هل تنقذنا نصائح نيتشه من الغول التكنولوجي؟

موجهة من « الفيلسوف المجنون» لعقلاء القرن الحادي والعشرين

نيت أندرسون
نيت أندرسون
TT

هل تنقذنا نصائح نيتشه من الغول التكنولوجي؟

نيت أندرسون
نيت أندرسون

ثمّة أسباب كثيرة تدفع القارئ العاديّ للابتعاد عن قراءة أعمال الفيلسوف الألمانيّ الشهير فريدريك نيتشه (1844-1900)، لا سيّما في الجزء الأنجلوساكسونيّ من العالم حيث تأخرت ترجمة أعماله إلى الإنجليزيّة لعقود مديدة بعد غيابه.
فالرّجل كان مفتقداً بشّدة لفضيلة التواضع، وتتسم نصوصه (التي وضعها بالألمانيّة) بكثير من التعقيد اللغوي والفكريّ على نحو يجعل من عبورها رحلة ليست بالهيّنة حتى على الألمان أنفسهم، وتناقضت مواقفه من الفلاسفة والمفكرين الذين سبقوه بين التمجيد النهائيّ إلى اللّعن والتشنيع، وانتقد الألمان واليهود وتولى جلد الضعفاء والمساكين، واختط لنفسه نمط كتابة يعتمد على الشّذرات القصيرة بحيث خرجت أعماله من نطاق النصوص الأكاديميّة المُحكمة والموثقة دون أن تدخل في إطار الثقافة الشعبيّة لأنها لا تقرأ على غرار النصوص المتتابعة كالروايات مثلاً. وحتى قبل سقوطه التدريجيّ المحزن في قبضة الجنون العصابيّ، تبنى مواقف تبشّر بنوع أعلى من البشر، ورفض إدراج مفاهيم قريبة من الوجدان المسيحيّ الغربيّ كالرحمة ونكران الذات في مصادر الأخلاقيّات ما سهّل دمج أفكاره بشكل أو آخر في سياق الأيديولوجيّة النازيّة - رغم أنّه بالطبع لم يكن نازيّاً وكره المتعصبين -، لدرجة أن الفوهرر النازي أدولف هتلر حضر بنفسه جنازة شقيقة نيتشه عند وفاتها عام 1935.

نيتشه

ولذلك فإن الدّعوة للاستفادة من أفكار نيتشه للقرن الحادي والعشرين تبدو مسألة مثيرة للاستغراب إن لم يكن الاستهجان – أقلّه في خارج دوائر تدريس الفلسفة في الجامعات الألمانيّة -. لكن نيت أندرسون، المتخصص بالتكنولوجيات الحديثة، يزعم في كتابه الجديد «عند الطوارئ، اكسر الزّجاج: ما يمكن أن يعلمنا إياه نيتشه عن الحياة السعيدة في عالم غارق بالتكنولوجيا»*، أن هنالك الكثير لنتعلمه في وقتنا الرّاهن من هذا الرّجل العبقري المثير للجدّل، وأن بعضاً من نصائحه ذات صلة لعالمنا الغارق في لجة التغوّل التكنولوجيّ على حياة الأفراد.
أول دروس كتاب أندرسون قد يكون أن كل مفكّر بارز لديه ما يعلمنا، حتى لو كنّا نختلف معه على العموم، وأن التفاعل النقدي مع نصوص المؤلفين دون اتباع كل ما يقولونه يتطلب مهارة ثمينة تقود لا محالة إلى النضج الفكري. وهو يدعونا إلى احتضان نيتشه ليس بالضرورة كمعلّم ومرشد، بل كشريك حوار ومحرّض على النظر نقدياً في المسلمات أيّا كان مصدرها، بما فيها أفكار نيتشه ذاتها، وهو أمر يقول المؤلّف أن الفيلسوف الكئيب كان ليثمنه عالياً.
ينطلق أندرسون في مقاربته نيتشه للقرن الحادي والعشرين من فكرة مركزيّة في فلسفته بأنّ الدّعة والراحة والمتعة والأمان هي طرق ضعيفة وسهلة للحياة، تُفقد الإنسان، في غياب أهداف وغايات أكثر طموحاً، فرص تجربة الفرح الحقيقيّ الذي يأتي من الكفاح الإبداعي في خضمّ السّعي لتحقيق تطلعات أعلى والسمو بمجمل التجربة البشريّة.

وبالطبع فإن الصراع الإبداعيّ هذا ليس مجانيّاً، ويأتي غالباً بالترافق مع الألم والتعب، كما أنّه يتطلّب وقتاً وجهداً وتوجهاً لتبني أفكار قويّة من خلال القراءة والمشاهدة والاستماع للمفكرين والفنانين والأصدقاء الذين لديهم شيء ذي قيمة ومعنى ليقولوه، إلا أن نيتشه يدعونا إلى احتضان ذلك كجزء لا يتجزّأ من تجربة العيش، بدلاً من السعي لتجنّبها.
من هذا الجانب الأكثر إيجابية من فلسفة نيتشه، يقدّم أندرسون محاولة معاصرة تستحق الثناء لتطبيق النظريّ على واقع عالمنا المتشبع بالتكنولوجيات الحديثة، والتي مع إيجابياتها العديدة تتضمن أيضاً نوعاً من سهولة تسحق الأرواح تماماً وفق الصيغة التي حذرنا منها فيلسوفنا العتيد. فمع نموذج الارتباط الدائم بالإنترنت، تشجع التكنولوجيا الرقميّة الجديدة ترفيهاً رخيصاً مستمراً، وتدفع إلى الانفصال عن أجسادنا وعالمنا الماديّ وواقعنا الفعليّ إلى عوالم افتراضيّة، وتنتصر للتحفيز العقلي على النشاط البدني، وتمنح من خلال التحكم الرقمي الكامل القدرة اللحظيّة للوصول إلى كم معلومات غير محدود.
وتطرح كلّ من هذي الجوانب المرتبطة بتبني التكنولوجيّات الحديثة مشاكلها الخاصة. فمثلاً فيما يتعلق بالوصول اللامحدود إلى المعلومات فإن مفكرين قدماء مثل سينيكا اشتكوا من وجود الكثير من الكتب للقراءة، واقترحوا طرقاً لضمان قضاء المرء وقته المحدود في رفقة عدد أقلّ من أفضل الكتب والمؤلفين الممكنين، ولدينا اليوم، بفضل تطبيقات مجانيّة متوفرة بكثافة على كل شاشاتنا الإلكترونيّة، ربط شبه فوري مع كتلة لا نهائيّة من تراكم الإنتاج الأدبي والفني البشري، بالإضافة إلى دفق مستمر من الأخبار ومقاطع الفيديو والتعليقات. ومع ذلك، يقول أندرسون إن أغلبنا لا يصبح باحثاً متعمقاً - فنحن ندع الأعمال الخالدة لشكسبير لمشاهدة الحلقة الأحدث من برامج تلفزيون الواقع الشعبويّة التافهة، وتضعنا كثرة المعلومات تحت ضغط الشعور بالحاجة إلى مواكبة كل الأشياء والاطلاع المحدّث لحظيّاً عليها، ما يمنع التعمّق في أي موضوع أو التخصص في مجال واحد، ناهيك عن أننا عندما نعتاد على مجرد تكرار وجهات نظر الآخرين والتفاعل معها، فإننا توازياً نخنق أصواتنا الذاتيّة وإمكاناتنا الإبداعية ودربتنا على التفكير المستقلّ.
منهج نيتشه لمواجهة هذه الأحمال الزائدة هو في التخلي عن حياة السهولة والتحفيز اللحظيّ المفرط، وأن يكون المرء انتقائياً فيما يختار قراءته والاطلاع عليه - نيتشه قال بأنّه يكتفي بالقراءة لثمانية مؤلفين -، وتجنّب الأمور التي لا تخلق تأثيراً إيجابياً في حياته، وتقبّل تحديات إبداعية تتطلب النّضال والتخلّي عن الراحة في السّعي لتحقيق تجارب عيش أعمق.
لكن لا شك أن هذه التّوجيهات قد تكون على نحو ما غير عمليّة عند محاولة تطبيقها على ما يتعلّق بعاداتنا التكنولوجية الحديثة، إذ سيجد كثيرون صعوبة في التزام حياة ترتكز إلى النضال المستمر وتذوّق المتع البسيطة، وقضاء وقت مكثّف مع العائلة والأصدقاء، وتجنّب المتعة اللحظيّة للأخبار والتحديثات، والاكتفاء بالقراءة البطيئة - وإعادة القراءة - لعدد محدود من المؤلفين. بل إن البعض قد يجادل مثلاً بأنّ الوصول إلى اختيار «المؤلفين الثمانية» يحتاج أصلاً إلى قراءة عشوائيّة واسعة بداية – ولا بدّ أن نيتشه نفسه قرأ لكثيرين قبل أن يستقر على كل من أبيقور، مونتين، غوته، سبينوزا، أفلاطون، روسو، باسكال، شوبنهاور -، لكن المغزى المقصود من وراء قراءة أندرسون لنيتشه هو تبني الانتقائيّة في التعامل مع ما تقدمه لنا التكنولوجيّات، وهذا يعني بالضرورة التخلّي عن التسرّع والاستجابات اللحظيّة وشراهة الاستعراض الشامل لمصلحة التمهّل والتنحي والاختيار والقراءة المتأنيّة العميقة بالعيون واليدين معاً.
كتب آرثر شوبنهاور، الذي كرس نيتشه لقراءته كثيراً من الوقت لا سيّما في شبابه، يوماً في مديح «فن عدم القراءة»، ووجهة نظره أن معظم الكتب الشعبية كانت متخمة بالهُراء، وأن «من يكتب للحمقى يجد دائما جمهوراً كبيراً»، وبما أنّ الحياة قصيرة، فلا بدّ من تجنّب ذلك المحتوى الرديء والاكتفاء بقراءة الكتب الجيّدة. ويبني نيتشه على نظريّة «عدم القراءة» الشوبنهاوريّة تلك، ويحولها إلى مبدأ جذريّ بالانتقائيّة والحرص على تجنّب العشوائيّة والتشعب في كل شيء، لا بشأن الكتب وحدها، بل وحتى البشر الذين ننعم برفقتهم، والأماكن التي نقضي الوقت فيها، حيث كل قبول هو فعل ثقة وتكريم وخيار أخلاقيّ معاً. فإذا كنا سنضع أنفسنا في أيدي كاتب أو روائيّ أو مخرج سينما أو حتى شريك محادثة شخصيّة، وسنمنح هذا الشخص اهتمامنا الكامل لبعض الوقت، ولأننا في النهاية نتشكل من خلال ما نستهلكه خلال أعمارنا القصيرة، فلنستهدف أن تكون التجربة جديرة بالاهتمام من جانب الذائقة الفنيّة والحس القيمي معاً.
يصبح نظام الانتقائيّة النيتشويّ هذا ضرباً من ضروب المقاومة ضدّ نظام تكنولوجي غير إنساني، وسلوكاً ذا بعد سياسيّ وأخلاقيّ في مواجهة تغوّل عمالقة التكنولوجيا على حياة الأفراد. «هناك الكثير الذي لا أريد أن أعرفه» يقول نيتشه، «فالحكمة تضع حدوداً، حتى للمعرفة». كم نحن بحاجة لمثل تلك الشجاعة في مواجهة العالم الجديد.
* Nate Anderson
In Emergency, Break Glass: What Nietzsche Can Teach Us About Joyful Living in a Tech-Saturated World
2022


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«ميدان الثقافة» بوابة تربط بين الماضي والحاضر في جدة التاريخية

يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)
يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)
TT

«ميدان الثقافة» بوابة تربط بين الماضي والحاضر في جدة التاريخية

يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)
يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)

يشكل «ميدان الثقافة» الذي أطلقه «برنامج جدة التاريخية»، التابع لوزارة الثقافة السعودية، بوابةً تربط بين الماضي والحاضر من خلال موقعه المميز الذي عكس تصميمه ووظائفه هذه الثنائية الزمنية ليمثل معلماً حضارياً كبيراً كإحدى الوجهات الثقافية المهمة بالمدينة الساحلية جدة (غرب السعودية).

ويأتي المشروع في إطار جهود إعادة إحياء المنطقة التاريخية، وتعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات الفنية والثقافية، وبما يوفر تجارب ثقافية وفنية ثرية متنوعة، تعزز من تجربة الزوار، وتسهم في جعل المنطقة وجهةً سياحيةً عالميةً، وذلك تماشياً مع «رؤية المملكة 2030».

يعد متحف «تيم لاب» الأول من نوعه ويقام وبشكل دائم في منطقة الشرق الأوسط (واس)

ويقع «ميدان الثقافة» الذي يضم مركز الفنون المسرحية (مسرح وسينما)، ومتحف الفنون الرقمية «تيم لاب بلا حدود» (حاصل على جائزة مكة للتميز في فرع التميز الثقافي)، على ضفاف بحيرة الأربعين، ويطل على منطقة جدة التاريخية.

ويقدم مركز الفنون المسرحية فعاليات ثقافية متنوعة تشمل عروضاً مسرحيةً، ومهرجانات عالمية، ودور سينما، وجلسات تجسد أجواء «المركاز»، إلى جانب مطاعم ومقاهٍ تمثل نقاط تجمع وحوار، أما متحف «تيم لاب بلا حدود» فيُبرز الطابع الحديث للثقافة، الذي يجمع بين الفن والعلم والتكنولوجيا. وفي قلب هذا المشهد الثقافي، يبرز «بيت أمير البحر» التاريخي متوسطاً مركز الفنون المسرحية ومتحف «تيم لاب بلا حدود»، ومطلاً على «شارع حمزة شحاتة» (الشاعر السعودي الراحل)، ليعكس الثراء الثقافي المتأصل في الموقع. وقد قام البرنامج وفي إطار جهوده للحفاظ على تراث المنطقة المعماري والثقافي بترميم «البيت» وإعادة تأهيله. ويتميز «بيت أمير البحر» بتصميمه المعماري الفريد، إذ يأتي على شكل هندسي ثماني، ويتكون من دور واحد، وهو محاط بنوافذ كبيرة على شكل أقواس، وقد استُخدم في الماضي مناراً لإرشاد السفن.

مشروع «إعادة إحياء جدة التاريخية» جعل المنطقة مقصداً للزوار من مختلف أنحاء العالم (واس)

ويجسد مشروع «ميدان الثقافة» الهندسة المعمارية التي تعكس القيم الجوهرية لجدة التاريخية، مع رؤية تجديدية دمجت بين الماضي والمستقبل في تناغم فريد، إذ مزج التصميم بين التراث المعماري الغني والنسيج الحضري المترابط، في استمرارية لهوية المنطقة وثقافتها. وفي الوقت ذاته تماشى التصميم مع فلسفة متحف «تيم لاب» التي تقوم على الانسجام بين الزائر والأعمال الفنية، وهو ما يظهر بوضوح في سطح المبنى المائل نحو المسطحات المحيطة، مما يعزز من فكرة الاندماج والانسجام.

ويشتمل «ميدان الثقافة» على مبنيين رئيسيين، بإجمالي مساحة بناء تبلغ حوالي 26 ألف متر مربع ويمتد مركز الفنون المسرحية والسينما على مساحة 16 ألف متر مربع، ويضم مقر مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ويتكون من مدخل رئيسي (الردهة)، وقاعة مسرح رئيسية بسعة 868 مقعداً، بالإضافة إلى خمس قاعات سينما بسعة 564 مقعداً، وردهة داخلية (غرفة متعددة الأغراض)، وتسع قاعات للجلسات الحوارية، و«سينماتيك»، ومطعم وثلاثة مقاهٍ.

الممثل ويل سميث يوثق زيارته للمنطقة التي تشهد إقبالاً من الزوار على مدار العام (جدة التاريخية)

فيما تبلغ مساحة متحف «تيم لاب بلا حدود» 10 آلاف متر مربع، ويضم قرابة 80 عملاً مستقلاً ومترابطاً، تُجسِد عالماً واحداً بلا حدود. ويجمع المتحف بين الفنون والتكنولوجيا والطبيعة في مساحة إبداعية مبتكرة، ويُشكل إضافة نوعية للمشهد الثقافي في المملكة.

وكان الحفاظ على الصحة العامة وتعزيز الاستدامة البيئية من الأهداف المهمة التي سعى إليها برنامج جدة التاريخية في تصميم وتنفيذ مشروع «ميدان الثقافة»، إذ تم استخدام وحدات تكييف عالية الجودة، مُجهزة بتقنية تُنقي الهواء بنسبة 100 في المائة، بالإضافة إلى تركيب مصاعد تعمل بدون لمس، وسلالم كهربائية مُزودة بتقنية تعقيم بالأشعة فوق البنفسجية، وذلك للحد من انتقال الفيروسات والجراثيم المسببة للأمراض.

ديفيد فيا نجم الكرة الإسباني خلال زيارة سابقة للمنطقة (برنامج جدة التاريخية)

كما اهتم البرنامج بالحفاظ على الموارد المائية من خلال استخدام نظام يعيد تدوير مياه التكثيف الناتجة عن وحدات التبريد لتلبية احتياجات الري، وهو ما يعزز من كفاءة استهلاك الموارد ويساهم في الحفاظ على البيئة.

وجاء مشروع «ميدان الثقافة» ضمن جهود برنامج جدة التاريخية في إعادة إحياء المنطقة، والحفاظ على تراثها المادي وغير المادي، وإثراء تجربة الزوار، ويعد الميدان معلماً حضارياً وبصرياً متميزاً في جدة، بتصميمه الذي راعى الحفاظ على النسيج الحضري في المنطقة، وجمع بين استخدام الهندسة المعمارية المعاصرة في بنائه، والحفاظ على الطابع المعماري التراثي الذي يستلهم من المباني التاريخية في المنطقة، ويأتي ضمن استثمار تاريخ المنطقة وعناصرها الثقافية المميزة وتحويلها إلى روافد اقتصادية، وجعل المنطقة وجهة مميزة على خريطة السياحة العالمية.