إذا كانت ثمة حاجة لتبيان الزلزال السياسي والاستراتيجي الذي أحدثته الحرب الروسية على أوكرانيا، التي أدخلت الحرب إلى قلب القارة الأوروبية، فإن مسارعة دولها لزيادة ميزانياتها العسكرية تكفي للإتيان بالدليل القاطع.
وما أعلنه الرئيس الفرنسي أمس، بمناسبة الكشف عن الخطوط العريضة للميزانية العسكرية لبلاده للأعوام 2024 - 2030 في الكلمة التي ألقاها أمام المسؤولين والقادة العسكريين في قاعدة «مون مارسون» الجوية، الواقعة جنوب غربي البلاد، يكفي بحد ذاته، ذلك أنه كشف أن مشروع «قانون البرمجة العسكرية» للسنوات المشار إليها ينص على رفع الميزانية إلى 413 مليار يورو للسنوات السبع القادمة، ما يشكّل زيادة تصل إلى الثلث عما كانت عليه في القانون السابق.
وتفيد الأرقام بأن الميزانية السنوية المخصصة للقوات المسلحة الفرنسية للأعوام المقبلة تصل إلى 59 مليار يورو مقابل 42 ملياراً سابقاً (2019 - 2025). وفي شرحه لغائية مشروع القانون، قال ماكرون إن الميزانية المذكورة «سوف تمكّننا من تغطية نفقات حاجاتنا العسكرية بحيث نتمكن من تجديد هذه الآلة العسكرية القيّمة التي ستحمي حريتنا وأمننا وازدهارنا فضلاً عن موقعنا في العالم». وحسب ماكرون، فإن الميزانية الجديدة «تعكس الجهود التي تبذلها البلاد لصالح جيوشها.... هذه الجهود ستكون متناسبة مع المخاطر، أي إنها ستكون كبيرة». ورغم اعتباره أن «فرنسا لديها جيوش جاهزة لتحديات القرن وسيكون لديها المزيد»، فإنه سارع إلى التنبيه إلى التحولات الجارية حالياً في العالم، داعياً لأن تكون بلاده «مستعدة (للتعامل) مع عصر جديد من تراكم التهديدات». من هنا، فإن التغيير الذي طرأ على الميزانية للسنوات السبع المقبلة «سيكون لا رجعة فيه»، مستدركاً بأن المطلوب «ليس أن نعمل بالطريقة نفسها (مع الميزانية الجديدة) ولكن بشكل مختلف وأفضل». والتحولات التي يدعو إليها الرئيس الفرنسي يجب أن تستجيب للتغيرات التي يعرفها العالم وللحروب التي قد تنشأ، وهي حروب مختلفة عما عُرف سابقاً.
بعد أسابيع قليلة على بدء العملية العسكرية الروسية في 24 فبراير (شباط) الماضي، عدّ جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، أن ما يحصل شرق القارة الأوروبية هو «صك ولادة أوروبا الجيوسياسية» الأمر الذي يفترض به أن يدفع الأوروبيين إلى «تعزيز قدراتهم الردعية من أجل منع نشوب الحروب».
وليس سراً أن الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تدعو دوماً الشركاء الأوروبيين في الحلف الأطلسي إلى رفع ميزانياتهم الدفاعية، لتصل إلى نسبة 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام. وكانت غالبية دول الاتحاد الأوروبي تحت هذه النسبة. ومؤخراً، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أن النسبة المذكورة يجب، من الآن فصاعداً، أن تكون «نسبة الحد الأدنى» وأن الطموح الأوروبي يجب أن يتخطاها. وبالفعل، فإن الصدمة الكهربائية للحرب في أوكرانيا أحدثت تغيراً على الصعيد الأوروبي. ألمانيا قررت العام الماضي تخصيص 100 مليار يورو لتحديث جيشها وسد النقص الذي يعاني منه، الأمر الذي سيمكّنها من بلوغ نسبة 2 في المائة. كذلك، فإن الدنمارك قررت تخصيص 940 مليون يورو إضافية لقواتها العسكرية للعامين 2022 و2023، فيما السويد رفعت تعمل من خلال ميزانيتها الجديدة أي بلوغ السقف المطلوب أطلسياً. وقررت بولندا التي تعد من الأشد انخراطاً في الدعوة لدعم أوكرانيا عسكرياً وبكل أنواع الأسلحة، أن ترتقي بميزانيتها العسكرية إلى 3 في المائة خلال العام الجاري مقابل 2.2 للعام المنقضي. وما يصح على الدول المذكورة يصح بنسب مختلفة على الدول الأوروبية الأخرى مثل بلجيكا ورومانيا وإسبانيا وإيطاليا...
وتريد الرئاسة الفرنسية أن يتم إقرار مشروع «قانون البرمجة العسكرية» قبل الصيف المقبل ولذا ستعمد الحكومة إلى نقل مشروع القانون إلى البرلمان في شهر مارس. وكان لافتاً في العرض، الذي قدمه ماكرون، وفيما صدر عن أوساط الإليزيه، أن باريس تريد التركيز على الآلة الدفاعية التي تضمن سيادتها والمتمثلة بقدراتها النووية. وحرصت هذه الأوساط على التشديد على أن «فرنسا ليست أوكرانيا»، إذ إنها إحدى القوى النووية الخمس «الرسمية» وهي التابعة للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. كذلك، فإنها عضو في الحلف الأطلسي منذ إنشائه، والحال نفسها بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
وفي تقديمه لـ«الرؤية الاستراتيجية الوطنية» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، شدد ماكرون على أن فرنسا «حريصة بالدرجة الأولى على سيادتها وعلى أن تُحترم كقوة تتمتع بالسلاح النووي، ومحرك الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، وحليف مثالي في الفضاء الأطلسي - الأوروبي، وشريك يتمتع بالمصداقية والثقة».
ولذا، فإن «قانون البرمجة العسكرية» يُفترض به أن يكون الاستجابة للرؤية الاستراتيجية. وبالتوازي، فإن باريس التي تعمل على تحديث آلتها العسكرية وتطويرها للاستجابة للتحديات الحالية والقادمة، تعمل أيضاً على بناء دفاع أوروبي مندمج، وهو ما يدعو إليه ماكرون منذ وصوله إلى قصر الإليزيه في العام 2017.
وقال ماكرون إنه يتعين على فرنسا أن «تتوافر لها قوات قادرة على حماية سيادتها وأن تكون متمكنة من توجيه ضربة مخلب لمن يجرؤ على استهداف مصالحنا»، خصوصاً في منطقة «آسيا - الهادئ» في إشارة إلى الصين التي تعتملها رغبات توسعية في المنطقة.
بناءً على ما سبق، ستواصل فرنسا، وفق ماكرون، تحديث ردعها النووي الذي ستكرس له 5.6 مليار يورو في العام الجاري. كذلك ستركز على تعزيز قدراتها السيبرانية التي تدخل في إطار ما تسمى «الحرب الهجينة» بحيث تحتل موقعاً متقدماً على هذا الصعيد. يضاف إلى ذلك زيادة ميزانية الاستخبارات العسكرية بنسبة 60 في المائة فيما ستتضاعف ميزانية «إدارة المخابرات وأمن الدفاع». كذلك يلحظ مشروع الميزانية تخصيص مبالغ إضافية لحماية الممتلكات الفرنسية البحرية وأهمها في المحيطين الهندي والهادئ. بيد أن هذه الاهتمامات لا تحرف النظر عن الحاجة إلى التأقلم من أجل التعامل مع ما تسمى في اللغة العسكرية «النزاعات ما بين الدول» كالحرب الدائرة في أوكرانيا. لكنَّ الخبراء العسكريين يرون أن هذه الحرب «سلطت الضوء على مكامن الضعف في المنظومة العسكرية الفرنسية وما يصح على فرنسا يصح أيضاً على الدول الأوروبية الأخرى. ومن ذلك ضعف قطاع المسيّرات الذي أثبت قدراته في الحرب الأوكرانية. فضلاً عن ذلك، تريد فرنسا الاستثمار في الذكاء الصناعي وما له من تطبيقات عسكرية. وأشار ماكرون إلى أن خطته تسعى لتعزيز قدرات الدفاع الجوي بنسبة 50 في المائة.
تبقى هناك مسألتان شدد عليهما ماكرون: الأولى، تطوير ما سماه «اقتصاد الحرب»، مستهدفاً بذلك الصناعات الدفاعية، التي يتعين عليها أن تكون قادرة على تسريع الإنتاج للاستجابة لحاجة القوات المسلحة المختلفة أو لشركاء فرنسا؛ والأخرى، عزم الرئيس الفرنسي، الذي هو القائد الأعلى للقوات الفرنسية والمخوّل الضغط على الزر النووي، الارتقاء بقوة الاحتياط لتصل إلى 40 ألف فرد.
فرنسا ترفع ميزانيتها العسكرية للسنوات السبع المقبلة استجابةً للتحديات
ماكرون: علينا الاستعداد للتعامل مع عصر جديد من تراكم التهديدات
فرنسا ترفع ميزانيتها العسكرية للسنوات السبع المقبلة استجابةً للتحديات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة