تمثل الفترة الهلنستية من تاريخ البحر المتوسط سيرورة الدمج بين الهلينية، أي المركزية اليونانية، والشرق السوري الذي يمثل الأطراف. ويمكن وصف كتاب «الأفعوان الحجري» للشاعر نوري الجرّاح، الصادر مؤخراً في طبعتين عربية وإنجليزية، أنه مرثية شعرية جدلية المنزع بامتياز. وما أعنيه بذلك هو أنه نص إشكالي يترك النقاش مفتوحاً على الحسم الأنثروبولوجي.
ما فعله شاعر هذا النص باختصار هو تقديم الحسم إزاء وجهتي نظر حول رؤية حضارة العالم. وتشير وجهة النظر السائدة التي أَلِفَها الأنثروبولوجيون الغربيون طويلاً إلى أن الحضارة الهلينية (اليونانية)، حضارة المتوسط، هي حصيلة غزو شمالي من قبل شعوب هندو - أوروبية. ولكن اليونانيين أنفسهم، أصحاب ما يدعى بالمنزع الكلاسيكي في السياق الحضاري العالمي، لم يشيروا البتة إلى هذا الغزو الذي يدعى بـ«الموديل الآري».
هذا هو فصل المقال في الدراسة الأنثروبولوجية (3 أجزاء) التي أصدرها الباحث البريطاني مارتن برنال Bernal تحت عنوان «أثينا السوداء... الجذور الآفرو - آسيوية للحضارة الكلاسيكية». في «الأفعوان الحجري» يقدم نوري الجراح ما يمكن اعتباره بمثابة «المعادل الجمالي» لصنيع برنال. بؤرة ما أعنيه بالمعادل الجمالي هنا تكمن في تحويل نصب مُقام وفق الطراز التدمري، نقشت عليه كتابات بالتدمرية واللاتينية، وعثر عليه إلى الشمال من لندن على مقربة من جدار هادريان Hadrian Wall، في منطقة ساوث شيلدز South Shields التي يمر فيها نهر تاين River Tyne عند مصبه في المحيط - إلى نص شعري ملحمي.
في هذا النص نقش اسمان؛ برعتا التدمري القادم من الجنوب، وريجينا السلتية القادمة من الشمال. والسؤال؛ هل كان برعتا التدمري تاجراً وصل إلى بريطانيا قبل 2000 عام، أم مقاتلاً في القوات الرومانية القادمة من الجنوب؟
أغلب الظن أن برعتا التدمري مقاتل لم ينقش الاسم الأصلي لمحبوبته على اللوح الجنائزي التدمري، بل استبدل الاسم السلتي بصفة، هي ريجينا، باللاتينية تعني ملكة. ويظل السؤال مطروحاً؛ من هو هذا المغامر الذي جاء من الشرق ليحرر امرأة من الغرب ويسميها ريجينا مستفزاً بذلك سطوة النظام العبودي لروما؟
كيف قيض لفتى لوحته شمس تدمر أن يحيط بذراعه السمراء خصر فتاة سلتية ذات جديلة حمراء، ويهيم بها قبل 2000 عام؟
نصب شبيه بأنصاب تدمر عثر عليه بالقرب من جدار روماني أشعل مخيلة الشاعر، وله تدين هذه القصيدة التي تضيف للمرة الأولى إلى ثقافة اللغتين العربية والإنجليزية، بلغة ملحمية أيقونية المنزع، عابرة للجغرافيا والآيديولوجيا، أيقونة أقدم من كل ما عرفنا من أيقونات الحب المرتبط تحديداً بالمأساة.
مرثية التدمري لمحبوبته التي ماتت في الثلاثين ليست مجرد تاريخ ميثولوجي. يرى الأنثروبولوجيون البريطانيون أن برعتا القادم من سوريا قد يكون مقاتلاً في الجيش الروماني أو تاجراً تدمرياً وصل بطريقة ما إلى بريطانيا. ويرى شاعر «الأفعوان الحجري»، شأنه شأن آخرين، أنه قد يكون أحد النبالين السوريين الخمسمائة الذين كلفوا بالدفاع عن جدار هادريان (حسب الوثائق العسكرية الرومانية) الذي بني بأمر من الإمبراطور الروماني، الذي يحمل السور اسمه في عام 122 بعد الميلاد. وعندما أخلد برعتا إلى الراحة مع نهاية خدمته العسكرية، واصل حياته في منطقة قريبة من الحصن الرئيسي عند جدار هادريان، المسمى آربيا. ويخبرنا المؤرخون أن القانون العسكري الروماني لم يكن يسمح لمن هم من غير كبار الضباط اصطحاب عائلاتهم إلى المناطق التي يخدمون فيها لفترة ربع قرن، وهو ما يفسر بقاء الغالبية العظمى من صغار الضباط والجنود الرومانيين في بريطانيا، وارتباط معظم هؤلاء بنساء من القبائل السلتية، ومنها الكتافلانيون الذين تنتمي إليهم ريجينا، وهو ما حدث، وفقاً لمرثية «الأفعوان الحجري» لبرعتا التدمري باقترانه من السبية السلتية التي حررها.
من هذا المنظور يمكن اعتبار القصيدة صلة وصل بين الحقيقة التاريخية وبين الشعرية العابرة للثقافات. وهذا المنزع طريقة أخرى للقول إن الشعر جسر بين الحقيقة والخيال. وهذه النقطة يمكن تعقبها بمقاربات مختلفة، لعل أقربها إلينا تعقب الشعر العربي الراهن من حيث علاقته بالحقيقة الأنثروبولوجية.
وبصرف النظر عما يختاره قارئ الشعر المعاصر، فإن بعض الإلمام بالتاريخ الأوروبي ربما كان مطلوباً لإدراك مدى تماس الشاعر الجرّاح مع نقد إدوارد سعيد لباراديم النزعة المركزية الأوروبية.
أختم هذه الملاحظات بالقول إنه تكمن في هذه الملحمة الجسور رحلة شعرية مبتكرة لملمح مقموع عادة، ملمح مسكوت عنه، أو ربما منسي كلياً في التراثين الأدبي الإنجليزي والعربي. والحال أن كلا التراثين لا يمكن أن يقيّما نقدياً أو ينظر إليهما على النحو نفسه بعد الآن، في ضوء هذا الأثر الشعري. رحلة الشاعر السوري هنا، هي في تقديري سيرنادا شرقية الطراز Eastern Serenada لحن يعني هنا بلغة الموسيقى العزف في الهواء الطلق من قبل فارس تدمري قادم من الشرق ليمنح ريجينا السلتية في الشمال البريطاني الحرية والكرامة معاً، وها هنا تذهب صورة الشاعر بصورة العاشق ليطل هذا من شرفة محبوبته مسطراً شهادة أخاذة على القدرة على الإبداع الشعري، ولعلها مقاربة حداثية تجعل القدامة جنساً أدبياً ناطقاً بالكشف والإضاءة.
***
الضَّبَابُ يَفْتَرِسُ الأَقْوَاسَ والرُّمَاةَ،
الضَّبَابُ يَلْتَهِمُ الحِجَارَةَ، والسُّوْرَ، ويَهِيمُ عَلَى النَّهْرِ،
والَّذِينَ تَسَاقَطُوا مِنَ الحُصُونِ المَرْجُومَةِ بالبَلْطَاتِ والفُؤُوسِ،
سَقَطُوا فِي حُفْرَةِ الشِّتَاء...
أَرْوَاحُ الصَّرْعَى تَهِيمُ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْجَار.
***
أيْنَ هُمُ الرُّمَاةُ التَّدْمرِيُّونَ الَّذِينَ مَلَؤُوا الأَسْمَاعَ والْأَزْمِنَةَ بِصَيْحَاتِهُمُ الْمَرِحَةِ،
وأَقَاصِيصِهُمُ الَّتِي دَحْرَجَهَا الهَوَاءُ عَلَى امْتِدَادِ السُّورِ؟
نِيْرَانُهُمُ الهَائِجَةُ في أَمْوَاجِ الضَّبابِ أَرْسَلَتْ عَبِيْرَ دُخَانِهَا فِي الغَابَاتِ،
ودَلَّتْ عَلَيْهِمْ فُؤُوسُ المَوْشُومِينَ المُقبلينَ لينتحروا، كَسَمَكِ السَّالمُون، فِي أَعَالِي النَّهار.
***
بِأَيِّ لُغَاتٍ خَاطَبَ الجَرْحَى آلِهَتَهُمْ وَهُمْ يَلْفُظُونَ أَنْفَاسَهُمْ وَيُودِعُونَهَا فِي شُقُوقِ الْأَرْضِ؟
***
الضّبابُ يَلْفَحُ وجهيَ، الضّبابُ يَهيمُ بي،
فلأَتوارى أَبْعَدَ، ولأَسْمَع وقْعَ حَوافرِ خَيلٍ، ونِياقٍ تَخُبُّ،
ولألمح من وراءِ سعفِ النَّخيلِ خيالاتِ راكبينَ،
في عَجَاجٍ يلفَحني ويَمْلأُ الأَبْصارَ،
لأغيبَ في ركابِ مَنْ غابوا وأَنْهض وأَتَلقَّى صَيْفَ الجَنوب،
الرِّيحُ تَسُفّ الهاجرةَ وتَخُزُّ بالرَّملِ وجْهيَ.
***
دَمي قشعريرةُ ذِئْبٍ جَرِيحٍ، وصَوتي عُواء غَابَةٍ تَحْتَرِقُ.
من الديوان
أَنْتَ يَا مَنْ تَقِفُ لِتَقْرأَ كَلِمَاتِيَ المُرْتَجِفَةَ مِنَ البَرْدِ؛ هَلْ وصَلْتَ إِلى هُنَا، مِثْلِي، عَلَى مَرْكَبٍ مِنْ خَشَبِ الْأرزِ المَجْلُوبِ مِنْ جِبَالِ «نُومِيدْيَا»، أم عَلَى طَوْفٍ أَلْقَتْ بِهِ سَفِينَةٌ قُرْبَ شاطئٍ فِي بَحْرِ الشَّمَال؟
لَسْتُ حَامِلَ بَيَارِقَ، ولَكِنَّنِي تَاجِرُ أَقْمِشَةٍ مِنَ الشَّرق.
وَلَئِنْ تَرَكْتُ سَيْفِيَ عِنْدَ النَّهْرِ،
فَلِيُبَارِكَ الْبَعْلُ خُطْوتِي إِلَى البَيْتِ،
ولِيَصْفَحَ عَنْ إِثْمِ يَدِي.
***
في العَاصِفَةِ، وَقَدْ جُزْنَا بَحْرَ الرُّومِ، صَلَّيْتُ لَكِ يَا عَشِيرةُ، وأَنْتِ رَبَّةُ هَذِهِ الأَمْوَاجِ،
لَكِ صَلَّيْتُ،
ولِلْبَعْلِ أَعْطَيْتُ أُمْنِيَتِي.
ولمَّا رَأَيْتُ اليَابِسَةَ، رَأَيْتُكِ تَغْسِلِينَ قَدَمَكِ قُرْبَ النَّهْرِ،
رَأَيْتُ الضَّوْءَ يَتَقَطَّرُ،
مِنْ كَاحِلِكْ،
وَرَجَوْت إِيلَ فِي عَلْيَائِهِ، أَنْ يُبَارِكَ عَيْنِي الَّتي رَأَتْ.
***
كَيْفَ لِي، أَنَا بَرْعَتا بِوَجْهِيَ المُلَوَّحِ بِشَمْسِ «تَدْمُرَ»، أَنْ أُمَدِّدَكِ فِي شِغَافِ الصَّمْتِ فِي غَيْبُوبةِ السَّرِيرِ؛ كَيْفَ أَسْتَعِيدكِ مِنْ غَابَةِ الذِّئبِ، أَنَا الطَّائفُ بِالْكتَّانِ الدِّمَشْقِيِّ، وبِالْأَقْطَانِ، عَلَى بَلْدَاتٍ هَارِبَةٍ مِنْ صَخَبِ المُشَاةِ، وجَلَبَةِ السُّيُوفِ، وضَجِيجِ أَسَاطِيلِ النَّهْرِ؛
كَيْفَ أسْتَرِدُّكِ مِنْ صَمْتِ الغَابَةِ وتِيهِ النَّهْرِ.