جلعاد النجار والبعد الاستعماري للصهيونية

نقده لإسرائيل ينطلق من القلق على وضع اليهود

جلعاد النجار... أحد أبرز دارسي الأديان الإبراهيمية في أميركا
جلعاد النجار... أحد أبرز دارسي الأديان الإبراهيمية في أميركا
TT

جلعاد النجار والبعد الاستعماري للصهيونية

جلعاد النجار... أحد أبرز دارسي الأديان الإبراهيمية في أميركا
جلعاد النجار... أحد أبرز دارسي الأديان الإبراهيمية في أميركا

هو بالإنجليزية Gil Anedjar، ومعرّباً «غل أو جل أنيجار»، لكن أحد دارسي الجماعات اليهودية أخبرني أنه يهودي مغربي واسمه الأصلي «جلعاد النجار»، وتضيف بعض المصادر أنه فرنسي أيضاً. يهوديته الإثنية - وهي غير الانتماء الديني - محل اهتمامه ومنطلق دراساته هو، وربما من أسباب عنايته بتاريخ الأديان والصراعات الدينية، حيث يمارس التدريس في جامعة كولومبيا في نيويورك؛ إذ يعمل أستاذاً لتاريخ الأديان والأدب المقارن في عدد من أقسام تلك الجامعة.
يعد النجار حالياً من أبرز دارسي الأديان الإبراهيمية في الولايات المتحدة، لا سيما ما يتصل منها بالعلاقات التاريخية الثقافية التي ربطت الجماعات اليهودية بأوروبا من ناحية، وبالعرب من ناحية أخرى. كتابه الأشهر «اليهودي، العربي: تاريخ للعدو» (2003) دراسة بالغة الأهمية، وسأعرض لها بعد أن أشير إلى أن له كتباً أخرى مهمة أيضاً منها «الساميون: العرق، الدين، الأدب» (2007)، و«دم: نقد للمسيحية» (2014)، فضلاً عن مشاركاته في عدد من الكتب وترجماته لعدد آخر.
وللنجار مواقف سياسية مثيرة للجدل تتضمن في المقام الأول، ومما يهمنا في الوطن العربي، نقده لإسرائيل بوصفها مشروعاً صهيونياً استيطانياً، ومؤازرته للفلسطينيين مؤازرة تتضح من مطالعة كتابه «اليهودي، العربي» الذي يفتتح بقصيدة لمحمود درويش من مجموعته «لماذا تركت الحصان وحيداً؟». أدى ذلك الموقف إلى قيام ديفيد هوروتز، الأستاذ بجامعة هارفارد، وهو يهودي معروف بيمينيته وصهيونيته المتطرفة، بضم النجار إلى 101 من أساتذة الجامعات الأميركية الذين يتهمهم باليسارية أو الشيوعية، والتأثير على الطلاب من خلال تلك الاتجاهات الفكرية والسياسية، التي منها معاداة اليهود وإسرائيل.
المتأمل في آراء النجار يجده فعلاً معادياً لإسرائيل، ولكن ليس لليهود، معادياً للفاشية الصهيونية وجرائمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخطابها المليء بالادعاء والكذب. وهو في هذا لا يختلف عن نعوم تشومسكي (أحد الذين ضمهم هوروتز للقائمة المرفوضة من قبله)، أو توني جُت أو جودث بتلر وآخرين ليسوا بالقليلين وقفوا وقفات صارمة ومؤسسة في الوقت نفسه على حجج وأسانيد منطقية ووقائعية مستمدة من التاريخ وممارسات الحاضر.
غير أن نقد النجار لإسرائيل ينطلق، كما هو لدى جُت وبتلر وغيرهما، من القلق على وضع اليهود، القلق المنبعث من الانتماء الإثني والإنساني إلى تلك الفئة. يتضح ذلك من دراسة النجار لعلاقة اليهود بأوروبا من ناحية وبالصهيونية من ناحية أخرى. ففي تلك العلاقة يبدو اليهود جماعات إما مضطهدة وإما توظف لأغراض آيديولوجية/دينية وسياسية. يدرس النجار تاريخ تلك العلاقة بين اليهود ويحلل تمظهراتها السياسية والدينية، مركّزاً على التاريخ الفكري، وليس الاجتماعي أو الديني. فهو معنيّ بمفهوم العدو وتطوره في التاريخ الأوروبي، وفي تحليله يظهر اليهود بوصفهم أعداء دينيين بالقدر الذي أدى في القرن التاسع عشر إلى ولادة مفاهيم مثل السامية وآيديولوجيات مثل الصهيونية تسعى إلى التعامل مع ما عرف بالمسألة اليهودية إما عرقياً (السامية) وإما سياسياً ودينياً (الصهيونية). تصنيف اليهود إلى ساميين جعلهم في موقف الاختلاف تجاه العرق الآري، وسمح فيما بعد بظهور آيديولوجيا التطهير العرقي لدى النازيين، الآيديولوجيا التي استغلها زعماء الحركة الصهيونية لترحيل اليهود إلى أوروبا بوصفهم جماعات غير مرحب بها في تلك القارة «الآرية» أو المسيحية البيضاء.
من هنا تظهر إسرائيل بوصفها صناعة تضافر فيها العداء الأوروبي لليهود والرغبة في التخلص منهم إلى جانب الآيديولوجيا الصهيونية التي وجدت في ذلك العداء تشريعاً لإعادة توطين اليهود في الشرق الأوسط. يقول النجار في حوار أجرته معه إحدى الدوريات بأن أوروبا أقنعت «الصهاينة بأنه ليس لليهود مكان في أوروبا، أو حتى في العالم، وهو موقف ما زال يتبناه بعض الذين يقيمون في أوروبا وغيرها، في أي مكان ما عدا إسرائيل». لكن اقتناع الصهاينة بذلك أو ترحيبهم به لم يعن أن تلك هي الحقيقة لا سيما في العصر الحديث. يؤكد جلعاد النجار ذلك، في الحوار المشار إليه، حين يعبر عن قناعته هو بأن اليهود لا يعانون من وضع أقلوي أو مهدد بالخطر في أوروبا الحديثة، أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية: «أريد أيضاً أن أوضح أن من السخف وعدم المسؤولية القول بأن اليهود في أوروبا الآن أقلية في خطر...». إن كانت هناك أقلية في خطر، يقول الباحث، «فالمسلمون في خطر... وكذلك هم الفقراء والعاطلون عن العمل...».
يواصل النجار تحطيم هذه الأساطير الصهيونية ليقلب بعد ذلك الطاولة على من يتبنونها ويشيعونها في الخطاب السياسي الغربي، فيؤكد في الحوار المشار إليه البعد الاستعماري في المشروع الصهيوني في فلسطين: «الرأي الذي أود التعبير عنه هو أن من المهم جداً أن نواصل التأكيد على البعد الكولونيالي أو الاستعماري للصهيونية، الاستعماري بالمعنى الحصري، المعنى المطلق. من السخف الادعاء بأن إسرائيل لم تقم على أساس استعماري. كان الناس مواطنين في دول، وكانوا يعملون لحساب قوى غربية، وكانت القوى الغربية تعرف ذلك تماماً. كما عرف ذلك هرتزل بالطبع وآخرون».
الأسطورة الأخرى التي يثبت النجار هشاشتها هي أن إسرائيل ليست دولة دينية: «تدعي إسرائيل، على نفس المستوى، أنها دولة علمانية لكن بالطريقة التي تثبت فيها (الجنسية) - مميزة إياها عن (المواطنة) - فإن إسرائيل تؤكد البعد الإثني - بل العرقي - لليهودي وتمحو الاختلاف الديني الذي يظل أساسياً لأساطيرها وسياساتها». هذا البعد الديني يتضح حين ندرك، حسب النجار، أن «الحاخامية هي التي تملك سلطة تحديد من هو اليهودي، الأمر الذي يخلق مشاكل عديدة. الحاخامية تملك السلطة على قانون الأسرة، القانون الذي تتخذ بمقتضاه القرارات (السياسية) المهمة».
هذا التفكيك لهوية إسرائيل والآيديولوجيا الصهيونية التي تحكمها يتواصل في موضع آخر، ومن زاوية مختلفة، حين يتناول جلعاد النجار ما يسميه «دولة الانتحار». هنا يقتبس عبارات لأحد أشهر المدافعين اليهود الأميركيين عن إسرائيل، نورمان بودهورتز، رئيس تحرير مجلة «كومنتري» لعدة عقود، المجلة التي تعد أحد أبرز المنابر للآيديولوجيا الصهيونية في الولايات المتحدة. في تلك العبارات يقول بودهورتز إن إسرائيل تتذكر دائماً قصة «قلعة مسعدة» وانتحار المئات من اليهود حين حاصرهم الرومان قبل ألفي عام، مشيراً إلى أن إسرائيل اليوم ترى في تلك القصة أنموذجاً لما يمكن أن تفعله لو حوصرت، لكن بودهورتز يشير أيضاً إلى أن لدى الإسرائيليين خياراً آخر أو أنموذجاً مختلفاً هو شمشون الذي تقول الحكاية إنه دمر المعبد ليموت هو وأعداؤه.
في ورقته البحثية التي تتناول إسرائيل من حيث هي دولة انتحار، يرى النجار أن ما يقوله بودهورتز يوضح هوية إسرائيل من الزاوية التي يتضح منها أنها كيان سياسي مرتبط عضوياً بالعسكرة، أي الدولة من حيث هي كيان عسكري بالقدر الذي يتجاوز ما تضمنته نظرية المفكر الألماني كارل شمت حول الحرب وعلاقتها بـ«السياسي»، أو ما هو سياسي. يتحدث النجار عن عنف مرتبط بالسياسي وبالدولة ويتمثل بتدمير الذات، التدمير الذي يشير إليه بودهورتز بوصفه خياراً أمام دولة إسرائيل. فالدولة العبرية من ذلك المنظور دولة انتحارية أو مهيئة لتكون كذلك. ويتساءل النجار عن السبب وراء هذه النزعة الانتحارية فيقترح، مستشهداً بآخرين، أنها «تمثل تخلياً عدوانياً من قبل مجتمع عن الذات السلبية المثالية لدى اليهودي الأوروبي القديم»، أي أن اليهودي الإسرائيلي لا يريد أن يكون الضحية مرة أخرى: «ربما يمثل نزوعاً كامناً لدى الإسرائيلي الحديث للقتل العكسي، أي أنه لو اتضح أن كارثة وطنية مثل تلك التي حدثت في الحروب الماضية ستحل أو لو أن أميركا أو قوى أخرى ستقف على الحياد أو تتخلى عن الاستقلال الإسرائيلي، فإن جاهزية إسرائيلية للموت في الحرب ستمثل رغبة إسرائيل في تدمير أميركا أيضاً».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

سائق يُفاجئ الشرطة بحيلة غريبة لتشغيل ماسحات الزجاج (فيديو)

سائق يُفاجئ الشرطة بحيلة غريبة لتشغيل ماسحات الزجاج (فيديو)
TT

سائق يُفاجئ الشرطة بحيلة غريبة لتشغيل ماسحات الزجاج (فيديو)

سائق يُفاجئ الشرطة بحيلة غريبة لتشغيل ماسحات الزجاج (فيديو)

في حادثة غير مألوفة، أوقفت شرطة ستافوردشاير ببريطانيا، سائقاً خلال دورية روتينية، لتكتشف حلاً مبتكراً ولكنه خطير لتشغيل ماسحات الزجاج الأمامي المكسورة للسيارة باستخدام أربطة أحذية، وذلك أثناء العاصفة «بيرت» التي ضربت البلاد يوم السبت الماضي. وفقاً لموقع «لنكستر بوست».

وأظهر مقطع فيديو نشرته الشرطة كيف كان السائق يتحكم يدوياً في الماسحات عبر سحب الأربطة من داخل السيارة، ما أثار دهشة الضباط الذين وصفوا الابتكار بأنه غير مقبول وخطير.

وقالت وحدة مكافحة الجرائم المرورية التابعة للشرطة: «على الرغم من أن الحل يبدو إبداعياً، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُعدّ بديلاً آمناً... السيارة كانت غير صالحة للسير، وتم اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد السائق».

وإلى جانب المخالفة المرتبطة بالسيارة، واجه السائق مشكلات قانونية إضافية، بعدما تبين أنه يقود دون تأمين.

وتُظهر الحادثة كيف يمكن للإهمال في صيانة السيارات أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، خصوصاً في الظروف الجوية الصعبة.