يوم تعبئة ثانٍ في فرنسا رفضاً لمشروع إصلاح قانون التقاعد

متظاهر يسير وسط دخان القنابل المسيلة للدموع في باريس (أ.ف.ب)
متظاهر يسير وسط دخان القنابل المسيلة للدموع في باريس (أ.ف.ب)
TT

يوم تعبئة ثانٍ في فرنسا رفضاً لمشروع إصلاح قانون التقاعد

متظاهر يسير وسط دخان القنابل المسيلة للدموع في باريس (أ.ف.ب)
متظاهر يسير وسط دخان القنابل المسيلة للدموع في باريس (أ.ف.ب)

مرة أخرى، ينزل المتظاهرون بمئات الآلاف إلى الشوارع في العاصمة باريس وفي عشرات المدن الكبيرة والمتوسطة للتعبير عن رفضهم المشروع الحكومي الهادف إلى تعديل أنظمة التقاعد. وأهم بند فيه يؤجج النقمة النقابية والشعبية يتناول رفع سن الخروج من العمل من 62 عاماً كما هي الحال اليوم إلى 64 عاماً. وبدا ذلك واضحاً في اللافتة الرئيسية التي رفعت في مقدمة المظاهرة الباريسية التي انطلقت في الثانية من بعد الظهر والتي تقول: «إصلاح قانون التقاعد لمزيد من سنوات العمل: جوابنا: كلا». وتجدر الإشارة الى أن سن العمل في فرنسا من الأدنى من بين كافة دول الاتحاد الأوروبي. ففي ألمانيا وإيطاليا والدنمارك واليونان، سن التقاعد الراسمي هي 67 عاماً و66 عاماً في البرتغال وإيرلندا، و65 عاماً في كرواتيا والمجر وبولندا ورومانيا... ويشكل هذا التفاوت الحجة الرئيسية التي تلجأ إليها الحكومة لتبرير عزمها الذي لا يلين، حتى اليوم، لقلب صفحة الـ62 عاماً. أما الحجج الرئيسية الأخرى فهي تأكيدها ضرورة الإصلاح لإنقاذ نظام التقاعد من الإفلاس في السنوات المقبلة والسعي لنظام «أكثر عدلاً».
https://twitter.com/aawsat_News/status/1620513344414224385
لم يكن خيار 31 يناير (كانون الثاني) موعداً للنزول مجدداً إلى الشارع بدعوة من النقابات الثماني الرئيسية التي نادراً ما تكون متحدة بهذا الشكل وبدعم من أحزاب اليسار الثلاثة «الاشتراكي والشيوعي وحزب فرنسا المتمردة» ومن الخضر من باب المصادفات، بل لأن اللجنة المتخصصة في مجلس النواب بدأت الاثنين دراسة مشروع القانون الذي قدمته رئيسة الحكومة إليزابيث بورن. وهدف التعبئة النقابية والسياسية إبراز الرفض الشعبي للخطة الحكومية، والعمل على ليّ ذراعها لسحب مشروعها تحت طائلة تواصل التظاهرات والإضرابات. وفي اليوم الأول للتعبئة وهو 19 يناير نزل ما بين مليون ومليوني متظاهر إلى الشوارع بالتزامن مع موجة من الإضرابات أصابت بشكل خاص قطاع النقل العام والمواصلات وبدرجات متفاوتة «قطارات المناطق والمترو وقطارات الضواحي والحافلات والنقل البحري والجوي» خصوصاً في العاصمة باريس والمدن الكبرى، إضافة إلى قطاع الطاقة الكهربائية، ومشتقات المحروقات، والقطاعين التربوي والصحي، والوظيفة العمومية والإعلام الحكومي، لا بل أيضاً دبلوماسيي وموظفي وزارة الخارجية... واليوم، تضررت القطاعات نفسها، إلا أن المعلومات المتوافرة حتى الظهر أفادت بتراجع طفيف لنسبة المضربين. ويرجع خبراء الشؤون الاجتماعية هذا التراجع «مثلاً في قطاع التعليم» إلى الأزمة الاجتماعية ــ الاقتصادية التي تضرب فرنسا على أساس أن قانون العمل يقرّ بحسم أيام الإضراب من رواتب الموظفين والعمال في القطاعين العام والخاص.
حتى اليوم، ما زال ماكرون ورئيسة حكومته رافضين للتراجع عن سن الـ64 عاماً للتقاعد، وكلاهما أكدا ذلك في الساعات الأخيرة. والتبدل الوحيد برز من خلال كلام رئيسة الحكومة التي افترضت أنه من الممكن النظر في تحسين الشروط للأشخاص الذين بدأوا العمل في سن مبكرة جداً، أو للأمهات اللواتي توقفن عن العمل لرعاية الأطفال والأشخاص الذين استثمروا في مزيد من التعليم. ومن المقرر أن تدوم المناقشات في البرلمان ثلاثة أسابيع وهي تبدو قصيرة للغاية نظراً للتعديلات المقترحة من اليمين واليسار والتي تجاوزت الـ7000 مقترح. وتبدو الحكومة مطمئنة لجهة إمكانية التصويت الإيجابي على مشروعها في البرلمان رغم افتقارها للأكثرية المطلقة. فالحزب الرئاسي «النهضة» وحليفاه «الحزب الديمقراطي وحزب هواريزون» لا تكفي أصواتهم لتمرير مشروع القانون، فيما المعارضة تأتي من أحزاب اليسار والخضر والحزب اليميني المتطرف الذي تقوده مارين لوبن. وما بين المعارضة المتنوعة وأحزاب الموالاة يقف بين الطرفين حزب «الجمهوريون» اليميني المعتدل الذي يمتلك 62 صوتاً. ونجحت بورن التي تحتاج لـ289 صوتاً «هي الأكثرية المطلقة» في عقد تحالف معه للتصويت لصالح مشروع القانون، إلا أن مشكلة هذا الحزب أن العديد من نوابه يخالف رأي قيادته وليس مستعداً للتصويت لصالح المشروع الحكومي. ويتألف مجلس النواب من 577 مقعداً، فيما يتمتع تحالف اليسار والخضر بـ150 مقعداً، والتجمع الوطني (اليمين المتطرف) بـ88 مقعداً. وبيّن استطلاع جديد للرأي أجرته مجموعة «أوبينيون واي» ونشرته صحيفة «لي زيكو» المالية اليومية أول من أمس، أن 61% من الفرنسيين يؤيدون الحركة الاحتجاجية، بزيادة ثلاث نقاط مئوية عن استطلاع مماثل أجري في 12 يناير.
حقيقة الأمر أن مصير الحركة الاحتجاجية مرهون بقدرة النقابات والأحزاب الداعمة لها في مواصلة التعبئة ومن غير ذلك، فإن الحكومة ماضية في مشروعها. وقال لوران برجيه، الأمين العام للاتحاد الديمقراطي الفرنسي للعمل الذي شارك أمس في المسيرة الباريسية، إن التعبئة «أكبر مما كانت عليه في 19 يناير»، حيث قدرت النقابات عدد المتظاهرين بمليوني شخص، فيما إحصاءات وزارة الداخلية جاءت على ذكر مليون و200 ألف متظاهر. وشاركه في هذا التقدير فيليب مارتينيز، الأمين العام للفيدرالية العام للشغل القريبة من الحزب الشيوعي. وكان مصدر في الشرطة، بناءً على تقديرات المخابرات الداخلية، قد توقع نزول أعداد مماثلة في 240 مدينة من كل الفئات، لما شهده يوم التعبئة السابق قبل 12 يوماً. وكان مرتقباً أن يلتقي القادة النقابيون مساءً لتقرير مصير التعبئة وتحديد يوم جديد للنزول مجدداً إلى الشوارع مع البحث في الحاجة إلى إطلاق حركة إضرابية متواصلة لليّ ذراع الحكومة. وكما في المرة الماضية، فإن وزارة الداخلية حشدت ما لا يقل عن 11 ألف شرطي ودركي لتدارك أية تجاوزات، علماً بأن المناوشات التي حصلت في المرة الفائتة كانت هامشية. والتخوف الدائم مصدره المجموعات المتطرفة مثل المجموعة اليسارية «بلاك بلوك» أو المجموعات اليمينية بالغة التطرف، إضافة إلى انضمام مجموعات من «السترات الصفراء» التي برزت في عامي 2019 و2020. وسارعت ماتيلد بانو، رئيسة المجموعة النيابية لحزب «فرنسا المتمردة» اليساري الراديكالي، إلى تحميل الرئيس إيمانويل ماكرون ووزرائه مسؤولية الاضطرابات في حال حصولها مؤكدة، في تصريحات تلفزيونية: «إنهم من يريدون إحداث فوضى في البلاد». كذلك انتقدت بشدة تصريحات وزير الداخلية جيرالد دارمانان نهاية الأسبوع واصفة إياها بأنها «استفزاز». وكان الأخير قد اتهم الأحزاب السياسية اليسارية بأنها «تبحث فقط عن بث الفوضى في البلاد».
وشكلت التظاهرة الباريسية التجمع الأكبر؛ إذ أفادت نقابة الفيدرالية العامة للشغل عصراً أنها ضمت ما لا يقل عن نصف مليون متظاهر. ولدى وصولها إلى «بولفار مونبارناس» المعروف حصلت بعض المناوشات بين متظاهرين ورجال الأمن الذين لجأوا إلى استخدام الغاز المسل للدموع والقنابل الصوتية. وكان لافتاً منظر كوكبة من قوات الحماية من الشغب التي كانت تحيط بمطعم «لا روتوند» لحمايته وهو المطعم المفضل لـ«ماكرون». وقد دعا إليه المستشار الألماني أولاف شولتس للعشاء الأسبوع الماضي. وحصل تلاسن مع القوى الأمنية التي اتهمت بحماية «مطعم الأغنياء». كذلك أفادت وزارة التربية بأن 1330 مدرسة ثانوية شاركت في يوم التعبئة بأشكال مختلفة. وكما في كل مناسبة من هذا النوع ستبدو الأرقام الرسمية والنقابية متباعدة.
إنها ساعة الحقيقة بالنسبة للرئيس ماكرون الذي نص برنامجه الانتخابي الرئاسي على إصلاح قانون التقاعد، بيد أن كثيرين ومنهم من معسكره كالوزير السابق فرنسوا بايرو، لا يترددون في انتقاد توقيت طرحه في زمن تطغى فيه الأزمة المعيشية وغلاء الأسعار، والتضخم، وتناقص القدرة الشرائية على ما عداها. لكن ماكرون ملزم بكسب معركته مع النقابات لأن تراجعه سيعني ضعفه السياسي وغلبة الشلل على إدارته للسنوات الأربع والنصف المتبقية له في الحكم.


مقالات ذات صلة

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

شؤون إقليمية فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

ندّدت فرنسا باحتجاز البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني ناقلة النفط «نيوفي» التي ترفع عَلَم بنما، في مضيق هرمز الاستراتيجي، وذلك صبيحة الثالث من مايو (أيار)، وفق المعلومات التي أذاعها الأسطول الخامس، التابع لـ«البحرية» الأميركية، وأكدها الادعاء الإيراني. وأعربت آن كلير لوجندر، الناطقة باسم «الخارجية» الفرنسية، في مؤتمرها الصحافي، أمس، أن فرنسا «تعرب عن قلقها العميق لقيام إيران باحتجاز ناقلة نفطية» في مياه الخليج، داعية طهران إلى «الإفراج عن الناقلات المحتجَزة لديها في أسرع وقت».

ميشال أبونجم (باريس)
العالم باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

قالت وزارة الخارجية الفرنسية إنها تأمل في أن يُحدَّد موعد جديد لزيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني بعدما ألغيت بسبب تصريحات لوزير الداخلية الفرنسي حول سياسية الهجرة الإيطالية اعتُبرت «غير مقبولة». وكان من المقرر أن يعقد تاياني اجتماعا مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا مساء اليوم الخميس. وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قد اعتبر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني «عاجزة عن حل مشاكل الهجرة» في بلادها. وكتب تاياني على «تويتر»: «لن أذهب إلى باريس للمشاركة في الاجتماع الذي كان مقررا مع الوزيرة كولونا»، مشيرا إلى أن «إهانات وزير الداخلية جيرالد دارمانان بحق الحكومة وإي

«الشرق الأوسط» (باريس)
طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي»  بالألعاب النارية

طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي» بالألعاب النارية

يستخدم فريق أساليب جديدة بينها الألعاب النارية ومجموعة أصوات لطرد الطيور من مطار أورلي الفرنسي لمنعها من التسبب بمشاكل وأعطال في الطائرات، حسب وكالة الصحافة الفرنسية. وتطلق كولين بليسي وهي تضع خوذة مانعة للضجيج ونظارات واقية وتحمل مسدساً، النار في الهواء، فيصدر صوت صفير ثم فرقعة، مما يؤدي إلى فرار الطيور الجارحة بعيداً عن المدرج. وتوضح "إنها ألعاب نارية. لم تُصنّع بهدف قتل الطيور بل لإحداث ضجيج" وإخافتها. وتعمل بليسي كطاردة للطيور، وهي مهنة غير معروفة كثيراً لكنّها ضرورية في المطارات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

تتجه الأنظار اليوم إلى فرنسا لمعرفة مصير طلب الموافقة على «الاستفتاء بمبادرة مشتركة» الذي تقدمت به مجموعة من نواب اليسار والخضر إلى المجلس الدستوري الذي سيصدر فتواه عصر اليوم. وثمة مخاوف من أن رفضه سيفضي إلى تجمعات ومظاهرات كما حصل لدى رفض طلب مماثل أواسط الشهر الماضي. وتداعت النقابات للتجمع أمام مقر المجلس الواقع وسط العاصمة وقريباً من مبنى الأوبرا نحو الخامسة بعد الظهر «مسلحين» بقرع الطناجر لإسماع رفضهم السير بقانون تعديل نظام التقاعد الجديد. ويتيح تعديل دستوري أُقرّ في العام 2008، في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، طلب إجراء استفتاء صادر عن خمسة أعضاء مجلس النواب والشيوخ.

ميشال أبونجم (باريس)
«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

عناصر أمن أمام محطة للدراجات في باريس اشتعلت فيها النيران خلال تجدد المظاهرات أمس. وأعادت مناسبة «يوم العمال» الزخم للاحتجاجات الرافضة إصلاح نظام التقاعد الذي أقرّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)


2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟