فلسطين في شتات الرواية العربية

لا تمثل نسبة تذكر قياساً إلى الكم الروائي العربي الضخم

فلسطين في شتات الرواية العربية
TT

فلسطين في شتات الرواية العربية

فلسطين في شتات الرواية العربية

ليس من السهل العثور على فلسطين في الرواية التي لم يكتبها فلسطينيون، على النقيض مما هو حاصل في الشعر، حيث تتزاحم القصائد العربية حول فلسطين. والظاهرة لافتة فعلاً وتستدعي التساؤل عن الأسباب. إحدى الإجابات المتكررة هي أن الرواية، على عكس الشعر، فن أدبي اجتماعي حتى حين يتناول التاريخ أو السياسة. ففي مجمل الحالات تعنى الرواية بالمجتمع الذي أنتجت فيه وليس بمجتمعات أخرى أو بقضايا خارج إطار الحياة القريبة المحيطة بالكاتب. من هنا يتكثف حضور مصر في الرواية المصرية، والسعودية في الرواية السعودية، والجزائر في روايات الجزائريين وهكذا. الحالات التي تخالف هذه القاعدة تعد استثناءات.
غير أن السؤال يظل ملحاً: ليست فلسطين بلاداً كالبلاد العربية أو حتى غير العربية، هي بلاد محتلة من قبل عدو للعرب جميعاً كما للإنسانية كلها. إن فلسطين قضية بقدر ما هي بلاد. لذلك يفترض أن تحضر فلسطين في الخطاب الروائي العربي، وبصورة أكثر كثافة مما هو متحقق من تلك الزاوية على الأقل. وقد حضرت بالفعل لكن ليس بالحجم المتوقع. الروايات التي يمكن القول إنها تتصل بفلسطين لا تمثل نسبة تذكر قياساً إلى الكم الروائي الضخم في أرجاء الوطن العربي. ومع أن من شبه المؤكد أن تلك الروايات القليلة ليست كل ما هنالك، لكن صعوبة العثور على غيرها دال بحد ذاته على تواري الانشغال الروائي بفلسطين. في عام 2009 طرحت صحيفة «الخليج» الإماراتية سؤالاً على عدد من الكتاب العرب حول حضور فلسطين في الرواية العربية، وذكر الكتاب عدداً من الروايات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. أحدهم فسر ذلك الوضع بالإشارة إلى هامش الحرية الضيق في البلاد العربية، وهو تفسير غير مقنع تماماً، لأن الرواية العربية تناولت قضايا البلاد التي نشرت فيها دون أن يمنعها الرقيب بالضرورة. ما أجمع عليه المشاركون هو بالفعل ضعف حضور فلسطين في الرواية العربية غير الفلسطينية مقارنة بحضورها في الرواية الفلسطينية.
من بين تلك الاستثناءات، نجد روايتين عربيتين تحضر فيهما فلسطين بصورة لافتة، وإن كانت جزئية، وأراهما من هذه الزاوية جديرتين بالنقاش لإيضاح نسبة الحضور الفلسطيني فيما سميته «شتات الرواية العربية».
الرواية الأولى هي «أمريكانلي» (أمري كان لي) (2004) للكاتب المصري صنع الله إبراهيم، يروي حكايتها أستاذ تاريخ مصري يذهب إلى أميركا بدعوة من مركز دراسات جامعية لتدريس التاريخ المصري. أما رواية أميمة الخميس فترسم مشاهد من الحياة الاجتماعية في مدينة الرياض في فترة الستينات. وفي كلتا الروايتين، تحضر فلسطين بوصفها قضية قومية، وفي صورة شخصيات تمثل شريحة من الفلسطينيين العاملين في البلاد العربية.
في رواية صنع الله إبراهيم، نلتقي الباحث المصري شكري أثناء فترة إقامته في مدينة سان فرانسسكو، حيث يلتقي عدداً من العرب المهاجرين، من بينهم أستاذ أدب فلسطيني متزوج من محامية أميركية لكنه متحمس للقضايا العربية ومؤمن بنظرية المؤامرة في كل الأحداث إلى ما تفعله الموساد والصهيونية، وكان في مقدمة الأحداث في تلك الفترة فضيحة الرئيس الأميركي كلينتون مع سكرتيرته مونيكا. يرى مروان الفلسطيني أن الموساد ضالع في تلك الحكاية لكي تحول دون طرح كلينتون لخطة سلام بين العرب وإسرائيل. في مقابل ذلك يرى الأستاذ المصري ماهر، وهو رئيس القسم الذي يعمل فيه شكري في مركز الأبحاث، أن مشكلة العرب هي التعلق بنظرية المؤامرة. التقابل بين الرأيين يشير إلى اندماج ماهر في المجتمع الأميركي، فولداه لا يتحدثان العربية، وكذلك إلى التزام الفلسطيني بالقضية العربية مع نقده المتواصل لأميركا.
إشارة أخرى تأتي حين يرى شكري زميله المصري ماهر مع يهودي متخصص في الدراسات التوراتية. يقول ماهر عنه: «هذا هو اليهودي الوحيد هنا المعادي للصهيونية». ويتضح أن عداء ذلك اليهودي للصهيونية ومناداته بأن «على اليهود أن يبقوا في بلادهم الأصلية» لم يحل دون تمسك زوجته الإسرائيلية بحق إسرائيل في الوجود. قضية فلسطين حاضرة ضمناً بطبيعة الحال في ذلك الحوار، لكنها تعود بصورة مباشرة وفي سياق مشابه حين يتحدث شكري إلى طالب أميركي أراد أن يشرع في رسالة دكتوراه حول الجيل الجديد من المؤرخين في إسرائيل، ويأتي ليستشير شكري ويطلب مساعدته لإنقاذ مستقبله، لأن الجامعة رفضت موضوع الرسالة المثير للجدل. فهو يريد أن يكشف زيف الادعاءات الصهيونية حول تاريخ إسرائيل مستشهداً بما ذكره أحد أولئك المؤرخين وهو بني مورِس حين قال: «... لقد كذب زعماؤنا علينا عندما أخبرونا أن عرب (اللد) و(الرملة) طلبوا مغادرة بيوتهم بمحض إرادتهم...» إلى أن يصل إلى القول: «... أما كذبة الأكاذيب التي أسموها (الاستقلال) فهي في (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)» 2.
من هذا يتضح أن الحضور الفلسطيني في رواية صنع الله إبراهيم هو حضور الشتات من ناحية، وسعي الكاتب من ناحية أخرى إلى التأريخ للمواقف الغربية الأميركية بصفة خاصة تجاه فلسطين وإسرائيل التي تحضر من حيث هي الكيان المسؤول عن الشتات وعن النكبة. التأريخ هو ما يمارسه كاتب عربي يتبنى بصورة واضحة، وإن كانت ضمنية، موقفاً داعماً للقضية الفلسطينية ومناهضاً لأعدائها. ولا شك أن كون الرواية تأريخية وتوثيقية أعان على التعبير عن تلك المواقف بأسلوب يصعب اتباعه في أساليب السرد التي تعتمد المخيلة وإن كانت واقعية. يصدق ذلك، إلى حد ما، على الرواية الأخرى، رواية «البحريات» (2006) للكاتبة السعودية أميمة الخميس.
ترصد «البحريات» مرحلة من النمو الاجتماعي والاقتصادي في مدينة الرياض في فترة كانت مفصلية من عدة نواح، من أبرزها تطور في التعليم تمثل في السماح بافتتاح مدارس للبنات التي كان تعليمها مخاضاً صعباً في مجتمع محافظ وتحكمه في تلك الآونة مؤسسة دينية متشددة ظلت تمانع في ذهاب الفتيات إلى المدارس فترة طويلة. في الرواية تقف بنا الكاتبة على بعض تفاصيل ذلك التحول، ومنه التعاقد مع معلمات عربيات كن من فئة النساء الموصوفات بالبحريات، أو اللاتي جئن من البحر أو ما وراء البحار، وهو تصور صحراوي بامتياز نُظر من خلاله إلى الكثير من القادمين إلى منطقة نجد وسط الجزيرة العربية.
إحدى المعلمات المتعاقد معهن فلسطينية تأتي من بيروت حيث تعيش شتاتها الأول. تأتي لتعيش شتاتاً ثانياً بحثاً عن لقمة العيش الكريمة. دافعها المباشر للمجيء كان فشل العلاقة التي أقامتها مع شاب فلسطيني آثر الهجرة إلى أميركا بعد أن غدر بها وسلب عذريتها. سمعت عن التعاقد في السعودية، فتقدمت بعد أن «أعدت أوراقها، كتبتها بخطها الجميل الأنيق، وحرصت على الفواصل والنقاط... كانت تخشى الشتات والغموض، والتبعثر، وهي الفلسطينية التي تفتقد الهوية والوطن في بيروت».
في الرياض تتصل رحاب بأسرة سعودية تطلبها معلمة لبناتها، فتقوم بذلك العمل ليدر عليها دخلاً إضافياً إلى جانب ما تحصل عليه من وظيفتها في التعليم. ومما يزيد من حاجة رحاب للعمل أن والدها جاء معها. ذلك الأب كان عبئاً آخر: «أبوها حقيبة مجهدة تنقلها هنا وهناك، يصر على ممارسة دلاله القديم حين يعود من الخارج يجب أن تأخذ دور أمها ولا بد أن يمد رجليه فتنزع له جواربه وتناوله منامته، وترصف أطباق العشاء أمامه...»، إلى آخر ذلك من أدوار كانت تقوم بها أمها في لبنان. ولم تكن الرياض أكثر رحابة لرحاب فهي إلى جانب القيود وبعض التعامل السيئ، وجدت فتيات يعانين هن أيضاً من مشكلات تخصهن. «الصبايا هناك يخضن أجندة معارك من نوع مختلف». في المدرسة السعودية وجدت رحاب أيضاً مديرة مدرسة عراقية تعاملها بتعالٍ، ومعلمات أغلبهن فلسطينيات مقيمات في الأردن والضفة أو سوريات «يرين في فتيات بيروت أو اللواتي نشأن في بيروت بعض الميوعة والتفاهة...».
ولم تغب قضية فلسطين بطبيعة الحال. ففي بيروت اعتاد والد رحاب أن يعود ليتناول عشاءه، ثم يستمع إلى أخبار المذياع «عن القضية الفلسطينية، ثم لا يلبث أن يتمتم ببعض الكلمات الممتعضة: روحوا تصالحوا مع اليهود أحسن لكم... فلسطين مش راجعة». في الرياض يطفو بعض الأمل وإن كان منهكاً. يظل الأب «طوال الوقت منكفئاً على جرحه الفلسطيني القديم؛ رأسه منهدل على صدره،
وكان متأكداً أن (عبد الناصر) سوف يرجع فلسطين للعرب ويقذف اليهود في البحر». ترصد الرواية الإحباطات والآمال عند جيل دخل مرحلة الشيخوخة، لكن التركيز يظل على الجيل الأصغر. جيل رحاب ليس مشغولاً كثيراً بالقضية. هي مهمومة الآن بلقمة العيش أكثر مما هي بعودة فلسطين. ومع لقمة العيش كانت تشعر أيضاً بأزمة الهوية التي تتفاقم لديها وهي تكتسب شعبية بين التلميذات السعوديات اللاتي بدأن يثقن بها فيسررن إليها بمشكلاتهن الخاصة فترد عليهن بأسلوب ملؤه التفهم والمحبة. كانت تساعدهن على معرفة أنفسهن والعالم من حولهن، وهنا تأتي المفارقة التي تتمثل في لحظة استنارة آسرة ومؤلمة في الوقت نفسه: «وتعلم (رحاب) أن الهوية قوة وتميز واسترداد للملامح وسط الحشود، هي فاقدة الهوية، لاجئة فلسطينية بوثيقة لاجئة دون أوراق رسمية... توزع هويات على طالباتها كل صباح، ترسم فوق تلك الوجوه التي أذابها أسيد الإهمال والجزر والنهي وأربع طبقات من غطاء الوجه، تعيد رسمها بدقة وعناية...».
هذا التعاطف الحميم مع رحاب الفلسطينية في معاناتها المتراكمة، هو مما يختلف به تناول أميمة الخميس عن تناول صنع الله إبراهيم. في رواية إبراهيم انشغال أكبر بالجانب السياسي للقضية بما يتضمنه ذلك من مواقف دولية وآراء مختلفة حول القضية.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«سوق ديانا» في القاهرة تبيع أنتيكات برائحة «الزمن الجميل»

التحف والمقتنيات القديمة أبرز معروضات السوق (الشرق الأوسط)
التحف والمقتنيات القديمة أبرز معروضات السوق (الشرق الأوسط)
TT

«سوق ديانا» في القاهرة تبيع أنتيكات برائحة «الزمن الجميل»

التحف والمقتنيات القديمة أبرز معروضات السوق (الشرق الأوسط)
التحف والمقتنيات القديمة أبرز معروضات السوق (الشرق الأوسط)

التحقت سارة إبراهيم، 35 عاماً، بزحام سوق «ديانا» بوسط القاهرة، في إرضاء لشغفها بـ«اقتناء» السّلع والتّحف والعملات القديمة التي تتخصص هذه السوق في القاهرة بعرضها، وتُعرف كذلك بـ«سوق السبت» نسبةً لليوم الأسبوعي الوحيد الذي يستقبل جمهوره فيه.

يُطلق على هذه السوق اسم «ديانا» نسبةً إلى سينما «ديانا بالاس» العريقة التي تقع في محيط الشوارع المؤدية إليها.

تقول سارة إنها تعرّفت على السوق منذ نحو عامين، رغم أنها كانت تسمع عنها منذ سنوات: «بدأ الأمر صدفة، خلال جولة لي مع صديقة، فانبهرنا بكمية المعروضات التي لم نجدها سوى في هذه السوق، وصرت أولاً أقصدها للتنزّه بها من وقت لآخر. وقد اشتريت منها اليوم صوراً قديمة من أرشيف فيلم (معبودة الجماهير)، وصدف بحر عملاقاً لم أرَ مثله من قبل، وكذلك علبة معدنية قديمة مرسوم عليها (روميو وجولييت) كالتي كانت تستخدمها الجدات قديماً لحفظ أغراض الخياطة، وجميعها بأسعار معقولة، وتحمل معها زمناً قديماً لم نعشه»، كما تقول في حديثها مع «الشرق الأوسط».

الأسطوانات القديمة إحدى السلع التي يبحث عنها زوار السوق (الشرق الأوسط)

رغم حرارة الطقس، كان زوار السوق ومرتادوها يتدفقون ويتحلقون حول المعروضات التي يفترشها الباعة على الأرض بكميات كبيرة، ويبدو تأمل تلك المعروضات في حد ذاته ضرباً من المتعة، يمكن أن ينطبق عليه المثل الشعبي المصري المعروف: «سمك لبن تمر هندي» بما يدّل على التنوّع المدهش في نوعية السلع، بداية من الساعات القديمة، إلى أطباق الطعام التي تحمل طابعاً تاريخياً، فيحمل بعضها توقيع «صنع في ألمانيا الغربية»، الذي يعود إلى ما قبل إعادة توحيد ألمانيا، ويمكن مشاهدة زجاجة مياه غازية فارغة تعود للفترة الملكية في مصر، يشير إليها أحمد محمود، بائع المقتنيات القديمة بالسوق.

عملات وتذكارات معدنية (الشرق الأوسط)

يقول محمود: «يمكن على تلك الزجاجة رؤية شعار علم مصر القديم (الهلال والنجمات الـ3 ولونها الأخضر)، وتحمل اسم (كايروأب) التي كانت إحدى شركات المياه الغازية في مصر في عهد الملك فؤاد، وما زال هناك زبائن إلى اليوم يهتمون كثيراً باقتناء مثل تلك التذكارات التي تحمل معها جزءاً من تاريخ الصناعة في هذا الوقت، علاوة على شكلها وتصميمها الجمالي الذي يعكس تطوّر التصميم»، كما يشير في حديثه مع «الشرق الأوسط»، ويضيف: «جمهور هذه السوق هو الباحث عن اقتناء الذكريات، عبر تذكارات تحمل معها جزءاً من تاريخهم الشخصي أو الذي لم يعيشوه، فمثلاً يُقبل الجمهور هنا على شراء ملصقات سينما قديمة، أو حتى صابونة مُغلّفة تعود للخمسينات تُذكرهم بمصانع الفترة الناصرية، ويشترون كروت الشحن القديمة التي كانت تُستخدم في كابينات التليفون بالشوارع قبل انتشار الهاتف المحمول، وهي ذكريات يعرفها جيل الثمانينات والتسعينات بشكل خاص ويستعيدونها مع معروضات السوق».

معروضات نوستالجية تجذب الجمهور (الشرق الأوسط)

تظهر صور الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في وسط المعروضات، كما تظهر بورتريهات لعبد الحليم حافظ، وملصقات لنجوم كرة القدم في السبعينات، تُجاور شرائط كاسيت قديمة يشير البائع لإحدى الزبونات إلى أن سعر أي شريط كاسيت لمحمد عبد الوهاب 25 جنيهاً، فيما تُعرض أسطوانات التسجيلات القديمة بكميات كبيرة يبدأ سعرها من 50 جنيهاً، وكذلك الكاميرات التي تتراوح في تاريخها، وتبدأ من 200 جنيه وحتى 2000 جنيه (الدولار يعادل 48.6 جنيه)، ويعرض أحمد مهاب كثيراً من أجهزة التليفون القديمة التي تلفت أنظار الزوار.

يشير مهاب لأحد تلك الأجهزة التقليدية ذات القرص الدوّار ويقول عنه: «سعر هذا التليفون ألف جنيه مصري؛ وذلك لأنه يعود لفترة الخمسينات ولأن لونه الأحمر نادر، في حين أبيع الجهاز نفسه باللون الأسود بـ500 جنيه لأنه أكثر انتشاراً، فيما تقلّ أسعار تلك الهواتف الأرضية كلما كانت أحدث، فالتليفون ذو القرص الدوار الذي يعود لفترة التسعينات يُعرض للبيع بـ300 جنيه، وعلى الرغم من سطوة أجهزة الجوّالات المحمولة فلا يزال هناك جمهور يبحث عن تلك الأجهزة، إما لرخص سعرها نسبياً عن أجهزة التليفون الأرضي الحديثة، أو رغبة في اقتنائها بوصفها قطع أنتيكات للديكور»، حسبما يقول لـ«الشرق الأوسط».

هواتف قديمة ونادرة تلفت أنظار الزوار (الشرق الأوسط)

أما باعة العملات والأوراق النقدية القديمة، فيبدو جمهورهم في ازدياد على مدار ساعات السوق؛ حيث يحتفظون بالعملات المعدنية التي تتراوح بين الفضية والنحاسية في أكوام ضخمة، سواء عملات مصرية أو عربية يختلف سعرها حسب تاريخها الزمني، ينادي البائع لطفي عبد الله على الزبائن: «الواحدة بـ10 جنيه» في إشارة منه لعملة «النصف جنيه» المصري وعملة «الربع جنيه» التي أصبحت جزءاً من التاريخ بعد انهيار قيمتها الشرائية، فيما يشير إلى عملات أخرى أجنبية يحتفظ بها داخل «كاتالوغ» مُغلّف، تظهر على عملة كبيرة الحجم صورة ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث تعود لفترة السبعينات، وعملة أخرى منقوش عليها شعار بطولة الألعاب الأولمبية في مونتريال 1976 التي يعرضها للبيع بـ2600 جنيه مصري، ويقول عنها: «تلك عملة من الفضة الخالصة وثقيلة الوزن، ولها قيمتها التاريخية التي يبحث عنها كثيرون من المقتنين، فجمهور العملات النادرة هم أقدم جمهور لهذه السوق، التي كانت في بداياتها تعتمد على بيع العملات وشرائها، ثم بدأ في التوسع التدريجي ليشمل مختلف المعروضات النادرة والمقتنيات القديمة»، كما يقول لـ«الشرق الأوسط».

شرائط كاسيت قديمة لكوكبة من نجوم الغناء (الشرق الأوسط)

ويبدو أن جمهور سوق «ديانا» لا يقتصر فقط على المصريين، فهو بات جزءاً من الجولات السياحية للكثير من السائحين من جنسيات مختلفة، منهم لي شواي، سائحة صينية، تتحدث مع «الشرق الأوسط» وتقول: «أزور مصر في رحلة عمل، وهذه أول مرة لي في هذه السوق، وما لفتي كثيراً أن هناك معروضات وتحفاً عليها نقوش ورسوم صينية شعبية، لم أكن أعرف أنهم في مصر مهتمون بالفنون والخطوط الصينية القديمة التي تظهر على اللوحات وأطباق التزيين هنا».

السوق تشهد حراكاً واهتماماً من الزوار (الشرق الأوسط)

ويُبدي عبد الله سعداوي، بائع في سوق ديانا، انتباهه لما يصفه بـ«الجمهور الجديد للسوق»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «زاد الجمهور بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، وجزء كبير من هذا الأمر يعود لانخفاض الأسعار من جهة والميل لشراء السلع المستعملة كبديل للسلع الجديدة مرتفعة الثمن، بما فيها السلع الاستعمالية كالحقائب والنظارات وأطقم المائدة، وكذلك بسبب كثافة الفيديوهات التي صار يصوّرها المؤثرون عبر منصات التواصل الاجتماعي عن السوق وتجربة الشراء فيها، وهو ما جعل جمهوراً أكبر من الشباب يأتي بفضول لاستكشافها».