منطقة تمثل موطنا لبعض أحدث الشركات الناشئة بمجال التقنيات الحديثة وأقدم الحروب على سطح الأرض، حاول أوباما التوفيق بين أمله الكبير في مستقبل أفريقيا وعزمه على الاعتراف بالحقيقة بخصوص التحديات الماضية والحاضرة.
وفي خطاب مهم أمام حشد من الطلاب الكينيين، وكذلك خلال أحاديث له أمام تجمعات أصغر تضم أعضاء المجتمع المدني، بدا أوباما أحيانًا ممزقًا بين رغبته في أن يكيل الثناء على التقدم الاقتصادي الذي نجح في رفع مستويات المعيشة للملايين من أبناء القارة، والاعتراف بقضايا الفساد والعنف والأمن التي ما تزال تعاني القارة منها. وقد احتفى أوباما بعبقرية قادة الأعمال التجارية الأفارقة، ثم سرعان ما تحول إلى الحرب الأهلية المتعمقة في جنوب السودان.
وأقلعت طائرته باتجاه إثيوبيا، واحدة من أسرع اقتصاديات أفريقيا نموًا، في ذات الوقت الذي تعرض فندق بارز لهجوم في الصومال المجاورة.
وقد عجت رحلة أوباما التي توقع الكثيرون من أنها ستكون روحانية بالكثير من العناصر التي تذكر الجميع بمنطقة تناضل في مواجهة حالة من الأزمة. إلا أن هذا لم يثبط حماس الكينيين والإثيوبيين الذين حرصوا على تحية أوباما، باعتباره أول رئيس أميركي يزور أيا من البلدين.
وفي خطاب ألقاه داخل مقر رئاسة الاتحاد الأفريقي هنا أول من أمس، حذر أوباما من أن «التقدم الديمقراطي في أفريقيا... يتهدده الخطر»، وذلك عندما يرفض القادة التخلي عن السلطة، مشيرًا إلى ما ينص عليه الدستور الأميركي من تحديد للفترات الرئاسية. إلا أنه استطرد بأنه لو كان بإمكانه الترشح مجددًا، فإنه قد يفوز.
وقال: «أحب عملي، لكن تبعًا لدستورنا، لا يمكنني الترشح مجددًا. ليس بإمكاني الترشح مرة أخرى. في الواقع، أعتقد أنني رئيس جيد للغاية، وأعتقد أنني لو ترشحت سيكون بإمكاني الفوز. إلا أنه ليس بإمكاني ذلك».
وفي نيروبي، تحدث الأحد الماضي، داخل قاعة أمام حشد يبلغ تعداد 4.500 شخص، في مشهد أثار في الأذهان صور الإعجاب المفرط الذي حظي به خلال ذروة حملته الانتخابية الرئاسية الأولى.
امتلأت المدينة بالأعلام الأميركية خلال زيارته، والتي وصفها الكينيون بفخر بأنها عودة للوطن. ورغم أن المتفرجين العاديين جرى إبقاؤهم على بعد مئات الياردات بمعاونة رجال أمن متجهمي الوجوه يحملون أسلحة أوتوماتيكية، فقد سيطرت عليهم مشاعر إثارة بالغة.
ومن جانبه، احتفى أوباما بكينيا، موطن والده، باعتبارها مكانا يرتبط به برابطة خاصة. وأما سياسته التي رسم ملامحها فأشارت إلى المعركة التي تخوضها البلاد ضد الإرهابيين المرتبطين بتنظيم «القاعدة»، وهي حرب وصفها الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، الأسبوع الماضي، بأنها «حرب وجودية».
كما التقى أوباما، الاثنين الماضي، بالكثير من رؤساء الدول، حيث ناقش معهم ما ينبغي فعله حال إخفاق الجولات النهائية من محادثات السلام في جنوب السودان. وأما أول من أمس، فقد تحدث أمام الاتحاد الأفريقي حول الحاجة للتصدي للتهديد الصادر عن الإرهابيين.
ورغم ذلك، سلطت الجولة الأفريقية الضوء على أن مهمة أوباما داخل أفريقيا لم تنجز بعد. وقد أشار أوباما لبعض البرامج البارزة التي نفذتها إدارته، والتي تركت تأثيرًا واضحًا في أفريقيا. ومن بين هذه البرامج «فيد ذي فيوتشر»، وهي مبادرة تجمع بين تمويل فيدرالي وأموال قادمة من دول أخرى والقطاع الخاص، وتعمل على تعزيز إنتاجية صغار المزارعين داخل الدول النامية.
وقد أصدرت الإدارة تقريرًا أول من أمس، أشار إلى أن البرنامج يعود إليه الفضل في انخفاض معدلات التقزم بنسبة 25 في المائة، وهو نمط من سوء التغذية بين الأطفال، داخل إقليمين في كينيا بين عامي 2009 و2014. بجانب انخفاض بنسبة 16 في المائة في معدلات الفقر بالمناطق الريفية عبر أوغندا خلال السنوات الأخيرة.
كما زار أوباما أيضًا، مصنع فافا للأغذية في أديس أبابا، والذي ينتج أطعمة أطفال ودقيقا ومزيج القمح، بجانب منتجات أخرى. وشرح مزارع محلي وأحد العاملين بالمصنع كيف تمكنا من تعزيز الإنتاجية الزراعية ومجمل الإنتاج بمعاونة «فيد ذي فيوتشر».
وفي حديث أمام الصحافيين قال الرئيس: «لقد ثارت تساؤلات من قبل حول مثل هذه المبادرات وما إذا كانت تحقق اختلافًا حقيقيًا. في الواقع، إنها تخلق اختلافًا بصور ملموسة للغاية».
ويذكر أن مبادرة أخرى بعنوان «ذي باور أفريكا»، وهي شراكة بين القطاعين العام والخاص أيضًا وترمي لإضافة 30 ألف ميغاواط من الطاقة لخدمة 60 مليون أسرة وشركة، قد اجتذبت تعهدات من متبرعين ومؤسسات خاصة داخل الولايات المتحدة وخارجها بتقديم 26 مليار دولار.
وشكلت هذه المبادرات جزءًا من خطاب أكد عليه أوباما مرارًا خلال جولته الأفريقية، وهو أن أفريقيا قارة يجري حل مشكلاتها، وتنمو الطبقات الوسطى بها، وتتحرك دولها نحو التحديث.
وبيد أنه رغم جميع هذه النجاحات، فإن بعض الآمال الكبرى لدى الإدارة تجاه أفريقيا تحطمت جراء الحروب والصراعات. في جنوب السودان، حيث تزعمت واشنطن عام 2011 جهود ميلاد أحدث دول العالم، حصدت الحرب الأهلية عشرات الآلاف من الأرواح منذ الانفصال عن الشمال عام 2013. وخلال الأسابيع الأخيرة، أفادت الأمم المتحدة أن أطفالاً تعرضوا لذبح وحشي.
وخلال هذا الأسبوع، أشار أوباما إلى «العقبات المستمرة» أمام السلام هناك، وأعرب مسؤولون بالإدارة عن تشاؤمهم حيال إمكانية انتهاء الصراع هناك قريبًا.
وفي الصومال، ما تزال جماعة إرهابية على صلة بـ«القاعدة» (الشباب)، تشن هجمات وحشية ضد مدنيين والحكومة الناشئة بالبلاد. كما تملك الجماعة القدرة على شن هجمات عبر الحدود داخل كينيا.
وقال أوباما أثناء تواجده في نيروبي، السبت الماضي: «عندما يبدون استعدادهم لاستهداف أهداف حساسة ومدنيين، واستعدادهم للموت، فإنه يصبح بمقدورهم التسبب في الكثير من الدمار». بخلاف الإرهاب، خيمت قضايا أخرى بظلالها على الزيارة - مثل حبس الحكومة الإثيوبية للصحافيين واستهداف قوات الأمن الكينية للمسلمين. وقد أجبرت هذه القضايا، من بين قضايا أخرى، أوباما على تعديل صياغة الإشادة التي وجهها للتقدم الذي تحرزه القارة السمراء.
وقال خلال كلمته أمام الاتحاد الأفريقي أول من أمس: «يجب أن نعترف أن الكثير من المكاسب تقوم على أساس هش». وأضاف الرئيس أن هناك حاجة لبذل مزيد من الجهود لتعزيز الديمقراطية. وأوضح أنه: «عندما يسجن الصحافيون لقيامهم بعملهم أو تهديد النشطاء بينما تشن الحكومات حملة قاسية ضد المجتمع المدني، فأنت حينئذ يصبح لديك نظام ديمقراطي في الاسم فقط، وليس في الجوهر».
وبينما أوضح أوباما ملامح الدور الأميركي في بناء ذلك الأساس، كانت هناك عناصر تذكر الجميع بأن أفريقيا الآن لديها خيارات أخرى وربما لا ترحب دومًا بيد أميركية قوية. من بين هذه العناصر، على سبيل المثال، المبنى الذي كان يتحدث منه أوباما، وهو مقر الاتحاد الأفريقي جرى بناؤه بأموال صينية. ويترأس الاتحاد روبرت موغابي، رئيس زيمبابوي، التي ما تزال تفرض واشنطن عقوبات ضد نظامه لاعتبارها إياه غير ديمقراطي.
في كينيا، أدت إدانة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس كينياتا عام 2012 إلى «فتور هائل» في العلاقات الثنائية، حسبما أوضح السفير الأميركي السابق سكوت غريشن، الذي يتولى حاليًا مؤسسة تجارية تتعاون مع مستثمرين في كينيا. وعندما عمدت واشنطن إلى إقصاء نفسها عن الحكومة الكينية في أعقاب قرار الإدانة، سارعت كينيا بالتطلع نحو الشرق، ووضعت خططا لمشروعات بنية تحتية عبر مختلف أرجاء البلاد بتمويل صيني.
وأضاف غريشن: «إلا أن زيارة الرئيس تعزز فكرة إعادة ترتيب العلاقات. أعتقد أننا تجاوزنا الأزمة التي حدثت جراء قرار المحكمة الجنائية الدولية»، والاتهامات الموجهة إلى كينياتا أسقطت العام الماضي.
ومن ناحية أخرى، وفي جميع اللقاءات العامة تقريبًا حرص الرئيس على شرح ما يمكن للشباب الأفريقي القيام به لدفع بلادهم نحو النهوض. وأحيانًا كان يخص الشباب وحدهم بحديثه، مثلما حدث خلال حديثه إلى طالبة كينية، 16 عامًا، تدعى لينيت مومبوشي.
وشرحت مومبوشي كيف أن صديقة لها تعرضت للختان في عمر 12 عامًا وتزوجت رجلا في ضعف عمرها، ولديها الآن ثلاثة أطفال تعمل على إعالتهم عبر حلب الأبقار كل صباح. أما مومبوشي فتوافرت لديها فرصة الالتحاق بمدرسة داخلية.
وقالت: «الآن أود أن أصبح طبيبة متخصصة في القلب وأن أدرس في هارفارد، لكن قبل الالتحاق بالمدرسة لم أدرِ ماذا سأفعل في حياتي ولم يكن لدي أي أمل». ورد عليها أوباما بالقول: «أنا على ثقة من أنك ستكونين طبيبة قلب ممتازة»، مشيرًا إلى أن حديثها سلط الضوء على السبب وراء تركيزه على ذكر الشباب أصحاب البشرة الملونة في الولايات المتحدة.
وقال: «عندما تتكون لديهم رؤية حيال ما يمكن أن يحدث، يتولد بداخلهم حافز مثلما حدث مع لينيت».
وفي عام 2014، دشن أوباما مبادرة «يونغ أفريكان ليدرز» (القادة الأفارقة الشباب)، التي تضم أكثر من 140 ألف عضو وترتبط رقميًا ببرامج إقليمية أخرى.
في إثيوبيا، حضر أوباما حفل عشاء رسميا بالقصر الوطني، حيث شاهد «لوسي»، وهي عبارة عن هيكل عظمي يعود عمره إلى 3.2 مليون سنة وتنتمي لما يعتبر أقدم سلف من أسلاف الإنسان. ومع ذلك، بدا الرئيس أكثر تركيزًا على تحديث أفريقيا عن ماضيها.
والجدير بالذكر أن أكثر من نصف سكان دول جنوب الصحراء الكبرى تقل أعمارهم عن 25 عامًا، مع تفشي الفقر المدقع وارتفاع أعباء الأمراض، ما يعني أن القادة المستقبليين للقارة تنتظرهم تحديات جسام.
* خدمة: «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»



رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية
TT

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

هل عادت رياح اليسار تهب من جديد على أميركا اللاتينية بعد موجة الانتصارات الأخيرة التي حصدتها القوى والأحزاب التقدمية في الانتخابات العامة والرئاسية؟
من المكسيك إلى الأرجنتين، ومن تشيلي إلى هندوراس والبيرو، ومؤخراً كولومبيا، خمسة من أقوى الاقتصادات في أميركا اللاتينية أصبحت بيد هذه الأحزاب، فيما تتجه كل الأنظار إلى البرازيل حيث ترجح الاستطلاعات الأولى فوز الرئيس الأسبق لولا دي سيلفا في انتخابات الرئاسة المقبلة، وإقفال الدائرة اليسارية في هذه المنطقة التي تتعاقب عليها منذ عقود شتى أنظمة الاستبداد العسكري والمدني، التي شهدت أبشع الديكتاتوريات اليسارية واليمينية.
بعض هذه الدول عاد إلى حكم اليسار، مثل الأرجنتين وهندوراس وبوليفيا، بعد أن جنح إلى الاعتدال، ودول أخرى لم تكن تتصور أنها ستقع يوماً في قبضة القوى التقدمية، مثل تشيلي وكولومبيا، فيما دول مثل المكسيك وبيرو ترفع لواء اليسار لكن اقتصادها يحتكم إلى أرسخ القواعد الليبرالية.
هذه الموجة تعيد إلى الأذهان تلك التي شهدتها المنطقة مطلع هذا القرن مع صعود هوغو تشافيز في فنزويلا، وتحت الظل الأبدي الوارف لفيديل كاسترو، فيما أطلق عليه يومها «اشتراكية القرن الحادي والعشرين». ومن المفارقة أن الدوافع التي كانت وراء ظهور هذه الموجة، نجدها غالباً في تمايزها عن تلك الموجة السابقة التي كان لارتفاع أسعار المواد الأولية والصادرات النفطية الدور الأساسي في صمودها. فيما محرك التغيير اليوم يتغذى من تدهور الوضع الاجتماعي الذي فجر احتجاجات عام 2019 وتفاقم مع ظهور جائحة «كوفيد». يضاف إلى ذلك أن تطرف القوى اليمينية، كما حصل في الأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو، أضفى على الأحزاب اليسارية هالة من الاعتدال ساعدت على استقطاب قوى الوسط وتطمين المراكز الاقتصادية.
ومن أوجه التباين الأخرى بين الموجتين، أنه لم يعد أي من زعماء الموجة الأولى تقريباً على قيد الحياة، وأن القيادات الجديدة تتميز ببراغماتية ساعدت على توسيع دائرة التحالفات الانتخابية نحو قوى الوسط والاعتدال كما حصل مؤخراً في تشيلي وكولومبيا.
حتى لولا في البرازيل بحث عن حليفه الانتخابي في وسط المشهد السياسي واختار كمرشح لمنصب نائب الرئيس جيرالدو آلكمين، أحد زعماء اليمين المعتدل، الذي سبق أن هزمه في انتخابات عام 2006.
ولى زمن زعماء اليسار التاريخيين مثل الأخوين كاسترو في كوبا، وتشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، الذين اعتنقوا أصفى المبادئ الاشتراكية وحاولوا تطويعها مع مقتضيات الظروف المحلية، وجاء عهد قيادات جديدة تحرص على احترام الإطار الدستوري للأنظمة الديمقراطية، وتمتنع عن تجديد الولاية، وتلتزم الدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة.
لكن مع ذلك لا يستقيم الحديث عن كيان واحد مشترك تنضوي تحته كل القوى التقدمية الحاكمة حالياً في أميركا اللاتينية، إذ إن أوجه التباين بين طروحاتها الاقتصادية والاجتماعية تزيد عن القواسم المشتركة بينها، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول طبيعة العلاقات التي ستقيمها هذه القوى التقدمية مع محيطها، وأيضاً مع بقية دول العالم.
وتشير الدلائل الأولى إلى ظهور توتر يتنامى بين رؤية القوى التقدمية الواقعية والمتعددة الأطراف للعلاقات الدولية، والمنظور الجيوستراتيجي للمحور البوليفاري. ومن المرجح أن يشتد في حال فوز لولا في البرازيل، نظراً لتمايز نهجه الدبلوماسي عن خط كوبا وفنزويلا، في الحكم كما في المعارضة.
ويلاحظ أن جميع القوى اليسارية الحاكمة اليوم في أميركا اللاتينية، وخلافاً لتلك التي حكمت خلال الموجة السابقة، تعتمد أسلوباً دفاعياً يهدف إلى صون، أو إحداث، تغييرات معتدلة من موقع السلطة وليس من خلال التعبئة الاجتماعية التي كانت أسلوب الأنظمة اليسارية السابقة، أو البوليفارية التي ما زالت إلى اليوم في الحكم. ولا شك في أن من الأسباب الرئيسية التي تدفع إلى اعتماد هذا الأسلوب الدفاعي، أن القوى اليسارية والتقدمية الحاكمة غير قادرة على ممارسة الهيمنة السياسية والآيديولوجية في بلدانها، وهي تواجه صعوبات كبيرة في تنفيذ برامج تغييرية، أو حتى في الحفاظ على تماسكها الداخلي.
ويتبدى من التحركات والمواقف الأولى التي اتخذتها هذه الحكومات من بعض الأزمات والملفات الإقليمية الشائكة، أن العلاقات مع كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا ستكون مصدراً دائماً للتوتر. ومن الأمثلة على ذلك أن الرئيس الكولومبي الجديد غوستافو بيترو، ونظيره التشيلي، اللذين كانا لأشهر قليلة خلت يؤيدان النظام الفنزويلي، اضطرا مؤخراً لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها نظام نيكولاس مادورو، علماً بأن ملايين الفنزويليين لجأوا في السنوات الأخيرة إلى كولومبيا وتشيلي.
وفي انتظار نتائج الانتخابات البرازيلية المقبلة، وبعد تراجع أسهم المكسيكي مانويل لوبيز لوبرادور والتشيلي بوريتش لقيادة الجبهة التقدمية الجديدة في أميركا اللاتينية، برزت مؤخراً صورة الرئيس الكولومبي المنتخب الذي يتولى مهامه الأحد المقبل، والذي كان وضع برنامجه الانتخابي حول محاور رئيسية ثلاثة تمهد لهذا الدور، وهي: الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية وتغير المناخ، والدور المركزي لمنطقة الكاريبي والسكان المتحدرين من أصول أفريقية، والميثاق الإقليمي الجديد الذي لا يقوم على التسليم بريادة الولايات المتحدة في المنطقة لكن يعترف بدورها الأساسي فيها.