بيدرو مارتينيز مونتابيث... غيّر الصورة النمطية عن العرب في الغرب

رحيل «المستعرب» الإسباني عاشق اللغة العربية

بيدرو مارتينيز مونتابيث
بيدرو مارتينيز مونتابيث
TT

بيدرو مارتينيز مونتابيث... غيّر الصورة النمطية عن العرب في الغرب

بيدرو مارتينيز مونتابيث
بيدرو مارتينيز مونتابيث

ودّع المستعرب الإسباني بيدرو مارتينيز مونتابيث، عاشق اللغة العربية، الذي شغف بالعرب ولغتهم وتاريخهم منذ صباه، في صبيحة يوم 14 فبراير الحالي، عالمنا عن عمر 89 عاماً.
اختفى ذلك الصوت الذي كان يدافع بحماس عن إبراز «أهمية الأندلس ورمزه» بوصفه كياناً فريداً من نوعه في الفضاء العربي والإسلامي، كما يقول، واكتشف آفاقاً أخرى كانت خافية على العرب أنفسهم: فردوس الأندلس.
حفر بعيداً في دراساته الاستشراقية، من دون أن يقع في القوالب النمطية السائدة، بل على العكس من ذلك قدَّم نموذجاً لفهم العالم العربي والإسلامي، وأزال الغشاوة عن عيون الغرب في رؤية تراثنا من خلال اكتشافه الثروة الهائلة الكامنة في الحب لكل ما هو أسباني وعربي مشترك، وكان يفضّل الحديث باللغة العربية التي تعلّمها في تطوان والقاهرة وبغداد؛ لأنه «عشق سحر كلماتها ونكهة حروفها». ترك المستعرب الراحل وراءه إرثاً كبيراً ليس من الكتب والمراجع، بل من البصمة الإنسانية التي غلفت حروفه، وجِدّيته في فهم العرب ومعارفهم.
ولكل هذا، كان لرحيله صدى كبير، وخصوصاً في الأوساط الجامعية التي احتفت ببحوثه وأعماله، فقد جاء النعي الأول من جامعة مدريد المستقلّة التي عمل فيها لسنوات، وكذلك من جامعة جيان الإسبانية التي قلّدته الدكتوراه الفخرية في 2003، بناء على اقتراح من قسم اللغات والثقافات المتوسطية؛ تقديراً لعمله الأكاديمي.
تتراوح جهوده بين ترجمة الشعر العربي ودراسته والتعريف به على نطاق البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، والتعمّق في دراسة علاقة العرب بالبحر الأبيض المتوسط، ومعاني الأندلس ورموزها، وشعر المقاومة الفلسطينية، كما عرَّف بكبار الكُتّاب والشعراء العرب، ونقل آثارهم إلى اللغة الإسبانية؛ من أمثال نجيب محفوظ، ونزار قباني، ومحمود درويش، وفدوى طوقان، وسعدي يوسف، وصلاح عبد الصبور، وجبران، والسيّاب، والبياتي، وأدونيس، وغيرهم، وشارك في عدد من اللجان العلمية والثقافية العربية وجمعية الصداقة العربية الإسبانية، وحلقات الحوار بين الثقافتين. وبإيجاز، قدَّم خريطة الأدب العربي في اللغة الإسبانية.
في مقابل ذلك انهالت عليه التكريمات والجوائز الأدبية من الجامعات والأكاديميات من أنحاء العالم، نذكر منها جامعة المعتمد بن عباد في أصيلة، وجامعة جيان، وجامعة مدريد المستقلة، ومن الجوائز: جائزة القدس، وجائزة الشيخ زايد شخصية العام الثقافية، والميدالية الذهبية للأندلس، وغيرها الكثير.
التقيتُ المستعربَ الإسباني الراحل مونتابيث مرتين؛ أولاهما في أصيلة في 1985 أو 1986 ضمن مهرجانها، وفي أبوظبي في 2009 أثناء منحه جائزة الشيخ زايد لشخصية العام.
في اللقاء الأول رافقته إلى زيارة طنجة، التي اعتبرها المنفى الذهبي لعدد من الكتّاب والفنانين، إذ تحدَّثنا عن بول باولز وزوجته جين، وهنري ماتيس، ويوجين ديلاكروا، وبوريس جيسان، ورولان بارت، وجان جينيه، وتينسي وليامز، ومحمد شكري، ومحمد مرابط، الذين تركوا بصماتهم على هذه المدينة وتاريخها. جلسنا في فندق «المنزة» المطل على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وتذكّر بحنين الماضي العربي الغابر في قرطبة وغرناطة وأشبيليه... أيْ روح الأندلس، إذ ظلت عبارته عالقة في ذهني: «إنني أفضِّل أندلس الحوار على أندلس الحنين»ـ فقد وُلد المستعرب الراحل بالأندلس في قرية صغيرة اسمها شودر، وهو يدرك جيداً أن «كل إنسان يولَد في الأندلس يحمل في أعماقه بذور الحضارة العربية...».
تكمن أهمية ما قام به في التعريف بالأدب العربي وترجمته؛ ليس من الناحية التسجيلية فحسب، بل الجمالية باعتبارها تجربة شخصية وجماعية.
من المعروف أن الأدب العربي المعاصر في الخمسينيات والستينيات كان مجهولاً لدى الغرب، من كان يكتب عن الأدب العربي أو العالم العربي آنذاك قلة قليلة. وفاجأني بقوله: «تصوَّرْ أن القراء الإسبان عندما قرأوا رواية الياطر لحنا مينا، دهشوا لوجود بحر في العالم العربي؛ لأن العرب في أذهانهم هم سكان الصحراء وأصحاب الجِمال». وأضاف: «لماذا؟ لأن الإنسان الغربي يجمع بين كلمة العرب والصحراء بكل سهولة. لو سألت، على سبيل المثال، طالباً جامعياً في إسبانيا عن ذكر أسماء المدن التي تطل على البحر المتوسط، فإنه لا يذكر أبداً اسم أية مدينة عربية؛ لأنهم يذكرون مدن الشمال وليس الجنوب».
المستعرب الراحل، من خلال ترجماته الجادة، غيّر هذه الصورة النمطية وغيرها من الصور التي اعتادها الغرب، لكن هذا التغيير جاء بطيئاً. والأسباب معروفة؛ «لأن ما يمثل العرب في أذهانهم هو البترول والإرهاب؛ وذلك بسبب وسائل الإعلام الغربية التي تعمل على تشويه هذه الصورة».
لكن المستعرب الراحل تساءل عن الجوهري في هذا الأمر؛ وهو: «كيف يكافح العرب هذا النفوذ الإعلامي الخاطئ... ولا يوجد حل سحري آخر سوى ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، كردّ حاسم على ذلك. ما ينقله الغرب أحياناً هو ما ينقله العالم العربي؛ ذلك لأن معظم الصور العالقة في الذهن الغربي شكلية ولا تمثل حقيقة الحياة اليومية، ولا الروح النابضة في أعماق هذه الشعوب. لهذا قلت في نفسي إنه من واجبي أن أقوم بتعريف العالم العربي للقراء الغربيين، لذا تركت الدراسات التاريخية والعصور الوسطى، ودخلت الحاضر؛ أي ترجمة الأدب العربي المعاصر».
سألته عن أبرز شاعر عربي عرفه وأحبَّ ترجمته إلى الإسبانية، أجابني: «أجيبك، بلا تردد: بدر شاكر السيّاب أعظم شاعر ترجمته إلى الإسبانية، رغم صعوبة شعره؛ لأنه يتميز بالتكثيف. أما ترجمة الشعراء الآخرين: عبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش، ونزار قباني، وغيرهم، فلا تصعب ترجمتهم. هنا لا أتكلم عن القيمة الشعرية لأولئك الشعراء، بل عن ترجمة نصوصهم وما يواجهني فيها من صعوبات».
أتذكّر كتابه القيم «الأدب العراقي المعاصر»، الذي صدر في مدريد وطُبع مرتين، وهو كتاب ضخم، في ستمائة صفحة، يتضمن إنتاج الأدباء العراقيين منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن، لكنني اندهشت، وفرحت، في آن واحد، حين عثرت على اسم الكاتب علي الوردي الذي صنّفه مونتابيث بوصفه واحداً من أهم الأدباء العراقيين.
عاش المستعرب الراحل مونتابيث ليس مع اللغة، بل مع الواقع العربي منذ الخمسينيات والستينيات إلى آخِر لحظات حياته. عاش في تطوان لعامين، والقاهرة لست سنوات في المركز الثقافي الإسباني ودرس العربية وكتب أطروحته «عن العصر المملوكي». وهكذا توالت كتبه المهمة؛ مثل كتابه «الموضوعات الأندلسية في الأدب العربي المعاصر»؛ أي لجوء الشعراء العرب إلى المدن الأندلسية وتناول آثارها واستخدام رموزها.
يقول المستعرب الراحل: «أخبرني الطاهر بن جلون، ذات مرة، أنه كتب عن غرناطة، وتحدَّث عن الصراعات الداخلية التي وقعت في الأندلس، وقارن بين ما وقع في فترة ملوك الطوائف، وما يقع حالياً في العالم العربي! وكأن الصورة نفسها تتكرر».
لم ينقطع المستعرب الراحل عن دراسة العالم العربي وأدبه، وهو القائل: «في الغرب، لا تزال فكرة التفوق الأخلاقي على العالم العربي هي السائدة». وظلّ إلى آخِر ساعاته يكافح ضد هذه الفكرة وتداعياتها من خلال حسه النقدي الملتزم بالموضوعية، كما لم يتوقف عن إقامة الحلقات والدراسات، مؤسساً «دائرة الثقافات العربية الإسبانية» في 2016 التي يَعتبر فيها نفسه عضواً فحرياً.
إنه آخِر المستعربين الإسبان العظام ممن يمتلك سلطة نقدية وأدبية لا جدال فيها بين المتخصصين، تميَّز بمسيرته العلمية، وبريادته في ترجمة الشعر العربي الحديث، إذ فتح عيون الغرب على الواقع المعاصر لعالم عربي معقد وحيوي، وقدم تحليلاته العميقة، لا كمستشرق، بل كمستعرب، كما كان يحلو له أن يطلق على نفسه؛ لأنه أراد أن يعيش الحاضر.
اختار دراسة اللغة العربية تحت تأثير معلمه الأول اللامع دون إميليو غارسيا غوميز، إذ اكتشف أنه ليس على دراية بهذا العالم عندما كان في السابعة عشرة من عمره، وانجذب إلى عشق هذه اللغة؛ لأنها «غنية بالمفردات والتعبيرات، في جمالياتها المتعددة».
ثم بدأ منذ ذلك الوقت ينكبّ على الدراسات العربية، فدرس الأدب الكلاسيكي وتاريخ الأندلس «لوضعها في قلب العالم المعاصر». وكان الجوهري في ذلك هو فتح عالم الدراسات على مصراعيه في الجامعات الإسبانية.
يعتقد مونتابيث أن الترجمة بين اللغتين العربية والإسبانية غائبة رغم اتساعها إلى بلدان أميركا اللاتينية، وفي نظره كان الشعر الأندلسي مرفوضاً لسنوات طويلة، والآن نجد شعراء مثل ابن زيدون والمعتمد بن عباد، أو الشعر الشعبي الأندلسي أو ما يسمى الزجل والموشحات مثلاً، قد أعيد له الاعتبار مؤخراً. وكل ذلك بفضل الترجمة.
لم ينس مونتابيث شعراء المهجر الشمالي؛ لأن أول كتاب نُشر له في عام 1956 كان عن جبران خليل جبران، وإيليا «أبو ماضي»، وميخائيل نعيمة، وغيرهم، كما حاول أن يرصد «الإنتاج الأدبي والفكري لدى الكتّاب العرب في المهجر الجنوبي» في بلدان أميركا اللاتينية كالمكسيك والأرجنتين وكوبا. وفي عام 1968 أصدر كتاباً عن شعراء المقاومة الفلسطينية، وهو أول كتاب يصدر باللغات الأوروبية، ولا يمكن إهمال كتابه المتميز «خمسة عشر قرنًا من الشعر العربي» الذي يتضمن ترجمة للمختارات الشعرية يتعرف فيه قارئ اللغة الإسبانية على بانوراما للشعر العربي في شموليته، كما ترجم قصص نجيب محفوظ، والشاروني، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم من أجل وضع الشعر مقابل النثر.
في عام 2009 التقينا ثانية عندما فاز بجائزة الشيخ زايد، وتُوّج بلقب «شخصية العام الثقافية»؛ «تكريماً لدوره الرائد في بناء جسور التواصل بين الثقافتين العربية والإسبانية».
لقد منح المستعرب الراحل الاستعراب الإسباني الأهمية نفسها التي يتمتع بها الاستعراب الفرنسي أو الإنجليزي أو غيرهما.


مقالات ذات صلة

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة