كيف ينتقل العالم من الشفافية إلى السرية؟... أميركا نموذجاً

تظهر هذه الصورة الواردة في ملف للمحكمة من قبل وزارة العدل الأميركية في 30 أغسطس 2022 وثائق ضبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي في 8 أغسطس لدى الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)
تظهر هذه الصورة الواردة في ملف للمحكمة من قبل وزارة العدل الأميركية في 30 أغسطس 2022 وثائق ضبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي في 8 أغسطس لدى الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)
TT

كيف ينتقل العالم من الشفافية إلى السرية؟... أميركا نموذجاً

تظهر هذه الصورة الواردة في ملف للمحكمة من قبل وزارة العدل الأميركية في 30 أغسطس 2022 وثائق ضبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي في 8 أغسطس لدى الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)
تظهر هذه الصورة الواردة في ملف للمحكمة من قبل وزارة العدل الأميركية في 30 أغسطس 2022 وثائق ضبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي في 8 أغسطس لدى الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)

قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الشفافية تقليداً تفخر به الولايات المتحدة. في جميع الظروف باستثناء أخطرها، كانت السرية والتجسس أمرين غير مقبولَين في الولايات المتحدة. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، ابتعدت الولايات المتحدة جذرياً عن هذا التقليد، مما سمح لوكالات الاستخبارات والمختبرات السرية بالنمو في الولايات المتحدة دون رادع. يصر المسؤولون الأميركيون على أن السرية فقط هي التي يمكن أن تحافظ على سلامة البلاد، لكن التكاليف الحقيقية لم يتم الاعتراف بها لفترة طويلة.
تقدم وكالة المخابرات المركزية الأميركية محرك بحث إلكترونياً يتيح للمهتمين استخراج 11 مليون وثيقة، تم رفع السرية عنها على مر السنين. لكن هذا لا يمثل سوى جزء من المواد التي رفعت عنها السرية من وكالة المخابرات المركزية، وإذا كنت تريد الوصول غير المقيد إلى محرك البحث، فسيتعين عليك زيارة الأرشيف الوطني بنفسك في كوليدج بارك بولاية ماريلاند.
لكن رغم السرية، هناك بعض التسريبات التي تحدث بين الحين والآخر، والتي قد يتورط بها أحياناً مسؤولون كبار في الإدارة الأميركية. وليس سراً أن السرية الحكومية قد بدأت تتلاشى. ظهرت مؤخراً وثائق سرية في منازل الرئيس بايدن ونائبه السابق مايك بنس، وقبل ذلك تم اكتشاف سجلات بالغة السرية في منزل الرئيس السابق دونالد ترمب الذي، على ما يبدو، أخفى عن عمد السجلات في منزله في فلوريدا، وأبعدها بشكل غير قانوني عن المحفوظات الوطنية.
لكن المشكلة أسوأ من هذه المخالفات الفردية. يقول الكاتب والباحث الأميركي ماثيو كونيلي في كتابه «محرك رفع السرية: ما يكشفه التاريخ عن أهم أسرار أميركا» (بانثيون، فبراير «شباط» 2023)، إن حكومة الولايات المتحدة نفسها مذنبة منذ فترة طويلة بالسلوك نفسه على نطاق محير للعقل، حيث سلبت الشعب الأميركي الحق في معرفة ما تفعله الحكومة الأميركية باسمهم في الماضي غير البعيد.
كيف أجرى الرؤساء الأميركيون السابقون تحالفات مع حكام استبداديين بعكس ما تدعو إليه القيم الأميركية التي تأسست عليها الولايات المتحدة؟ كيف اتخذوا من اغتيال أعداء أميركا أسلوباً من أساليب السياسة الخارجية؟ لماذا خسر «البنتاغون» حربه التي استمرت 20 عاماً في أفغانستان؟ ماذا كان وراء علاقة ترمب الودية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟ وماذا قال بعضهم لبعض وراء الأبواب المغلقة؟ ربما يكتشف أحفادنا ذلك، وربما لا يكتشفون أي شيء من هذه المعلومات التي تم تصنيفها على أنها سرية.
كونيلي، وهو أستاذ التاريخ بجامعة كولومبيا، يتتبع أصول نظام الابتعاد عن الشفافية واعتماد السرية بشكل واسع إلى مشروع مانهاتن، وهو مشروع بحث وتطوير جرى العمل عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية لإنتاج الأسلحة الذرية لأول مرة. ولدت القنبلة الذرية سراً، وساعد الجنرال ليزلي جروفز جونيور، الذي أشرف على برنامج بنائها، في إنشاء نظام التصنيف السري الحالي لإبقائها على هذا النحو. هذا لم يمنع جواسيس السوفيات من سرقة تفاصيل مهمة حول القنبلة قبل أن تستخدمها أميركا في عام 1945. لقد منع هذا التصنيف السري حتى رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان من معرفة حجم الترسانة الذرية في بلاده حتى عام أو عامين في رئاسته. ثم، في عام 1947، جاء إنشاء وكالة المخابرات المركزية ودولة الأمن القومي الحديثة. نمت آلية التصنيف ومخزون الأسرار بشكل كبير منذ ذلك الحين. والآن يمنع المسؤولون العسكريون والاستخباراتيون في الولايات المتحدة الشعب الأميركي من معرفة تفاصيل مهمة من تاريخهم الحديث.
بموجب القانون، يتوجب على وزارة الخارجية الأميركية إصدار تقرير كامل ودقيق للسياسة الخارجية الأميركية. هذه السجلات، واسمها «العلاقات الخارجية للولايات المتحدة»، التي نُشرت منذ عام 1861. تلقي الضوء على ما يعتقده القادة الأميركيون وفعلوه حقاً عندما أظهروا قوة الولايات المتحدة حول العالم. ولكن رغم مرور عشرات السنين، لا تزال وكالة المخابرات المركزية الأميركية و«البنتاغون» يحافظان على سرية كبيرة لسلسلة «العلاقات الخارجية للولايات المتحدة»، التي يتم إصدار مجلد واحد منها في السنة. بعض السجلات التي يعود تاريخها إلى عام 1956 لم ترَ النور. لم تبدأ سجلات إدارة ريغان في الظهور إلا مؤخراً. وبالمعدل الذي تسير فيه الأمور، فإن إصدار سجلات السياسة الخارجية الأميركية في القرن العشرين لن يكتمل حتى القرن الثاني والعشرين.
حدد كونيلي أزمة وجودية تتمثل في إخفاء وقمع التاريخ الأميركي. قبل عشر سنوات، سعى كونيلي إلى معالجة هذه الأزمة. أراد هو وزملاؤه من المؤرخين وعلماء الرياضيات وعلماء الكومبيوتر في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك إنشاء أكبر أرشيف في العالم لسجلات الحكومة التي رفعت عنها السرية، وأطلق على المشروع اسم «محرك رفع السرية»، ويسعى إلى توفير قاعدة بيانات واحدة على الإنترنت للوثائق التي تم رفع السرية عنها من جميع أنحاء الحكومة الفيدرالية، بما في ذلك وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية، وأي وكالة أخرى. كان هدفهم كسر مشكلة رفع السرية و«الكشف عما لا تريدنا الحكومة أن نعرفه، ولماذا لا يريدون منا ألا نعرفه». لكن النتائج المنشورة عبارة عن حفنة من الإبر في جبل من القش، وقد يستغرق الأمر سنوات عديدة حتى يبدأ محرك كونيلي في تحقيق تطلعاته. مع ذلك، يمكن القول إنها بداية جيدة. ويقر كونيلي بهذه الحقيقة قائلاً: «لن نجد كل الإجابات، بالطبع، لكن يمكننا الاقتراب بشكل ملموس من الحقيقة».
وهذا يجعل المراسلين والنشطاء القوة المضادة الوحيدة المتسقة ضد مبدأ السرية في الحكومة. على مر السنين، كشفت صحيفتا «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» النقاب عن المراقبة غير القانونية للأميركيين المعارضين في عهد الرئيسين جونسون ونيكسون، وكشفتا تفاصيل مبيعات إدارة ريغان للأسلحة لإيران، والتجسس المحلي داخل الولايات المتحدة الذي تقوم به وكالة الأمن القومي، وكشفتا عن قيام وكالة المخابرات المركزية بتعذيب سجناء في المواقع السوداء، ووثقتا الأكاذيب والفساد الذي تغلغل في إخفاقات «البنتاغون» في أفغانستان.
عام 1971، حصلت صحيفة «نيويورك تايمز» على «أوراق البنتاغون»، التاريخ السري للحرب في فيتنام، من المحلل العسكري المتمرد دانيال إلسبيرغ، الذي سعت وزارة العدل الأميركية إلى سجنه بتهمة التجسس. أظهرت الصحف بوضوح أن الحكومة كانت تكذب على الشعب الأميركي بشأن الحرب لسنوات. عندما رفعت إدارة نيكسون دعوى قضائية ضد صحيفة «نيويورك تايمز» لوقف النشر، قدم محررها في واشنطن، ماكس فرانكل، الذي لم يكن راديكالياً، إفادة خطية إلى المحكمة، جاء فيها أن الحكومة أساءت استخدام سلطتها بشكل روتيني «من خلال فرض السرية دون وجود ما يبرر ذلك أو من خلال الاحتفاظ بها لفترة طويلة بعد أن أصبح التبرير باطلاً... لإخفاء أخطاء الحكم، وحماية سمعة الأفراد، والتستر على خسارة الأموال وهدرها، يتم الاحتفاظ بكل شيء تقريباً في الحكومة سراً لبعض الوقت. وفي مجال السياسة الخارجية، يتم تصنيفها على أنها (سرية) و(حساسة) دون أي مبرر قانوني أو سبب. يمكن لكل مسؤول صغير أن يشهد على هذه الحقيقة».
يوضح كتاب «محرك رفع السرية» أن ثقافة السرية تقوض الديمقراطية التي ترفع الولايات المتحدة رايتها في جميع المحافل، وقد أصبحت السرية الآن ثقافة تدمير أيضاً. يقول كونيلي إن الرئيس ترمب كانت لديه عادة تمزيق الأوراق الرئاسية. تفكر وزارة الخارجية الآن في فعل الشيء نفسه، وعلى نطاق واسع من خلال إطلاق العنان لخوارزميات هندسية تعمل على حذف وثائق السياسة الخارجية تلقائياً. يقول كونيلي إنه إذا حدث هذا، «فسيتم تدمير الغالبية العظمى من السجلات التاريخية المهمة تلقائياً، وسيتلف الكثير مما تبقى. إنها، بالمعنى الحرفي للكلمة، نهاية التاريخ كما نعرفه».

* باحث ومترجم سوري



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.