أجواء العيد تعم الهند وسط 180 مليوناً من مواطنيها المسلمين

«الأفضل» في الهند منذ سنوات نظرًا لعدم وجود أي توترات

المسلمون يؤدون صلاة العيد أمام تاج محل في أغرا بالهند (رويترز)
المسلمون يؤدون صلاة العيد أمام تاج محل في أغرا بالهند (رويترز)
TT

أجواء العيد تعم الهند وسط 180 مليوناً من مواطنيها المسلمين

المسلمون يؤدون صلاة العيد أمام تاج محل في أغرا بالهند (رويترز)
المسلمون يؤدون صلاة العيد أمام تاج محل في أغرا بالهند (رويترز)

مع بداية الاسبوع الاخير من شهر رمضان المبارك تكتظ الأسواق الهندية بالمسلمين الذين يتدفقون عليها لشراء ملابس العيد والحلي بينما تستعد منصات بيع الطعام لتقديم حلوى العيد الخاصة. وتحاول «الشرق الأوسط» استعراض أجواء ما قبل العيد في مناطق مختلفة من الهند التي يزيد عدد المسلمين بها على 180 مليونا. يخيم الحماس على الأجواء سواء كان ذلك في العاصمة الهندية دلهي، أو العاصمة التجارية مومباي، أو مدينة حيدر آباد، أو مدينة المغول لاكناو، أو إقليم كشمير ذي الأغلبية المسلمة. ويقول الكثيرون بتلك المدن إن هذا العيد سيكون هو الأفضل منذ سنوات عدة نظرا لعدم وجود أي توترات. ويزداد الازدحام تدريجيا وتظل الكثير من الأسواق في المناطق ذات الأغلبية المسلمة مفتوحة حتى منتصف الليل، حيث يفضل الكثيرون التسوق بعد الإفطار.
لا ينتهي التسوق لشراء حاجيات العيد في حي دلهي المحاط بالأسوار أثناء شهر رمضان بحلول الليل؛ بل في الواقع، إنه يبدأ ليلا بأسواق تمتد أعمارها إلى قرون مضت وتعمل طوال اليوم. وعندما يدخل المرء المدينة القديمة، التي كانت عاصمة المغول، يجد رائحة الكباب، واللحم المشوي، والحلوى التقليدية في استقباله. وتقدم فنادق في منطقة تشاندي تشوك، والمسجد الجامع، أصنافا من الطعام المغولي، والفارسي، والذي يقال إنه وصل إلى دلهي عبر إيران وأفغانستان خلال حقبة حكم المغول. وقال فاروق أحمد، رجل أعمال في مدينة دلهي القديمة: «إن هذا عيد للمسلمين، ويشتري الجميع الكثير من الحاجيات استعدادا لاستقبال العيد». وتؤدي زيادة السيارات على الطرق إلى ازدحام مروري في شوارع دلهي، وتعد أصوات أبواق السيارات الصاخبة من مظاهر هذه الفوضى المرورية.
شغل الباعة الجائلون الأرصفة، التي من المفترض أن تكون مخصصة للمشاة في الأسواق خاصة في دلهي القديمة، حيث أقاموا منصات متحركة لبيع السلع المختلفة ومنها الخضراوات، والألعاب، والوجبات الخفيفة، والملابس الجاهزة، وغيرها. ويمكن رؤية عدد كبير من السيدات، بعضهن يرتدين حجاب، وهن يشترين ملابس جديدة. وتبدو الفتيات منشغلات بشراء الحلي المختلفة. ويعج سوق السادار بوجه خاص في دلهي بفتيات يبتعن السوارات. ويقدم أصحاب المتاجر هدايا وخصومات. كذلك تقدم المتاجر في مراكز التسوق عروضا من أجل جذب المشترين؛ حيث يقدم البعض عرض سلعتين بسعر واحدة، وخصما بنسبة 50 في المائة على الملابس. وتكتظ المتاجر، التي تبيع الـ«كورتي» وغيرها من الملابس الهندية التقليدية، بالنساء. وقالت فوزية توقير، إحدى المتسوقات: «لقد اشتريت عباءة (أناركالي) من اللونين الأزرق والأصفر من أجل ارتدائها يوم العيد صباحا. وأبحث حاليا عما يليق بها من حلي وكذلك عن ملابس لابنتي».
وتعد الملابس المصنوعة من الشيفون على الطراز الباكستاني، والفساتين، رائجة العام الحالي، ويوجد طلب كبير على التنورات الطويلة والمقسمة. وقالت سانا خان: «لقد تصفحت الكثير من مواقع التسوق الإلكترونية للمقارنة بين التصميمات والأسعار المختلفة. وقبل أن أطلب فكرت في التجول بالأسواق المحلية لمعرفة التصميمات الرائجة».
بالنسبة للرجال: «الكورتا - بيجاما»، وبزة الـ«باثان»، والقبعات هي الملابس الرائجة في السوق، والتي يفضلونها على الجينز، والقمصان الرسمية، والقمصان الرياضية. أما الشباب فهم مغرمون بالملابس التي يرتديها النجوم على حد قول العاملين في المتاجر.
وإضافة إلى الملابس، تشهد متاجر الحلي إقبالا كبيرا. وقال محمد رضوان، عامل في متجر: «إضافة إلى الحلي الذهبية، تفضل الكثير من النساء ارتداء حلي ملونة زائفة». وأوضح قائلا: إن القلادات، وأقراط الأذن، وأقراط الأنف، والسوارات، وسوارات القدم، من المشغولات الشائعة الرائجة خلال الموسم الحالي.
وينتشر التسوق عبر الإنترنت بين الشباب، وتستخدم علامات تجارية، وشركات شهيرة، التسوق عبر الإنترنت في عرض منتجاتها على العملاء، حيث تشهد المبيعات على الإنترنت زيادة مقارنة بالأوقات الأخرى. ويريد الشباب سلعا غير تقليدية ومبتكرة تواكب أحدث صيحات الموضة، ولا يحبون التجول في الشوارع المكتظة، وإضاعة الوقت في شراء فساتين أو سلع أخرى من السوق، لذا هم العملاء الرئيسيون على حد قول رجل أعمال في مجال التسوق عبر الإنترنت.
وقال نصرة وهو طبيب: «لقد تسوقت عبر الإنترنت حيث يعرض البائعون منتجات توافق طلبي. ويوفر علي هذا صخب وضجة الأسواق المكتظة في هذا الطقس الحار الرطب».
من يستطيع أن ينسى شغف النساء المسلمات الهنديات بوضع الحنة على أياديهن في العيد؟ يذهب باني رام، فنان رسم بالحنة هندوسي من راجستان إلى دلهي مع زوجته وابنتيه كل عام خلال الأسبوع الأخير من رمضان وحتى العيد. وهناك طلب على التصميمات العربية واللامعة للحنة خلال الموسم الحالي. ويمتد عمل الأسرة إلى ما بعد منتصف الليل. وقال باني رام إن الأمر لا يتعلق بالمال، بل ما يجذبه إلى السوق سنويا هو «السحر الذي لا يقاوم والذي تتسم به فترة ما قبل العيد». وأضاف قائلا: «أجواء الاحتفالات وانتظار الكثير من الشباب لي من أجل رسم تصميمات مميزة خاصة بالعيد على أيديهم تجعل هذه التجربة مثيرة بالنسبة لي».
ولا ينسى أحد هدايا العيد؛ فإضافة إلى الأدوات المنزلية التقليدية وأدوات المطبخ، تنتشر الكثير من الهدايا الاستثنائية ذات الطابع الديني في أسواق دلهي. ومن المنتجات الرئيسية «القلم القرآن»، الذي يقدم ترجمة الآيات القرآنية بخمس لغات بمساعدة مترجم صوتي داخلي. وتلك اللغات هي الإنجليزية، والأردو، والمالايالامية، والفرنسية، والإيطالية. على المستخدم لمس أيقونة اللغة بطرف القلم ليتم ترجمة الآية التي تبتغي ترجمتها. ويقرأ القلم الآية باللغة العربية في البداية، ثم يترجمها باللغة المختارة. ويتوافر هذا القلم في أكثر منصات البيع، ومتاجر بيع الكتب الإسلامية في المدينة القديمة، ويحظى بإقبال كبير على حد قول نظيم الله الذي يعمل في «ميديا بوك» أمام المسجد الجامع الأثري.
ويشتري نسيم البالغ من العمر 25 عام، والذي حصل على راتبه الأول، القلم السحري مقابل 2000 روبية لشقيقته الصغرى كهدية عيد. وقال: «نحن لا نفهم العربية، ولا نفهم القرآن باللغة العربية، لكن سيساعدنا هذا القلم على فهمه. كذلك يمكن للأسرة جميعها الاستفادة منه، حيث سيقدم لنا فرصة لرؤية القرآن بمنظور جديد». ويقول البائعون في المتاجر إن تنوع أغطية الرأس الخاصة بالرجال العام الحالي ساهم في رواجها. وقال زاهد أحمد: «التصميمات المختلفة والألوان الزاهية تزيد من رواج القبعات التي تنتشر كثيرا في هذا الوقت تحديدًا». وأضاف أن القبعات مصنوعة من المخمل، ويتم استيرادها من بنغلاديش وتلقى رواجا كبيرًا.
إضافة إلى القبعات، تبيع المتاجر الـ«إتار» (العطر) وهو عطر طبيعي يصنع من مزج أعشاب وزهور ويلقى رواجا، وينتشر انتشارا كبيرا أيضًا. وقال موكول غاندي، صاحب متجر لبيع تلك العطور في داريبا كالان بتشاندي تشوك: «تلقى عطور مثل الصندل، والياسمين، والورد، ومسك الروم الدرني، والورد البلدي، رواجًا كبيرًا».
وهناك الكثير الذين ينتظرون أحباءهم لقضاء العيد معهم، فالعيد موعد اجتماع ولقاء العائلات. قال ماهاك مانان، طالب علوم كومبيوتر الذي عاد للمنزل لقضاء العيد: «يأتي كل أفراد أسرتي من مناطق مختلفة في البلاد للاحتفال بالعيد سويا. أهم ما في العيد بالنسبة إلينا هو الأسرة؛ فهو يمثل فرصة لتبادل مشاعر الحب، والصلة، والشعور ببهجة الاحتفال».
ويلقي عزام علي وزوجته زابينا نظرة على أجهزة الكومبيوتر من أجل أحفادهم الذي من المتوقع أن يقضوا العيد معهم قادمين من عمان. وقالا: «طلب حفيدنا جهازا لوحيا جديدا كهدية للعيد، بينما وعدنا حفيدتنا، وهي من المعجبين بسلمان خان، بمشاهدة فيلمه الجديد (باجرانغي بهاي جان) كهدية عيد».
بهجة الاحتفال في كل مكان في مومباي مع الاستعداد للعيد. ومع غروب الشمس في شارع محمد علي في جنوب مومباي، تعج المطاعم بالحركة، وتدعوك إلى تناول طعام الإفطار. وتدب الحياة في أماكن تناول الطعام في هذا الشارع خلال شهر رمضان بعد الإفطار وطوال الليل. وتتسم المنطقة الممتدة من سوق بهيندي إلى شارع محمد علي بالنشاط والحركة طوال رمضان خاصة أماكن تناول الطعام التي تعد مقصدا يفضله محبو الطعام والمتسوقون خاصة بعد جولة تسوق شاقة ومرهقة لشراء مستلزمات العيد حيث يستمتعون بصنوف لذيذة مميزة من الطعام. ويقول إسماعيل أحمد، أحد السكان المحليين الذي يتردد على المنطقة خلال شهر رمضان: «أشعر أن هناك شيئا ما ينقصني إذا لم آت إلى هنا في رمضان». المفاجئ العام الحالي هو أن متاجر أسواق كشمير تفتح أبوابها حتى وقت متأخر من الليل في رمضان العام الحالي. ويعد هذا الأمر من المؤشرات التي تدل على عودة السلام إلى هذه المنطقة المضطربة. وهذا أمر غير معتاد في وادي كشمير، حيث كانت المتاجر في السابق تغلق أبوابها قبل الإفطار بثلاثين دقيقة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)