رئيس «دافوس» لـ«الشرق الأوسط»: انعدام الأمن الغذائي تضاعف منذ 2019

دعا إلى انتقال «عادل» للطاقة وعبّر عن «تفاؤل حذر» حيال العلاقات الأميركية - الصينية

رئيس «دافوس» بورغه برنده (أرشيفية)
رئيس «دافوس» بورغه برنده (أرشيفية)
TT

رئيس «دافوس» لـ«الشرق الأوسط»: انعدام الأمن الغذائي تضاعف منذ 2019

رئيس «دافوس» بورغه برنده (أرشيفية)
رئيس «دافوس» بورغه برنده (أرشيفية)

يجتمع قادة العالم في دافوس هذا العام، في ظل ظروف اقتصادية وسياسية هي الأعقد منذ عقود. ورغم إقبال نخبة العالم على المنتدى الاقتصادي العالمي، يتساءل البعض عن قدرته على الاستمرار في ظل تراجع العولمة وتفاقم التصدعات الجيوسياسية.
ويقر رئيس «دافوس»، بورغه برنده، بحدة التهديدات التي تواجه الاقتصاد العالمي، إلا أنه يعتبرها دليلا جديدا على أهمية المنصة التي يوفرها المنتدى. ورأى برنده، في حوار مع «الشرق الأوسط»، أن التعاون الدولي هو السبيل الأوحد لمواجهة تباطؤ النمو الاقتصادي، وتخفيف آثار التغير المناخي، وتحقيق انتقال عالمي للطاقة عادل ومستدام.
إلى ذلك، حذّر وزير خارجية النرويج السابق، من الارتفاع السريع في مستويات انعدام الأمن الغذائي، وقال إن العالم بحاجة إلى انتقال طاقي «عادل»، معتبرا أن منطقة الخليج تزخر بإمكانات هائلة قد تضعها في قلب هذا التحول.

استبعاد روسيا

للعام الثاني على التوالي، استبعد المنتدى الاقتصادي العالمي روسيا، وتحفّظ عن توجيه دعوات لممثليها من القطاعين العام والخاص. وبدا برنده واثقا من القرار، مشيرا إلى استمرار حرب روسيا في أوكرانيا. وقال: «منذ عام تقريبا، وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، أصدر المنتدى الاقتصادي العالمي بيانا قال فيه إن (جوهر منظمتنا هو إيمانها بالاحترام والحوار وجهود الشراكة والتعاون. لذلك، ندين بشدة العدوان الروسي على أوكرانيا، والهجمات والفظائع). كما أوضحنا أننا لا نتعامل مع أي فرد أو كيانات خاضعة للعقوبات». وأضاف رئيس «دافوس»: «للأسف، تواصل روسيا حربها في أوكرانيا، لذلك نحافظ على سياستنا».
وفيما تغيب موسكو عن التجمع الاقتصادي الأكبر، تشارك كييف بوفد رفيع، كما يوجّه الرئيس فولوديمير زيلينسكي وزوجته أولينا زيلينسكا كلمتين منفصلتين للمشاركين. ولفت برنده في هذا الصدد إلى الدعم الإنساني الذي يقدمه المنتدى لأوكرانيا. وأوضح: «نواصل المساعدة في حشد شركاء الأعمال لدعم الجهود الإنسانية. على سبيل المثال، عمل فريق الطوارئ اللوجيستية (LET) الذي أطلقه المنتدى الاقتصادي العالمي - وهو تحالف من أربع شركات لوجيستية عالمية رائدة هي Agility، وA.P. Moller-Maersk، و DP World، وUPS، مع وكالات الأمم المتحدة في عام 2022 لنقل إمدادات أساسية إلى البلاد».

مرحلة حرجة

دافع برنده عن أهمية المنتدى الذي يرأسه، والذي استقبل هذا العام قرابة 2700 مشارك، بينهم قادة دول ووزراء مالية ورواد أعمال. وقال: «ندخل عام 2023 في مرحلة حرجة، حيث تحتاج أزمات المناخ والغذاء والصحة والأزمة الاقتصادية إلى إجراءات منسقة. كما يشير تقريرنا حول المخاطر العالمية لعام 2023، إلى أن هذه الأزمات المترابطة تهدد بتأجيج الانقسامات، ما قد يتسبب في تقويض تنسيق السياسات (بين الدول)». وتابع: «اليوم، يجب على الحكومات والشركات والمجتمع المدني أن توحد صفوفها. وكما تلتقي الأزمات، ينبغي أن تتقارب الحلول».

حواجز أسمنتية في شارع برومينيد خلال انعقاد المنتدى الاقتصادي في دافوس (رويترز)

لهذه الأسباب، يرى برنده أن الدور الذي يلعبه المنتدى «أهم من أي وقت مضى». وأوضح: «يلعب المنتدى الاقتصادي العالمي، وهو المنظمة الدولية للتعاون بين القطاعين العام والخاص، دورا حاسما»، مؤكدا أنه لا يزال «مقتنعا بأن دورنا وقيمنا التوجيهية أكثر أهمية من أي وقت مضى». وأضاف «يوفر اجتماعنا السنوي فرصة مثالية للقادة من جميع أنحاء العالم للتركيز على إيجاد الحلول وتسريعها. موضوع اجتماعنا السنوي هذا العام هو (التعاون في عالم منقسم). سيقوم اجتماعنا بتقييم هذه الأزمات، بما يشمل آثارها وأسبابها والتفاعل فيما بينها، ويتطلع إلى رسم مسار مشترك نحو مستقبل مشترك أكثر استدامة ومرونة».

ارتفاع مستويات الفقر

حذّر برنده من ارتفاع مستويات الفقر، ودعا إلى تعزيز الجهود لتحقيق نمو شامل ومستدام. واستند رئيس دافوس إلى معطيات أممية تشير إلى ارتفاع عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد إلى أكثر من الضعف منذ عام 2019، وذلك وفقا لبرنامج الأغذية العالمي. فيما حذّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن ارتفاع تكاليف المعيشة يدفع عشرات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم إلى الفقر.
وأكد برنامج الأغذية العالمي أن عام 2022 كان عاما من الجوع غير المسبوق، وقال إن عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد ارتفع من 135 مليوناً إلى 345 مليوناً منذ عام 2019.
في الوقت نفسه، أشار برنده إلى أن «الاقتصاد العالمي يواجه اضطرابات مهمة، إذ من المتوقع أن يتباطأ النمو إلى 2.7 في المائة هذا العام، وفقاً لصندوق النقد الدولي. وهذا أمر مقلق للغاية». وقال: «نحن بحاجة إلى العمل معا لتقديم أجندة نمو شاملة ومستدامة. ولطالما كان هذا الموضوع محوريا في مهمة المنتدى الاقتصادي العالمي لأكثر من 50 عاما، حيث دافعنا عن رأسمالية أصحاب المصلحة منذ عام 1971، والتي تقوم على تدعو أصحاب الأعمال إلى مراعاة مصالح جميع الفئات في المجتمع».

تفاؤل حذر

حذّر تقرير المخاطر الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي من تأثير الخلافات الجيوسياسية على الاقتصاد العالمي وبيئة الأعمال. بيد أن استئناف المحادثات رفيعة المستوى بين واشنطن وبكين يبعث ببعض الأمل.
وقال برنده في هذا السياق إنه «واقعي» بشأن المشهد الجيوسياسي الحالي، ولكنه «متفائل بحذر». وأوضح: «في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، التقى الرئيسان شي جينبينغ وجو بايدن في بالي، حيث تحدثا عن الحاجة إلى تجنب الصراع وضرورة عمل بلديهما معا لمواجهة التحديات العالمية، مثل تغير المناخ». وتابع أنه «بعد فترة وجيزة من هذه القمة، استؤنفت محادثات المناخ الرسمية بين مبعوثي الولايات المتحدة والصين للمناخ جون كيري وشي جينهوا، بعد أن كانت قد توقفت في وقت سابق من العام الماضي».
واعتبر برنده هذا التطور «مشجعا، لأن تحقيق عالم أكثر مرونة يتطلب معالجة التحديات العالمية. يجب أن تكون هناك إرادة لدى (كل من واشنطن وبكين) لبناء علاقة رابحة للجانبين. من مصلحة الصين والولايات المتحدة والعالم أن يحدث ذلك».

تغير المناخ

في خضمّ الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم وارتفاع أسعار الطاقة، يخشى البعض من تراجع جهود مكافحة المناخ. وقال برنده إنه «من المهم للغاية أن نظل مركزين على أزمة المناخ. كان العام الماضي من بين الأكثر دفئا على الإطلاق، وشهد أحداثا مناخية قاسية على مستوى العالم، من الفيضانات في باكستان والحرائق في أوروبا وذوبان الصفائح الجليدية في القطبين». وتابع: «يجب أن نضع الصناعات الرئيسية، خاصة تلك المتسببة في أعلى المستويات من الانبعاثات، على طريق الحياد الكربوني».
وذكر برنده أن المنتدى أطلق عام 2021 تحالفا لتخفيض الانبعاثات الكربونية بالشراكة مع وزارة الخارجية الأميركية، وهو يشمل اليوم 65 شركة رائدة بقيمة سوقية إجمالية تقارب 8 تريليونات دولار. وقال: «خلال (كوب 27)، التزم أعضاء التحالف بتخصيص 12 مليار دولار من ميزانية التزامات الشراء لعام 2030 للتقنيات الخضراء».
واستدرك: «لكن لا يزال هناك الكثير للقيام به. سيكون العمل المناخي موضوعا رئيسيا لاجتماعنا السنوي، حيث إن التعاون العالمي المنسق هو السبيل الوحيد لمعالجة هذه الأزمة غير المسبوقة»، معتبرا تغيّر المناخ «قضية حرجة في الشرق الأوسط، حيث ننتقل من كوب 27 في مصر العام الماضي، إلى كوب 28 في الإمارات في وقت لاحق من هذا العام».

أزمة الطاقة

قال رئيس منتدى دافوس إن العالم يواجه أزمة طاقة حقيقية، تتطلب تحولا عادلا، ويأخذ بعين الاعتبار مكافحة تغير المناخ. وأوضح أن العالم يواجه اليوم «ما أطلقت عليه وكالة الطاقة الدولية (أول أزمة طاقة عالمية حقيقية)، مع ارتفاع الأسعار حول العالم. في الوقت ذاته، هناك حاجة ملحة لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ، واعتماد تغييرات عاجلة في طريقة إنتاجنا للطاقة واستهلاكها».
وشدد برنده على أهمية «ضمان أن يكون انتقال الطاقة عادلاً، وبتكلفة مقبولة، وأن لا يترك الناس أو البلدان وراء الركب. سيكون العمل الشامل والتفكير المنهجي حول الطاقة أمرا حاسما، إذا أردنا بناء اقتصاد عالمي أقوى وأكثر استدامة وشمولية يناسب الجميع». وتابع: «كما ذكر تقريرنا حول (تأمين انتقال الطاقة)، سيكون التعاون بين أصحاب المصلحة، والحوار المفتوح، وتنسيق السياسات السبيل الوحيد لتحقيق ذلك».

نمو وإصلاحات

في الوقت الذي يتوقع تراجع النمو العالمي، قدّمت منطقة الخليج، بقيادة السعودية، مؤشرات على قوة اقتصاداتها في وجه التحديات الخارجية. وقال برنده إن السعودية «شهدت معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي تجاوز 8 في المائة العام الماضي، وفقا للبنك الدولي»، معتبرا أن ذلك «يرجع إلى حد كبير إلى أسواق الطاقة التي كانت قوية بالنسبة للمنتجين».
وتابع: «أوضحت الحكومة السعودية، من خلال إصلاحاتها ضمن (رؤية 2030)، أنها ملتزمة باتخاذ خطوات نحو تنويع اقتصادها، بل تطمح لتوليد 50 في المائة من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030».
وبالنظر إلى ارتفاع درجة حرارة منطقة الخليج بمعدل ضعفي المتوسط العالمي، فإن «اتباع سياسات تعمل على تعزيز التحول الذكي للطاقة والعمل على التخفيف من تغير المناخ يمكن أن يساعد في تخفيف تكاليف التكيف في المستقبل»، وفق برنده. وأضاف «الأهم من ذلك، يمكن أن تقدم دول الخليج وحدات لتوليد الطاقة المتجددة، وخاصة منها الطاقة الشمسية، من بين الأقل تكلفة في العالم، ما قد يمكن المنطقة من أن تصبح في قلب الانتقال العالمي للطاقة. هناك إمكانات هائلة».
ولدعم هذه الجهود، لفت برنده إلى أن المنتدى الذي يرأسه يعقد تحالفا من قادة الأعمال، هو «قادة من الاستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يعمل على تحديد الطرق الفعالة لإزالة الكربون، وتقليص الفجوة مع المناطق الأخرى فيما يتعلق بممارسات استدامة الشركات».


مقالات ذات صلة

وزير الخارجية السعودي يبحث تعزيز التعاون مع رئيس «دافوس»

الخليج وزير الخارجية يستقبل مؤسس ورئيس المنتدى الاقتصادي العالمي (الشرق الأوسط)

وزير الخارجية السعودي يبحث تعزيز التعاون مع رئيس «دافوس»

 استقبل الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي، في مقر الوزارة بالرياض، الاثنين، مؤسس ورئيس المنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» كلاوس شواب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد 
جانب من انطلاق فعاليات المنتدى العالمي الاقتصادي في الرياض أمس (واس)

مشاركة دولية واسعة في «دافوس الرياض»

انطلقت في العاصمة السعودية الرياض، أمس (الأحد)، أعمال الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي، برعاية الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، وبمشاركة دولية واسعة.

هلا صغبيني ( الرياض) مساعد الزياني ( الرياض )
الخليج ولي العهد السعودي مستقبلاً أمير الكويت اليوم في الرياض (واس)

محمد بن سلمان يستعرض التطورات وتعزيز العلاقات مع مشعل الأحمد والسوداني

التقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع أمير الكويت ورئيس الوزراء العراقي كل على حدة وذلك على هامش أعمال المنتدى الاقتصادي المنعقد في الرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد مشاركون في حلقة نقاش جانبية خلال الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض في 28 أبريل 2024 (أ.ف.ب)

حزمة مشاريع عراقية جاهزة للتنفيذ تعرض خلال المنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض

قال مصدر حكومي مطّلع إن العراق سيقدم خلال المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في الرياض حزمة من المشاريع الجاهزة للتنفيذ أمام كبريات الشركات المشاركة في المنتدى.

حمزة مصطفى (بغداد)
الاقتصاد وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي ورئيس المنتدى الاقتصادي العالمي وعدد من المعنين بالتحضير للمنتدى (صفحة وزارة الاقتصاد والتخطيط على «إكس»)

تحضيرات اجتماع منتدى الاقتصاد العالمي في الرياض بين الإبراهيم وبرينده

ناقش وزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم مع رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي بورغي برينده، التحضيرات الجارية للاجتماع الخاص بالمنتدى الذي سيُعقد في المملكة في…

«الشرق الأوسط» (الرياض)

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)

يمثل الصعود العسكري للصين، وبخاصة برنامج تحديث ترسانتها النووية، هاجساً قوياً لدى دوائر صناعة القرار والتحليل السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التقارب المزداد بين بكين، وموسكو التي تلوح بمواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب على خلفية الحرب التي تخوضها حالياً في أوكرانيا.

وفي تحليل نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية، يتناول ستيفن سيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة براندواين العامة بولاية بنسلفانيا الأميركية، ولورانس كورب ضابط البحرية السابق والباحث في شؤون الأمن القومي في كثير من مراكز الأبحاث والجامعات الأميركية، مخاطر التحالف المحتمل للصين وروسيا على الولايات المتحدة وحلفائها.

ويرى الخبراء أن تنفيذ الصين لبرنامجها الطموح لتحديث الأسلحة النووية من شأنه أن يؤدي إلى ظهور عالم يضم 3 قوى نووية عظمى بحلول منتصف ثلاثينات القرن الحالي؛ وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين. في الوقت نفسه، تعزز القوة النووية الصينية المحتملة حجج المعسكر الداعي إلى تحديث الترسانة النووية الأميركية بأكملها.

وأشار أحدث تقرير للجنة الكونغرس المعنية بتقييم الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة والصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إلى ضرورة تغيير استراتيجية الردع الأميركية للتعامل مع بيئة التهديدات النووية خلال الفترة من 2027 إلى 2035. وبحسب اللجنة، فإن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والقيم التي يستند إليها يواجه خطر نظام الحكم المستبد في الصين وروسيا. كما أن خطر نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا يزداد، وينطوي على احتمال نشوب حرب نووية.

ولمواجهة هذه التحديات الأمنية، أوصت اللجنة الأميركية ببرنامج طموح لتحديث الترسانة النووية والتقليدية الأميركية، مع قدرات فضائية أكثر مرونة للقيام بعمليات عسكرية دفاعية وهجومية، وتوسيع قاعدة الصناعات العسكرية الأميركية وتحسين البنية التحتية النووية. علاوة على ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين تفوقها التكنولوجي، وبخاصة في التقنيات العسكرية والأمنية الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتحليل البيانات الكبيرة، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

ولم يقترح تقرير اللجنة أرقاماً دقيقة للأسلحة التي تحتاجها الولايات المتحدة ولا أنواعها، لمواجهة صعود الصين قوة نووية منافسة وتحديث الترسانة النووية الروسية. ورغم ذلك، فإن التكلفة المرتبطة بتحديث القوة النووية الأميركية وبنيتها التحتية، بما في ذلك القيادة النووية وأنظمة الاتصالات والسيطرة والدعم السيبراني والفضائي وأنظمة إطلاق الأسلحة النووية وتحسين الدفاع الجوي والصاروخي للولايات المتحدة، يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة في الميزانية العامة للولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، فالأمر الأكثر أهمية هو قضية الاستراتيجية الأميركية والفهم الأميركي للاستراتيجية العسكرية الصينية والروسية والعكس أيضاً، بما في ذلك الردع النووي أو احتمالات استخدامه الذي يظهر في الخلفية بصورة مثيرة للقلق.

في الوقت نفسه، يرى كل من سيمبالا صاحب كثير من الكتب والمقالات حول قضايا الأمن الدولي، وكورب الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، أنه من المهم تحديد مدى تنسيق التخطيط العسكري الاستراتيجي الروسي والصيني فيما يتعلق بالردع النووي والبدء باستخدام الأسلحة النووية أو القيام بالضربة الأولى. وقد أظهر الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين، تقارباً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، في حين تجري الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة بصورة منتظمة. ومع ذلك فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك شفافية كاملة بين موسكو وبكين بشأن قواتهما النووية أو خططهما الحربية. فالقيادة الروسية والصينية تتفقان على رفض ما تعدّانه هيمنة أميركية، لكن تأثير هذا الرفض المشترك على مستقبل التخطيط العسكري لهما ما زال غامضاً.

ويمكن أن يوفر الحد من التسلح منتدى لزيادة التشاور بين الصين وروسيا، بالإضافة إلى توقعاتهما بشأن الولايات المتحدة. على سبيل المثال، حتى لو زادت الصين ترسانتها النووية الاستراتيجية إلى 1500 رأس حربي موجودة على 700 أو أقل من منصات الإطلاق العابرة للقارات، سيظل الجيش الصيني ضمن حدود معاهدة «ستارت» الدولية للتسلح النووي التي تلتزم بها الولايات المتحدة وروسيا حالياً. في الوقت نفسه، يتشكك البعض في مدى استعداد الصين للمشاركة في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، حيث كانت هذه المحادثات تجري في الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا فقط. ولكي تنضم الصين إلى هذه المحادثات عليها القبول بدرجة معينة من الشفافية التي لم تسمح بها من قبل بشأن ترسانتها النووية.

وحاول الخبيران الاستراتيجيان سيمبالا وكورب في تحليلهما وضع معايير تشكيل نظام عالمي ذي 3 قوى عظمى نووية، من خلال وضع تصور مستقبلي لنشر القوات النووية الاستراتيجية الأميركية والروسية والصينية، مع نشر كل منها أسلحتها النووية عبر مجموعة متنوعة من منصات الإطلاق البرية والبحرية والجوية. ويظهر التباين الحتمي بين الدول الثلاث بسبب الاختلاف الشديد بين الإعدادات الجيوستراتيجية والأجندات السياسة للقوى الثلاث. كما أن خطط تحديث القوة النووية للدول الثلاث ما زالت رهن الإعداد. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا ستواصلان خططهما لتحديث صواريخهما الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة بأجيال أحدث من منصات الإطلاق في كل فئة، في حين يظل الغموض يحيط بخطط الصين للتحديث.

ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك ترسانة نووية تتفوق بشدة على ترسانتي روسيا والصين، فإن هذا التفوق يتآكل بشدة عند جمع الترسانتين الروسية والصينية معاً. فالولايات المتحدة تمتلك حالياً 3708 رؤوس نووية استراتيجية، في حين تمتلك روسيا 2822 رأساً، والصين 440 رأساً. علاوة على ذلك، فالدول الثلاث تقوم بتحديث ترساناتها النووية، في حين يمكن أن يصل حجم ترسانة الأسلحة النووية الاستراتيجية الصينية إلى 1000 سلاح بحلول 2030.

ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إلى أي مدى ستفقد الولايات المتحدة تفوقها إذا واجهت هجوماً مشتركاً محتملاً من جانب روسيا والصين مقارنة بتفوقها في حال التعامل مع كل دولة منهما على حدة؟ ولا توجد إجابة فورية واضحة عن هذا السؤال، ولكنه يثير قضايا سياسية واستراتيجية مهمة.

على سبيل المثال، ما الذي يدفع الصين للانضمام إلى الضربة النووية الروسية الأولى ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟ ولا بد أن نتخيل سيناريو متطرفاً، حيث تتحول الأزمات المتزامنة في أوروبا وآسيا إلى أزمات حادة، فتتحول الحرب الروسية - الأوكرانية إلى مواجهة بين روسيا وحلف «الناتو»، في الوقت الذي تتحرك فيه الصين للاستيلاء على تايوان، مع تصدي الولايات المتحدة لمثل هذه المحاولة.

وحتى في هذه الحالة المتطرفة، لا شك أن الصين تفضل تسوية الأمور مع تايوان بشروطها الخاصة وباستخدام القوات التقليدية. كما أنها لن تستفيد من الاشتراك في حرب بوتين النووية مع «الناتو». بل على العكس من ذلك، أشارت الصين حتى الآن بوضوح تام إلى روسيا بأن القيادة الصينية تعارض أي استخدام نووي أولاً في أوكرانيا أو ضد حلف شمال الأطلسي. والواقع أن العلاقات الاقتصادية الصينية مع الولايات المتحدة وأوروبا واسعة النطاق.

وليس لدى الصين أي خطة لتحويل الاقتصادات الغربية إلى أنقاض. فضلاً عن ذلك، فإن الرد النووي للولايات المتحدة و«الناتو» على الضربة الروسية الأولى يمكن أن يشكل مخاطر فورية على سلامة وأمن الصين.

وإذا كان مخططو الاستراتيجية الأميركية يستبعدون اشتراك روسيا والصين في توجيه ضربة نووية أولى إلى الولايات المتحدة، فإن حجم القوة المشتركة للدولتين قد يوفر قدراً من القوة التفاوضية في مواجهة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة.

وربما تدعم الصين وروسيا صورة كل منهما للأخرى بوصفها دولة نووية آمنة في مواجهة الضغوط الأميركية أو حلفائها لصالح تايوان أو أوكرانيا. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن توفر «الفجوة» بين أعداد الأسلحة النووية غير الاستراتيجية أو التكتيكية التي تحتفظ بها روسيا والصين والموجودة في المسرح المباشر للعمليات العسكرية، مقارنة بتلك المتاحة للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، عنصر ردع ضد أي تصعيد تقليدي من جانب الولايات المتحدة ضد أي من الدولتين.

أخيراً، يضيف ظهور الصين قوة نووية عظمى تعقيداً إلى التحدي المتمثل في إدارة الاستقرار الاستراتيجي النووي. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع تطوير سياسات واستراتيجيات إبداعية لتحقيق استقرار الردع، والحد من الأسلحة النووية، ودعم نظام منع الانتشار، وتجنب الحرب النووية. ولا يمكن فهم الردع النووي للصين بمعزل عن تحديث قوتها التقليدية ورغبتها في التصدي للنظام الدولي القائم على القواعد التي تفضلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في آسيا. في الوقت نفسه، فإن التحالف العسكري والأمني بين الصين وروسيا مؤقت، وليس وجودياً. فالتوافق بين الأهداف العالمية لكل من الصين وروسيا ليس كاملاً، لكن هذا التحالف يظل تهديداً خطيراً للهيمنة الأميركية والغربية على النظام العالمي.