«زواج المبدعين»... مغامرة مليئة بالمزالق

بزيع يكتب عن 32 علاقة انتهت غالبيتها إلى مصائر تراجيدية

«زواج المبدعين»... مغامرة مليئة بالمزالق
TT

«زواج المبدعين»... مغامرة مليئة بالمزالق

«زواج المبدعين»... مغامرة مليئة بالمزالق

لخمسين سنة بقي الشاعر شوقي بزيع بعيداً عن مؤسسة الزواج، وإذ دخلها بعد تردد وانتظار طويلين، لا تزال هذه العلاقة الإشكالية التي يعيشها أديب مع شريك يتقاسم معه تفاصيل أيامه مسألة تثير لديه الأسئلة والكثير من الفضول. وهو ما يعترف به في المقدمة المسهبة لكتابه الشيق «زواج المبدعين»، الذي صدر حديثاً عن «دار مسكيلياني للنشر والتوزيع»، إذ يقول: «أنا لا أجافي الحقيقة بشيء إذا قلت، ببالغ التواضع، إن هاجس البحث عن نظائر وأشباه في عالم الكتابة والفن، هو الذي دفعني إلى كتابة هذه السير العاطفية والأسرية لكوكبة متميزة من المبدعين، وصولاً إلى جمعها بين دفتي كتاب».
يشرح الشاعر شوقي بزيع في 300 صفحة ونيف، اثنتين وثلاثين علاقة زوجية لأدباء مشاهير، من مختلف الجنسيات، بقدر ما تختلف حيواتهم نجدها تتشابه في جنوحها إلى التعقيد وبلوغ حافة الصدام، إن لم يكن الجنون والموت. لا بل يلحظ القارئ أن نجاح هذه العلاقات إن حدث صدفة، فكي يؤكد شذوذه عن القاعدة. فليس للشاعر بزيع، بحسب ما يشرح لنا، يد في تشويه هذه الزيجات أو الافتراء عليها. «وإذا تراءى للقارئ أن في خلفية السرد وأسلوب الكتابة ما يشي بتغليب الجانب السلبي والقاتم من الزواج، على ما عداه من وجوه إيجابية، فالواقع أن الأمر لا يتصل بهوى فردي، بل بالمعاينة الموضوعية الدقيقة لما واجهه أغلب المبدعين والمبدعات من مكابدات ومتاعب، في ظل انفصالهم شبه الكلي عن الواقع، وعجزهم الشخصي عن تلبية الشروط المرهقة للزواج».
وإذ يبدأ الكتاب بتجربة الثنائي الشهير الشاعر الفرنسي لويس أراغون والروائية الروسية إلسا تريوليه التي قال فيها «إنها المرأة الخالدة التي أنجبتُها للعالم/ ومنها أولد»، فإن بزيع يرى أن المتخيل الإبداعي لهؤلاء الكتّاب، لا يصح بالضرورة على الواقع. فقد تجلت إلسا في كتابات أراغون «بمثابة واحدة من أساطير الوله والعشق والافتتان بالآخر النادرة». ومع ذلك فعلاقتهما بقيت «عصية على الفهم»، حتى من قبل معاصري الشاعر. «مجنون إلسا» الذي دارت أشعاره حولها، لم تبادله هي ولهه بها في كتاباتها على الأقل، وكأنما أدركت أن التزام المعشوق الصمت «هو الشرط الإلزامي لوضعه في خانة الأسطورة»، وكان لها ما أرادت. فلم يبقَ اسمها من خلال كتاباتها الأدبية، وإنما بفضل أشعار أراغون التي دارت حولها. وهي علاقة لا تشبه في شيء، تلك التي ربطت إلسا أخرى بالكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا. فهذا الأخير ربطته بزوجته قصة «تحمل في داخلها كل خصائص التراجيديا العاطفية الإنسانية». فرغم أن مورافيا هو أحد أكثر كتّاب الغرب إباحية، واتهمه الفاتيكان بالفحش وترويج الرذيلة، غير أنه كان هو المطعون من زوجته الكاتبة المرموقة إلسا مورانته، وظل على مدى خمسة وثلاثين عاماً يطاردها بالرسائل بينما كانت هي في أحضان سواه.
وإذا كانت زيجات الأدباء في الغرب قد حظيت بكتابات وفّرت للشاعر بزيع ما يحتاج إليه من مراجع، تسهل مهمته، فإن الكتابة عن زواج المبدعين العرب أصعب شأناً، إن لقلة الكتابات أو ندرة الاعترافات الشخصية، أو لما يمكن أن تسببه من حرج يجبر على شيء من تحفظ. فبالتأكيد أن الكتابة عن علاقة بابلو نيرودا بماتيلدا أوروتيا الزوجية، أو فيفيان هايوود بـ ت.س. إليوت، أسهل بكثير من الكتابة عن علاقة خالدة سعيد بأدونيس أو عبلة الرويني بالشاعر أمل دنقل. وهو ربما ما يفسّر غلبة الكتابة عن التجارب الغربية مقارنة بالثنائيات الخاصة بالمبدعين العرب. إذ يقتصر الكتاب على 12 تجربة للمبدعين العرب، بينها قصتان من التراث العربي، وهما عن علاقة لبنى بقيس بن ذريح وورد بديك الجن الحمصي.
ومن بين التجارب التي تلفت في الكتاب، العلاقة الزوجية بين الشاعر يوسف الخال والفنانة التشكيلية مها بيرقدار. فهي صفحات ستبقى مرجعاً في المستقبل، بفضل جرأة الكاتب على نشر اعترافات أدلت بها الزوجة مها بيرقدار حول حياتها التي كانت شديدة التوتر بزوجها الشاعر الراحل. تقول: «إن سلوكه اتسم بالقسوة والتعنيف الكلامي، لكنه لم يصل إلى العنف الجسدي إلا مرات قليلة، وبخاصة حين تثبت مرة من خيانته لي، حتى إذا ما فاتحته بهذا الشأن بادر إلى دفعي بقوة، معتبراً أن ما أقوله هو من بنات وساوسي المرضية».
وتتحدث مها وهي الزوجة الثانية للشاعر بعد هيلين، عن مساعدتها المالية له، وصدوده في المقابل عن موهبتها الشعرية والتشكيلية، وعدم تشجيعها، حتى إنه لم يكن يعبأ بذلك. لهذا لم تنشر بيرقدار في حياته سوى مجموعتها الأولى «عشبة الملح»، فيما صدرت مجموعاتها الثلاث الباقية بعد موته. ويرى بزيع أن يوسف الخال في إحدى مقابلاته، يدلي باعترافات تضفي مصداقية على شهادة زوجته حين يقول: «لا أعتقد أن أي امرأة بالذات لعبت دوراً رئيسياً في حياتي، فأنا أحب عِشرة النساء، لكنني لا أحب النساء، لا أحب جنسهن، أتعب وأضجر منهن. بيني وبينهن جدار لا يُخرق، ولا أذكر أنني استسلمت في حياتي لحب امرأة».
الشاعر محمد الماغوط لم يكن أكثر رقة من يوسف الخال، مع زوجته الشاعرة سنية صالح التي لم تأخذ حقها من الشهرة أو الاهتمام النقدي. آمنت بمكانة زوجها الإبداعية، نرى ذلك من تقديمها لأعماله الشعرية والمسرحية فيما هو لم يبادلها الإعجاب، بل قرّعها بعد صدور مجموعتها الثانية «حبر الإعدام» قائلاً: «ألا تشعرين بتأنيب الضمير وأنت تكتبين بمعزل عن قضايا أكثر أهمية وإلحاحاً من عذاب امرأة غير متآلفة مع بيئتها؟» وبانتظار أن تفرج ابنتي سنية، عن سيرة حياة والدتهما التي تركتها في عهدتهما، فإن بزيع يستند إلى ما كتبه شقيق الماغوط، وشقيقة سنية الناقدة خالدة سعيد التي تؤكد تضحيات شقيقتها إلى جانب الماغوط، وتشير إلى أن «سالبين اثنين لا يصنعان زواجاً ناجحاً»، وأن «الحب الذي ربط بين الطرفين كان فيه من العنف بقدر ما فيه من الحنان». لكن هذا الحنان يتبخر حين نقرأ أن عيسى شقيق الماغوط كتب أنه أثناء زيارة له إلى منزل أخيه الأكبر، شهد عراكاً جسدياً بين الطرفين، و«أن ذلك العراك العنيف قد انتهى بكارثة مروعة، تمثلت في إجهاض سنية، التي كانت حاملاً في شهرها التاسع لمولودها المرتقب».
من الزيجات الناجحة تلك التي ربطت نزار قباني ببلقيس الراوي، لكن القدر شاء أمراً آخر، فقضت نحبها بشكل مأساوي تحت ركام الانفجار المروع الذي ضرب السفارة العراقية في بيروت، حيث كانت تعمل لسنوات.
ولعل واحدة من أشهر العلاقات المعاصرة، هي التي ربطت خالدة سعيد بالشاعر أدونيس منذ أكثر من خمسة وستين عاماً، ومع ذلك لا يبدو أن أدونيس من كبار المؤيدين للزواج، لأن «العلاقة الحرة وغير المشروطة هي الصيغة المثلى للارتباط بين شخصين متحابين، وإن مؤسسة الزواج صارت مؤسسة نافلة وينبغي إلغاؤها». هذا لا يمنع خالدة من القول: «أحب أدونيس أكثر من روحي، وهذا يكفي».
يلاحظ أن الأدباء الرجال أشد خوفاً على إبداعهم من شريكاتهم. وهذا ما نلحظه عند محمود درويش الذي فشل في الحفاظ على زواجه مرتين مرة مع رنا قباني والثانية مع الكاتبة والمترجمة المصرية حياة الهيني. لكن الخشية الكبرى عنده كانت من تحمل مسؤولية طفل. فهو «أخطر على الكاتب من الزواج نفسه، لأن بوسع الرجل أن يطلق امرأته متى شاء، ولكن ليس بوسعه التخلص من أطفاله». ووصل الأمر بمحمود درويش إلى أن أكره زوجته الحامل رنا قباني على التخلص من الجنين. ويعلق بزيع: «كان يلحّ على التوضيح بأنه لم يفعل ذلك بتأثير من أنانيته العالية أو بسبب كرهه للأطفال، بل لأنه أوهن من أن يتعايش، ولو في الخيال، مع ما يمكن أن يواجهه طفله المرتقب من احتمالات الألم أو المرض أو الموت المبكر».
هي دراسة حاولت التصدي لعلاقات زوجية شائكة، محيطة بمختلف إشكالياتها وتعقيداتها، دون أن تهمل جوانبها الإيجابية التي تبقى قليلة. والشاعر شوقي بزيع إذ يقوم بهذه المهمة، يعلم جيداً أنها مليئة بالمزالق والمطبات، لا سيما حين يتناول الحياة الشخصية للأزواج المبدعين العرب وحتى الراحلين منهم، حيث يمكن أن تعتبر خرقاً للأخلاق وانتهاكاً لحرمة الموت، خاصة أنها زيجات في أغلبها تراجيدية، توزعت مآلات أصحابها بين الانفصال والقتل والانتحار.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.