في ظل ظرف عالمي يتسم بالتنافس والاستقطاب «الحاد» بين القوى الدولية الكبرى، ممثلة في الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، وتزامناً مع أزمة اقتصادية أثرت على إمدادات الطاقة والغذاء في جميع دول العالم، جاءت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للهند وأذربيجان لتشير، بحسب خبراء، إلى رغبة القاهرة في إحياء «استراتيجية الاستدارة شرقاً»، والتركيز على تعزيز العلاقات الثنائية مع دول آسيا، لمجابهة التحديات العالمية. يأتي ذلك بموازاة تحركات دبلوماسية ولقاءات متبادلة مع مسؤولين أوروبيين وأميركيين.
الرغبة في تطوير العلاقات مع دول آسيا بدت واضحة خلال زيارة السيسي الأخيرة للهند، التي شهدت اتفاق البلدين على «تعميق التعاون في الصناعات الدفاعية، والعمل على استكشاف مُبادرات جديدة لتكثيف التعاون العسكري»، بحسب بيان مشترك، أكد «الارتقاء بالعلاقات الثنائية لمستوى (الشراكة الاستراتيجية) التي تغطي المجالات السياسية والأمنية والدفاعية والطاقة والاقتصادية».
ويُعد التركيز على المحور الآسيوي «ملمحاً مميزاً» للسياسة الخارجية المصرية في الفترة الأخيرة، بحسب السفير حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي أكد في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن هذا التركيز «لا يعني المساس بالعلاقات المصرية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية». ولفت هريدي إلى أن «الاتجاه نحو آسيا ليس جديداً على الدبلوماسية المصرية، التي دأبت منذ عقود على تنويع علاقاتها الدولية، حيث زار الرئيس الأسبق حسني مبارك الهند عام 2008، وشهد توقيع 18 اتفاقية مشتركة»، معتبراً زيارة السيسي للهند بمثابة «ترسيخ للعلاقات المصرية مع دول آسيا».
ودخلت السياسة الخارجية المصرية مرحلة جديدة بتولي السيسي رئاسة البلاد عام 2014، بحسب تقرير للدكتور محمد كمال، نشره مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، في منتصف عام 2021، والذي أشار إلى «دوائر جديدة» في الدبلوماسية المصرية؛ من بينها التوجه نحو آسيا، حيث زار السيسي كلاً من الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وفيتنام، مرجعاً ذلك إلى «كون آسيا هي المستقبل اقتصادياً وسياسياً».
ويعد الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية، زيارة السيسي للهند وأذربيجان وأرمينيا، بمثابة «إعادة تجديد لاستراتيجية (الاستدارة شرقاً)، وبناء شراكة جديدة مع دول تتمتع مصر بعلاقات تاريخية معها»، مشيراً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «السيسي اتجه في بداية حكمه إلى آسيا، وسافر إلى أكثر من دولة». وأكد أن «تنويع مصادر التحالفات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية في هذا التوقيت بات أمراً مهماً». وقال إن «مصر تريد إتمام اتفاقات استراتيجية وأمنية، وتطرق الأبواب مع دول العالم في مجالات عديدة، قد تكون مزعجة للآخرين».
ورغم أن هذه ليست الزيارة الأولى من جانب السيسي للهند، فإن توقيتها يعطيها «مزيداً من الأهمية»، بحسب السفير محمد العرابي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي قال في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن «الزيارة وإن كانت تنشيطاً لمحاور معروفة في الدبلوماسية المصرية، فإنها تأتي في ظروف دولية تقتضي مزيداً من التكاتف بين الدول الراغبة في تحقيق السلام والتنمية، لا سيما أن العالم يكتوي بنار تنافس حاد بين روسيا وأميركا والصين». وأضاف أنه «من الضروري إيجاد مخرج وسط هذا التناحر الدولي، ومحاولة تأسيس علاقات ثنائية قوية لمجابهة شرها».
وبالفعل، وجه السيسي دعوة، من العاصمة الهندية نيودلهي، إلى «تكاتف الدول النامية لمواجهة التحديات المشتركة والأزمات الدولية، بما في ذلك أزمتا الطاقة والغذاء»، ليؤكد رغبة بلاده في «بناء تحالفات دولية للحد من آثار الأزمة الراهنة».
ومن الهند، توجه السيسي إلى أذربيجان في زيارة ثنائية رسمية تبحث «آفاق تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجانبين، وسبل التعاون والتنسيق بين البلدين على الصعيدين الدولي والإقليمي»، بحسب بيان رئاسة الجمهورية المصرية. ومن المنتظر أن يستكمل السيسي جولته الخارجية بزيارة أرمينيا.
وتعد أذربيجان وأرمينيا «ملعباً لأطراف دولية تتمثل في روسيا وتركيا وإيران»، بحسب فهمي، الذي اعتبر زيارة مصر للدولتين في هذا التوقيت «بمثابة تسجيل حضور القاهرة في مناطق النزاعات الدولية، وتأكيد لمصداقية دورها»، متوقعاً أن «تشهد هذه المنطقة تحركات مصرية نشطة في الفترة المقبلة». فيما يتوقع هريدي أن تشهد زيارة السيسي لأذربيجان بحث أوجه التعاون بين البلدين في مجالات الطاقة والطاقة المتجددة، كون أذربيجان دولة مصدرة للنفط.
وتأتي زيارة السيسي لأذربيجان وأرمينيا بعد إشارات إلى إمكان تطبيع العلاقات مع تركيا، أعقبت لقاء جمع السيسي والرئيس التركي على هامش افتتاح كأس العالم في قطر العام الماضي، بموازاة عروض تقارب إيرانية قوبلت حتى الآن بصمت مصري. وهنا يؤكد العرابي أن «مصر ذات سيادة، تحكم علاقاتها الدولية مصالحها مع هذه الدول»، مؤكداً أن «العلاقات مع إيران وتركيا لها محدداتها الخاصة».
وبموازاة التوجه شرقاً، فإن مصر بدت حريصة على عدم إغفال التوازن في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، فقبل أيام، استقبل الرئيس المصري، نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية إيطاليا أنطونيو تاياني، للبحث في أوجه التعاون في ملفي الطاقة و«أمن المتوسط»، في الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الخارجية الأميركية عن زيارة أنتوني بلينكن للقاهرة الأسبوع المقبل، لبحث ملفات ثنائية وإقليمية، أهمها قضيتا فلسطين وليبيا. ويرى فهمي أن «السياسة الخارجية المصرية رشيدة وتعتمد الندية وإحداث التوازن في العلاقات الدولية»، لكنه في الوقت نفسه، يشير إلى أن «هذه السياسة قد تكون لها تبعات، أو تثير تحفظات الجانب الأميركي الذي سجل حضوره في القاهرة أخيراً بعدة لقاءات، من بينها لقاء جمع السيسي وويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الأسبوع الماضي».
مصر تُحيي استراتيجية «الاستدارة شرقاً» لمجابهة التحديات العالمية
مصر تُحيي استراتيجية «الاستدارة شرقاً» لمجابهة التحديات العالمية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة