حياة موديلياني تلهم تشكيلياً مصرياً للتعبير عن معاناة البشر

عبر معرض قاهري يضم 25 لوحة للفنان ياسر نبايل

من أعمال المعرض (غاليري ليوان)
من أعمال المعرض (غاليري ليوان)
TT
20

حياة موديلياني تلهم تشكيلياً مصرياً للتعبير عن معاناة البشر

من أعمال المعرض (غاليري ليوان)
من أعمال المعرض (غاليري ليوان)

هل تمثل المعاناة حقاً محركاً للإبداع ومصدراً ملهماً للفن؟ يطرح هذا السؤال نفسه بقوة أمام الأعمال الأخيرة للتشكيلي المصري ياسر نبايل؛ فقد ساد الألم الإنساني بكل صور معرضه المقام بغاليري «ليوان» بالقاهرة، إلى حد أنه اختار له عنواناً وثيق الارتباط به، وهو «إلى موديلياني»، في إشارة إلى الرسام والنحات الإيطالي الشهير أميديو كليمينتي موديلياني (1884 - 1920) صاحب الحياة الحافلة بالروائع الفنية والتجارب الطويلة مع المعاناة أيضاً.
لم يكتف نبايل بإهداء المعرض إلى موديلياني، لكنه جعل منه «موديلاً» للعديد من لوحاته أيضاً، ورغم ذلك لم يتأثر بشخصياته الفريدة والمتميزة باستطالة رؤوسها ورقابها، التي لا يمكن أن تخطئها عيون عشاق فنه عند رؤيتها.
يقول نبايل لـ«الشرق الأوسط»، «اخترت أن أوجه المعرض كله إلى الفنان الراحل؛ بسبب حياته الشخصية المعقدة وتجاربه الحياتية الموجعة المتشابكة نفسياً وجسدياً، من دون أن تكون لأعمالي أي علاقة بأسلوبه الفني».
وتابع: «وضعت يدي على معاناة فنان قدم فناً رائعاً وأعمالاً ربما لم تستوعبها الحقبة التاريخية التي عاش خلالها».

يقودنا موديلياني ومعاناته في لوحات نبايل بالمعرض المستمر حتى 9 فبراير (شباط) الحالي إلى ألوان أخرى من الآلام والأوجاع الإنسانية؛ ما بين الصراعات والحروب والدماء وملامح الأسى على الوجوه، يقول: «أنشغل بالمعاناة؛ لأنها دراما، والدراما بالنسبة لي هي الحقيقة ذاتها، فحتى حين نسعد ونبتهج يبقى دوماً جزء شديد الحزن والشجن داخلنا، وهذا هو ما أردت التركيز عليه في أعمالي الأخيرة».
لم يأت هذا التوجه من فراغ؛ فالفنان الذي يعيش في سويسرا منذ نحو 13 سنة، شعر بمعاناة شعوب أوروبا من خطر الحرب الروسية - الأوكرانية والقلق من مصيرها واحتمالات تطورها، متابعاً: «دمجت بين موديلياني والجنود حتى وإن اختلفت معاناتهم».
ويردف: «إن سويسرا، كما هو معروف، قريبة من موقع أحداث الحرب، وقد لمست كم يشعر الناس وأنا أيضاً بالطبع بالخطر والخوف مما يحمله الغد لنا؛ ولذلك كل أعمالي في المعرض تعكس ذلك وتتخيل ماذا لو تصاعدت أحداث الحرب؟ ماذا سيلحق بالبشرية، فالجميع في لوحاتي يعاني؛ فلا أحد سينجو من آثار هذه الحرب».
اللافت أن هناك وجهاً آخر يتكرر في اللوحات، لكنه هذه المرة وجه نسائي، وحين يدقق المتلقي النظر سيكشف أنه وجه النحاتة الفرنسية كاميل كلوديل، ومن المعروف أنها عانت طويلاً بسبب علاقتها المضطربة مع النحات المشهور أوجست رودان، التي انتهت بانفصالهما؛ الأمر الذي تسبب في انتقالها من عالم الفن إلى الحياة داخل مصحة نفسية؛ ومن الواضح أن نبايل عدها هي أيضاً أيقونة للأوجاع الإنسانية، أو ربما مدخلاً لنوع آخر من معاناة البشر: «تعاني المرأة في كل المجتمعات والثقافات، ليس في مصر أو المنطقة العربية وحدها، إنها معاناة تستحق أن يرصدها الفن طارحاً أسئلة كثيرة حولها».


التلصص سمة أخرى من سمات لوحات المعرض؛ فالباب «الموارب» غير المفتوح أو المغلق للنهاية في الأعمال يقف وراءه شخص ينظر بترقب لما هو داخل المكان، وهو في اللوحات باب مرسمه في سويسرا بكل تفاصيله، فهل أراد نبايل أن يجعلهم في حالة قلق تعبيراً عن فكرة المعرض، أم أنهم جاءوا لزيارته وليمثلوا له نوعاً من الونس والأمان، وهو الفنان الذي يعيش بمفرده دوماً، لا سيما أن هؤلاء الزائرين حملوا وجهي الفنانين موديلياني وكلوديل؟ يجيب نبايل قائلاً: «نعم، ربما يكون الأمران صحيحين».
وأوضح: «لقد جاءت شخوصي لتزورني وتطمئن علي في معاناتي؛ فطوال الوقت أشعر أن هناك شخصاً ما في الخارج، وأن هناك شيئاً ما سيحدث، وهو ليس نوعاً من الهلوسة إنما خيال أو احتياج إلى إقامة حوار دائم مع الآخر ومع أصدقائي موديلياني وكلوديل، كما أنه قد يرتبط بحالة الخوف والقلق والانتظار لما يمكن أن تسببه لنا الحروب».

الغريب أن الفنان المهاجر من مصر، حيث ضجيج المدن، إلى سويسرا، حيث الهدوء الخالص والطبيعة الخلابة، لم يتأثر بالطابع المختلف لموطنه الأخير، فلم تعكس أعماله في هذا المعرض، ولا في معارضه السابقة، هذه الطبيعة، ولم يقدم لاند سكيب، وهو ما يبرره قائلاً: «لأنني مهموم أكثر بالإنسان». وتابع: «الجمال في سويسرا لا يمكن وصفه، لكنه حولي في كل مكان، أستمتع به، ولا أحتاج أن أنقله أو أحاكيه، في حين أن هناك عدداً هائلاً من الأسئلة التي تتطلب طرحها في أعمالي، في مقدمتها ماذا يفعل البشر ببعضهم البعض، وإلى أين يمكن أن يأخذهم ذلك؟!».
يضم المعرض نحو 25 عملاً استخدم ياسر نبايل فيها الألوان الزيتية على كانفاس، وهو ما اعتاد عليه منذ أكثر من 30 سنة، واعتمد الألوان الساخنة، لا سيما الأحمر؛ رمزاً للصراع والتوتر، إضافة إلى الرسم أيضاً بالفحم السميك على الورق في الاسكتشات، ولعب فيها بالأبيض والأسود في تقديم أرضيات مرسمه الذي يمثل مسرح الأحداث، فجاءت البلاطات الكاروه لتأخذ عين المتلقي إلى فكرة أو معنى ما أراد التركيز عليه وجذب الاهتمام إليه، بينما قدم لأول مرة وبشكل نادر في الفن عموماً الاسكتشات بأحجام كبيرة تصل إلى 150 x 210 cm يقول: «أثناء دراستي الجامعية التقيت الفنان بيكار، وأبلغته بأنني لا أستطيع رسم لوحة صغيرة، حيث أشعر بقيود على حركة يدي، فقال لي: لأنك شاب لديك القوة، ولكن عندما يتقدم بك العمر مثلي ستضطر لاستخدام أحجام صغيرة، منذ ذلك الوقت وأنا أرسم أحجاماً كبيرة، لكني أتوقع كما قال لي الفنان الكبير أن أتوقف عن ذلك يوماً ما».


مقالات ذات صلة

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

يوميات الشرق رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً. فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه.

يوميات الشرق ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

يعتمد الموسيقار المصري هشام خرما طريقة موحّدة لتأليف موسيقاه، تقتضي البحث في تفاصيل الموضوعات للخروج بـ«ثيمات» موسيقية مميزة. وهو يعتزّ بكونه أول موسيقار عربي يضع موسيقى خاصة لبطولة العالم للجمباز، حيث عُزفت مقطوعاته في حفل الافتتاح في القاهرة أخيراً.

محمود الرفاعي (القاهرة)
يوميات الشرق معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

زائرون يشاهدون عرضاً في معرض «أحلام الطبيعة - المناظر الطبيعية التوليدية»، بمتحف «كونستبلاست للفنون»، في دوسلدورف، بألمانيا. وكان الفنان التركي رفيق أنادول قد استخدم إطار التعلم الآلي للسماح للذكاء الصناعي باستخدام 1.3 مليون صورة للحدائق والعجائب الطبيعية لإنشاء مناظر طبيعية جديدة. (أ ب)

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

«نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

ستُطرح رواية غير منشورة للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز في الأسواق عام 2024 لمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة الروائي الكولومبي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، على ما أعلنت دار النشر «راندوم هاوس» أمس (الجمعة). وأشارت الدار في بيان، إلى أنّ الكتاب الجديد لمؤلف «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» سيكون مُتاحاً «عام 2024 في أسواق مختلف البلدان الناطقة بالإسبانية باستثناء المكسيك» و«سيشكل نشره بالتأكيد الحدث الأدبي الأهم لسنة 2024».

«الشرق الأوسط» (بوغوتا)

روبوت بحجم راحة اليد ينفذ مهام دقيقة في البيئات القاسية

الروبوت الجديد يعتبر أحد أصغر الروبوتات القادرة على العمل في بيئات معقدة (جامعة يوكوهاما الوطنية)
الروبوت الجديد يعتبر أحد أصغر الروبوتات القادرة على العمل في بيئات معقدة (جامعة يوكوهاما الوطنية)
TT
20

روبوت بحجم راحة اليد ينفذ مهام دقيقة في البيئات القاسية

الروبوت الجديد يعتبر أحد أصغر الروبوتات القادرة على العمل في بيئات معقدة (جامعة يوكوهاما الوطنية)
الروبوت الجديد يعتبر أحد أصغر الروبوتات القادرة على العمل في بيئات معقدة (جامعة يوكوهاما الوطنية)

طوّر مهندسون من جامعة يوكوهاما الوطنية في اليابان روبوتاً بحجم راحة اليد، قادراً على العمل بدقة فائقة في جميع الاتجاهات، حتى في أكثر البيئات قسوةً وتطرفاً.

وأوضحت النتائج، التي نشرت الجمعة، بدورية «Advanced Intelligent Systems» أن الروبوت الجديد يمكنه العمل في البيئات المعزولة، والمختبرات عالية الأمان، وحتى البيئات الفضائية، حيث يصعب على البشر التدخل.

واستلهم الباحثون تصميم الروبوت (HB-3) من خنافس وحيد القرن، وهي حشرات معروفة بحركتها القوية والمتعددة الاتجاهات، ما جعلها نموذجاً مثالياً لتطوير روبوت صغير يتمتع بالاستقلالية والدقة الفائقة. ويبلغ وزن الروبوت، الملقّب بـ«الخنفساء الآلية»، 515 غراماً فقط، وحجمه لا يتجاوز 10 سنتيمترات مكعبة، وهذا يجعله أحد أصغر الروبوتات القادرة على العمل في بيئات معقدة.

ويتميز الروبوت بقدرة فريدة على التحرك في جميع الاتجاهات بدقة عالية، معتمداً على مشغلات كهروضغطية (Piezoelectric Actuators)، وهي تقنية تحول الطاقة الكهربائية إلى حركة ميكانيكية دقيقة للغاية. وتعمل هذه المشغلات بطريقة تشبه العضلات الصناعية، حيث تتمدد أو تنكمش عند تطبيق مجال كهربائي، مما يمنح الروبوت قدرة غير مسبوقة على التحرك بدقة تصل إلى مستوى النانومتر.

ووفق الباحثين، يتم التحكم بحركات الروبوت عبر دائرة قيادة مدمجة تعمل بمعالج متقدم، ما يتيح له تنفيذ مهام معقدة دون الحاجة إلى كابلات خارجية. كما زُوّد بكاميرا داخلية وتقنيات تعلم آلي، وهذا يسمح له بالتعرف على الأجسام وضبط حركاته في الوقت الفعلي وفقاً للبيئة المحيطة به.

بالإضافة إلى ذلك، يمكنه استخدام أدوات مختلفة، مثل ملقط دقيق لالتقاط وتجميع المكونات، وحاقن صغير لوضع قطرات دقيقة من المواد، كما يمكن تحويل أدواته إلى مجسات قياس، أو مكواة لحام، أو مفكات براغي، مما يمنحه مرونة واسعة للاستخدام في نطاقات مختلفة.

وأظهرت الاختبارات كفاءة عالية للروبوت في تنفيذ مهام متعددة داخل بيئات مغلقة، باستخدام أدوات دقيقة مثل ملقاط تجميع الشرائح الدقيقة أو محاقن لتطبيق كميات متناهية الصغر من السوائل، حيث حقق دقة فائقة مع معدل نجاح بلغ 87 في المائة.

بيئات صعبة

ووفق الباحثين، صُمم الروبوت للعمل في بيئات يصعب فيها التدخل البشري، حيث يمكن استخدامه في الجراحة الدقيقة ودراسة الخلايا، إضافة إلى تحليل المواد النانوية داخل البيئات المعقمة، ما يجعله أداة مهمة في مختبرات التكنولوجيا الحيوية والفيزياء المتقدمة.

وفي الصناعة الدقيقة، يساهم الروبوت في تصنيع المكونات الإلكترونية الصغيرة مثل رقائق أشباه الموصلات، مع القدرة على العمل في البيئات القاسية مثل الفراغ أو الغرف ذات الضغط العالي.

وخلص الباحثون إلى أن هذا الابتكار يمثل خطوة نحو روبوتات دقيقة مستقلة، مع إمكانات ثورية في المجالات الطبية والصناعية والبحثية. ورغم إنجازاته، يسعى الفريق إلى تحسين سرعة المعالجة وتطوير كاميرات إضافية لتعزيز دقة التوجيه مستقبلاً.