الإنسان المعولم باحثاً عن المعنى في القرن الحادي والعشرين

بعد سقوط جدار برلين في 1989 تغير كل شيء

الإنسان المعولم باحثاً عن المعنى في القرن الحادي والعشرين
TT

الإنسان المعولم باحثاً عن المعنى في القرن الحادي والعشرين

الإنسان المعولم باحثاً عن المعنى في القرن الحادي والعشرين

لعلّ معظمنا يتفق على أنّ لودفيغ فيتغنشتاين هو أحد أعظم العقول الفلسفية في القرن العشرين؛ بل قد يكون أهمّها، كما يرى برتراند راسل. كان فيتغنشتاين سليل عائلة أوروبية فاحشة الثراء، وبعدما مات أبوه، قطب صناعة الفولاذ الأوروبية، ترك له ولأشقائه ثروة طائلة تعدُّ بمليارات الدولارات بمقاييس زماننا هذا. الغريبُ أنّ فيتغنشتاين آثر أن يتنازل عن كلّ ثروته لإحدى أخواته، ثمّ مضى يعمل في أعمال بسيطة، مثل معلّم في مدرسة قروية قريباً من سفوح الألب، ثمّ عمل بعض الوقت بوّاباً في عمارة سكنية! حتى راسل الذي أعجب بمقدرة فيتغنشتاين الفلسفية رأى في سلوكه فعلاً أخرقَ عصياً على الفهم.
هل كان سلوك فيتغنشتاين فعلاً عبثياً يفتقد إلى المعنى؟ لا أظنّ ذلك. قد يكون فعله مفتقداً للمعنى من وجهة نظرنا نحنُ؛ لكنّه رأى فيه فعلاً منطقياً كاملاً؛ بل رآه واجباً. يصعبُ على المرء أن يعتقد بافتقاد حياة فيتغنشتاين – وهو الفيلسوف اللامع – إلى المعنى.
ثمّة تسجيل فيديوي يتحدّث فيه المخرج العالمي وودي آلن Woody Allen، يقول فيه: «كلّ شيء سبق لك أن حقّقتَه مصيره إلى زوال محتوم. الأرض ستزول، والشمس ستنفجر، والكون سينتهي، وكلّ أعمال شكسبير ومايكل أنغلو وبيتهوفن ستختفي في يوم ما، مهما قدّرناها وأسبغنا عليها من عظمة ورفعة. إنّ من الصعب إقناع الناس بأي شيء إيجابي حول هذا الأمر».
هنا مكمنُ السؤال الوجودي الأكثر أهمية بين كلّ الأسئلة: كيف أمكن للوجود البشري أن يتواصل وسط هذا العماء الوجودي المفتقد إلى معنى وغاية؟
يبدو لي أنّ سؤال «معنى الحياة»، رغم كونه أحد الأسئلة الوجودية الأساسية، يختلف عن سواه من الأسئلة الوجودية الخاصة بأصل كلّ من الوعي والحياة والكون، من حيث الاعتبارات التالية:
أوّلاً: يتداخل معنى الحياة بطريقة عضوية مع كينونتنا ونظرتنا إلى الحياة. الحياة بذاتها تركيب محايد ليس معنياً بأن يكون له معنى. نحن من نخلع المعنى على الحياة، وهذا المعنى يتلوّن بلون أمزجتنا العقلية ودوافعنا الذاتية: الروائي مثلاً يرى في الحياة لعبة تخييلية صالحة دوماً لتكون ساحة لفعالية روائية. والفيزيائي يرى في الحياة تركيباً يعجّ بسحر الصياغات الرياضياتية المبهرة التي تحمل في طياتها كل خزين العالم من معنى وغاية. ويسري الأمر ذاته مع الآخرين، وكلٌّ حسب مزاجه وثقافته وتدريبه المهني، وممارسته الحِرَفية، وتشكّله الفلسفي والذهني.
ثانياً: يبقى «معنى الحياة» موضوعاً لمباحث ذات طبيعة ميتافيزيقية، وليست علمية خالصة، على العكس من الأسئلة التأصيلية الثلاثة الأخرى التي يشكّلُ العلم حجر الزاوية في الجهود البحثية عن طبيعتها. السبب يكمنُ في أنّ العلم غير معني بسؤال «لماذا؟»؛ بل بسؤال «كيف؟» وحده. سؤال المعنى ليس مكانه المباحث العلمية، وإن كانت هذه المباحث يمكن أن تساهم بطريقة غير مباشرة في الكشف عن بعض المناطق المظلمة في بحثنا لاكتشاف المعنى.
ثالثاً: ثمة تصوّر بوجود اقتران شرطي بين معنى الحياة وغايتها ووجود أخلاقيات حاكمة فيها. قد لا يُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى وغاية للحياة ولعاً بالتفاصيل الفلسفية والرياضية والفيزيائية؛ بل يكتفون بتلك الحجة الأزلية: كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم؟ هذا الربط الشرطي بين المعنى والأخلاقيات فعلٌ ينطوي على سوء مستطير. الأخلاقيات يجب أن تتعالى على كلّ الأوضاع البشرية حتى نضمن سموّها وعلويتها وقدرتها على الفعل في الحياة البشرية.

غلاف «أزمة العالم العربي»

رابعاً: موضوعة معنى الحياة، وبخلاف الموضوعات الأخرى، ليست موضوعة سكونية؛ بل تتباين أشكالها مع نموّ الفرد الجسدي والعقلي. يحصل في الغالب أن يقترن معنى الحياة بمشخصات مادية في أطوار النمو الأولى، ثمّ تنزاح القيمة المادية باتجاه أهداف ميتافيزيقية يصعب وضعها في إطار التقييس، كلّما تقدّم المرء في سنوات حياته.
نُشرت كتب كثيرة تتناول معنى الحياة من منظورات متعددة: فلسفية أو فيزيائية أو لاهوتية أو نفسية. ربما يحضرنا في هذا المقام كتاب فيكتور فرنكل «بحث الإنسان عن المعنى» الذي صار في عداد الكلاسيكيات الرفيعة. تبدو كتابات المختصين بعلم النفس الإكلينيكي بشأن معنى الحياة ذات أهمية اعتبارية كبرى؛ لأنهم يكتبون في سياق الصراع الوجودي للإنسان في هذا العالم، ومن واقع خبرتهم الحقيقية.
يفعل الدكتور كارلو سترينغر Carlo Strenger الأمر ذاته عندما يقدّمُ كتابه «الخوف من الأفول: البحث عن المعنى في القرن الحادي والعشرين» Fear of Insignificance Searching for Meaning In the Twenty First Century الذي ترجمه الدكتور حميد يونس إلى العربية عام 2022. مؤلف الكتاب ومترجمه يتوفران على معرفة رصينة بأدوات علم النفس الإكلينيكي، يضاف لها شغف طاغٍ بالمباحث الفلسفية المقترنة بالوجود البشري المكتنف باشتباكات صراعية متعددة الجوانب. الدكتور سترينغر عالم نفس سويسري (مولود عام 1958)، وهو فيلسوف متمرّس بتاريخ الأفكار وفلسفة وتاريخ العلم، ويُعرَفُ عنه في أبحاثه المنشورة التركيز على موضوعة تأثير العولمة على معنى الوجود البشري، وتشكيل الهويات الفردية والجمعية. نشر سترينغر ما يقارب الأحد عشر كتاباً. أما الدكتور حميد يونس فهو ناشط ترجمي، وقد قرأت له من بين ترجماته الكثيرة كتاباً عنوانه (الدماغ الخلاق: علم أعصاب العبقرية) إضافة لكتابه المترجم أعلاه. للدكتور يونس اهتمامات روائية أيضاً، ظهرت خلاصتها في روايته «آخر أمراض الكوكب».
يمكن وضع صيغة إطارية لكتاب سترينغر عنوانها «مكابدات الإنسان المعولم Homo Globalis في عالم معلوماتي وترفيهي تحكمه الأسواق الحرّة». يبدأ المؤلف كتابه بمقدمة ثرية يكشف عنوانها الدرامي «لحظتنا التاريخية» عن ماهية مادتها:
«بعد سقوط جدار برلين في 1989 تصاعد تأثير مؤيدي الأسواق الحرّة الذين تولّوا زمام الاقتصاد إبان حكم رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، وعاشوا نشوة الانتصار بعد زوال الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي... حتى باتت الأسواق الحرّة هي الدين العالمي الوحيد الذي يتمتّع بالصلاحية العالمية المطلقة. تغيّرت بعد ذلك قيم كلّ شيء بدءاً من الشركات إلى الأديان، ومن التسجيلات الموسيقية إلى الأفكار. لم يعُد ثمة شيء محدّد إلا أنظمة التصنيف، مثل أسواق البورصة والمال، وقوائم أفضل الكتب مبيعاً... كانت مسألة وقت قبل أن تطول أنظمة التصنيف البشر، وتتحوّل إلى مرحلة تسليعه. ومما لا شكّ فيه أنّ النظام المعلوماتي والترفيهي عجّل من هذا التسليع... وهكذا اختُزِلت الحياة الهانئة في أنموذجين: الثراء (بوصفه التقييم الكمي لما لديك)، والشهرة (بوصفها التقييم الكمي لمدى معرفة الناس بك)».
هذا هو حجر الزاوية في كامل الخريطة المفاهيمية للكتاب، وليست الفصول اللاحقة سوى هوامش تفصيلية دقيقة ومثيرة لهذا المتن الذي يختزل صراع الإنسان في عالمنا المعاصر، تلك الحالة الصراعية الناجمة عن تسليع متعاظم ما فتئ يتسبب في خلخلة احترام الذات، وتشكك متزايد في عيش حياة تستحق عبء عيشها؛ فكانت النتيجة المتوقعة قلقاً وجودياً مستداماً، نجهد لعلاجه باستخدام الأدوية النفسية والنصائح الروحانية السطحية من قبل نجوم التنمية البشرية الذين صاروا أبطالاً علينا اقتفاء خطواتهم المبشرة بالنجاح. هذا في أقلّ تقدير ما تبشرنا به الوسائل الإعلامية ذات السطوة الضاربة.
يضمّ الكتاب ثلاثة أجزاء، لكلّ جزء منها ثلاثة فصول. يتناول الجزء الأول وعنوانه «هزيمة العقل» تشخيص محنة الإنسان المعولم؛ أما الجزء الثاني وعنوانه «من سوق الأنا إلى دراما الفردانية» فيحاول فيه المؤلف تقديم بديل وجودي لمفهوم الذات التي روّجت لها الثقافة الشعبية السائدة، والمتجوهرة بعبارة «افعلها وحسب. أنت تستطيع فعل كل شيء وأي شيء». أما الجزء الثالث وعنوانه «المطالبة بعقولنا»، فيدعو فيه المؤلف لإعادة تأسيس ثقافة المنطق بوصفها ترياقاً للعبثية التي يقدمها نموذج ثقافة النسبوية Relativism، وخصوصاً في حقل الثقافة والأخلاقيات.
أستطيع القول، بعيداً عن النبرة الأكاديمية، إنّ الخلاصة الفلسفية لمعنى الحياة قد تكون متجوهرة في العبارات القليلة التالية:
يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب. قل كلمتك وافعل الخير، وابذل أقصى جهودك في فعل ما تحبّ وتهيم به شغفاً، ولا تنتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل فعل طيب تفعله، ولا تدنّس ضميرك الحي بصغائر الأفعال، واحرص على ربط بواعث سعادتك بمسببات ميتافيزيقية رفيعة عوضاً عن مُشخّصات مادية سريعة التبدّل والعطب. هذا هو ما يخلع معنى على الحياة، وليس كل ما سواه إلا سفسطات مترسبة في دواخلنا بفعل سطوة القناعات الزائفة أو الراحة الموهومة الناجمة عن الارتكان لأمثولات سائدة لم نختبر قيمتها الحقيقية في حياتنا.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.