هل باتت مفاعلات الاندماج النووي الآمنة والنظيفة قاب قوسين أو أدنى؟

إنجاز علمي باهر لأغراض عسكرية ومدنية

هل باتت مفاعلات الاندماج النووي الآمنة والنظيفة قاب قوسين أو أدنى؟
TT

هل باتت مفاعلات الاندماج النووي الآمنة والنظيفة قاب قوسين أو أدنى؟

هل باتت مفاعلات الاندماج النووي الآمنة والنظيفة قاب قوسين أو أدنى؟

منذ إعلان وزيرة الطاقة الأميركية الشهر الماضي عن نجاح علماء في مختبرات «لورنس ليفرمور الوطنية» بولاية كاليفورنيا، التابعة للوزارة، في تحقيق إنجاز علمي فائق يمثل «اختراقاً كبيراً» في تكنولوجيا الاندماج النووي، ومعظم عناوين وسائل الإعلام تبشر - بشكل غير دقيق ومضلل أحياناً - بمستقبل من الطاقة النظيفة الوفيرة التي تنتجها محطات الطاقة النووية الاندماجية.
لكن ما هو هذا الإنجاز العلمي الباهر؟ وهل حقاً يمثل علامة فارقة في مسار تطوير تقنية الاندماج النووي؟ وهل باتت مفاعلات الاندماج النووي الآمنة والنظيفة وبأسعار معقولة قاب قوسين أو أدنى، بحيث تشكل مكوناً رئيسياً – إن لم يكن المكون الرئيسي - من مزيج الطاقة النظيفة الخالية من الكربون بحلول منتصف هذا القرن، وهو المتطلب الضروري لتحقيق أهداف اتفاق باريس المناخية؟

اندماج نووي
بدايةً، من المفيد العودة للوراء والتذكير بأن العلماء اكتشفوا قبل نحو قرن أن تفاعلات اندماج أنوية ذرات خفيفة مثل الهيدروجين مع بعضها بعضاً ينتج منها أنوية ذرات أثقل مثل الهيليوم، كما أن تفاعلات انشطار أنوية ذرات عناصر ثقيلة مثل نظير اليورانيوم ينتج منها أنوية ذرات عنصرين أخف. ويصاحب كلا النوعين من التفاعلات النووية إطلاق كميات هائلة من الطاقة تعادل نحو مليون ضعف ما يطلق أثناء حرق الكميات نفسها من الوقود الأحفوري. وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية تمكن العلماء والمهندسون من التحكم في تفاعلات الانشطار النووي، ونجحوا في تطوير تقنياتها في البداية لغرض تصميم وصنع القنابل النووية الانشطارية. وقد استخدمت أميركا اثنتين منها لتدمير مدينتي هيروشيما وناغازاكي؛ مما عجّل في استسلام اليابان وإنهاء الحرب. ثم نجحوا في تصميم وتشييد المئات من مفاعلات الانشطار النووي لتوليد الكهرباء.
بيد أن التحكم في تفاعلات الاندماج النووي كان أكثر صعوبة. وتلك التفاعلات هي المسؤولة عن ديمومة تشغيل الشمس والنجوم لبلايين السنين داخل المجرات الكثيرة في هذا الكون العظيم. وتمكن العلماء عام 1952 - رغم الصعوبات التي واجهتهم - من تصميم وصنع قنابل نووية حرارية (تعرف بالقنابل الهيدروجينية نسبة إلى وقودها) ذات قوة تفجيرية هائلة. لكن التحدي التكنولوجي غير المسبوق الذي ما فتئ يواجه العلماء والمهندسين منذ ذلك الحين هو كيفية تطويع هذه التفاعلات على سطح الأرض في مفاعلات يتم التحكم فيها بحيث يمكن تسخيرها في توليد الكهرباء أو الحرارة وبتكلفة زهيدة للمساعدة على تلبية احتياجات العالم من الطاقة النظيفة.
ورغم جهود آلاف العلماء في عشرات المختبرات حول العالم لنحو سبعة عقود وتخطي العديد من العتبات التكنولوجية بنجاح، لكن بعض «العقبات الرئيسية» لا تزال قائمة أمام الاندماج النووي. ولم تتمكن أي تقنية حتى الآن من إنتاج قدر أكبر من الطاقة اللازمة لتشغيل مثل هذه المفاعلات.
وهناك نهجان رئيسيان تم اللجوء إليهما لمواجهة تحدي الاندماج «الاندماج المغناطيسي»، باستخدام قفص من المجالات المغناطيسية القوية لحصر وقود الاندماج المكون من بلازما الهيدروجين ونظائره الساخنة لدرجات حرارة عالية جداً (لأكثر من مائة مليون درجة مئوية كما هي في قلب النجوم)؛ أو «اندماج الحبس بالقصور الذاتي»، باستخدام أشعة الليزر النبضية القوية أو حزم الجسيمات لضغط وتسخين كريات الوقود الصغيرة على الفور.
إن إنجاز الاندماج النووي الذي أعلنته وزارة الطاقة الأميركية مهم جداً من الناحيتين العلمية والتقنية، بل وباهر حقاً؛ ففي الخامس شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي نجح فريق علماء في مرفق الإشعال الوطني (NIF) بمختبر «ليفرمور» في إحداث ما يعرف «بالاشتعال» لأول مرة في العالم في تجربة اندماج خاضعة للتحكم؛ مما يعني أنه تم إنتاج طاقة من تفاعلات الاندماج النووي في الوقود أكثر من طاقة الليزر المستخدمة لإحداث الاشتعال وإطلاق التفاعلات الاندماجية ذاتياً إلى أن تتطاير وتتلاشى بقايا الوقود.

إنجاز علمي
لكن أهمية الإنجاز لا تتعلق إلا قليلاً بفرص توليد الكهرباء تجارياً من تقنية الاندماج النووي على نطاق واسع - بعكس ما هيأت لذلك معظم وسائل الإعلام. وللتدليل على ذلك يكفي التذكير بأن إحداث انفجار صغير واحد (أو ما يسمى «بالطلقة») في هذه التجربة تم باستخدام أقوى نظام ليزر في العالم، تبلغ مساحة منشأته أكبر من ثلاثة ملاعب لكرة القدم، حيث أسفر عن إنتاج طاقة اندماج أكثر قليلاً من طاقة الليزر الذي أصاب الهدف (تكفي لتسخين كوبين من الشاي تقريباً). وكان عائد الاندماج هذا أصغر بنحو 250 مرة من كمية الطاقة الكهربائية التي احتاج إليها نظام الليزر من أجل إشعال «الطلقة». وسيحتاج مفاعل الاندماج العملي القائم على هذا النهج إلى عائد اندماج أكثر 10 - 20 مرة لكل طلقة من الكهرباء الموردة إلى الليزر، وبالتالي 2500 - 5000 ضعف عائد تجربة «ليفرمور»، وسيحتاج إلى العمل بمعدل نحو 10 طلقات في الثانية – أي ما لا يقل عن مليون طلقة في اليوم، في حين يمكن لجهاز ليفرمور الحالي إدارة طلقتين في اليوم الواحد فقط.
للتعرف إذن على حقيقة الأهمية التي يمثلها هذا الإنجاز العلمي؛ ينبغي التمعن في قول وزيرة الطاقة الأميركية بحفل الإعلان – بما معناه - إن هذا الإنجاز العلمي يمثل تقدماً مهماً للولايات المتحدة في مجالي الدفاع والطاقة. وتقديم الوزيرة الإشارة إلى الدفاع قبل الطاقة لم يأت اعتباطاً. ويعضد ذلك أن كبار المسؤولين الحكوميين الموجودين إلى جانبها في الحفل كانوا من وزارة الدفاع وليسوا من مسؤولي وزارة الطاقة. على أن الطريقة التي قدم بها هذا الاختراق والتغطية الإعلامية التي تبعته حجبت إلى حد كبير، أو أخفت عن قصد، الأثر الرئيسي لهذا الإنجاز العلمي المتمثل فيما سيوفره من دعم لبرنامج الإشراف على مخزون الأسلحة النووية الحرارية التابع للإدارة الوطنية للأمن النووي بالولايات المتحدة. وبدلاً من ذلك، ركزت وسائل الإعلام - حتى بعض الجادة منها - على ما ذكرته الوزارة بأن هذا الإنجاز «سيوفر رؤى لا تقدر بثمن حول آفاق طاقة الاندماج النظيف، والتي من شأنها أن تغير قواعد اللعبة للجهود المبذولة لتحقيق هدف اقتصاد خال من الكربون -» رغم أن علاقته بإنتاج الطاقة بعيدة وعرضية فقط.
وما ذكرته الوزيرة في معرض حديثها، أن هذا الإنجاز يمثل خطوة تمكن من الوصول إلى مفاعلات الاندماج النووي تجارياً «خلال سنوات» كان مضللاً، إلا أن رئيسة المختبر التي حضرت المؤتمر الصحافي أوضحت، أن الإفادة منه في تطوير تقنية الاندماج النووي وصولاً إلى مفاعلات تجارية يحتاج إلى جهود كبيرة للتغلب على عقبات فنية ‏ستستغرق نحو عقدين.
لذا؛ وبينما تمثل «تجربة ليفرمور» تقدماً حقيقياً، فإنها أقل بكثير من الأداء اللازم لمفاعل اندماج عملي. إضافة إلى ذلك، فإن فجوة الطاقة الهائلة المذكورة آنفاً لا تأخذ في الاعتبار مشكلات لم تحل بعد، مثل تلك المتعلقة بالأضرار الهيكلية الناجمة عن نيوترونات الاندماج، وتوليد وإعادة تدوير التريتيوم المشع بكفاءة وأمان.
وفي المقابل، فإن نظام الاندماج بالليزر الموجود حالياً في إحدى منشآت «مختبرات ليفرمور» مفيد جداً لوظيفة الدفاع الوطني الأقل لفتا للانتباه؛ ألا وهي دراسة فيزياء التفجيرات النووية الحرارية دون تفجير قنابل حقيقية. ومن المعروف أن تطوير الأسلحة (وخاصة النووية) يحتاج عادة إلى إجراء تجارب متعددة للتعرف على مدى فاعلية التصاميم أو التحسينات التي يدخلها المصممون، أو للتأكد من صلاحية وفعالية المخزون منها. ولأن إجراء التجارب على الأسلحة النووية أصبح محظوراً، وفقاً للقانون الأميركي منذ عام 1996 (ووفقاً لمعاهدة حظر التجارب الشاملة التي وقّعتها 196 دولة، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ بعد)، فقد لجأ العلماء إلى اختبار مدى صلاحية وفاعلية مخزون الأسلحة النووية بعمليات محاكاة في نماذج رياضية معقدة باستخدام حواسيب فائقة السرعة. لكن مهما بلغت فاعلية تلك النماذج، فإنها تبقى أقل مما يمكن التحقق منه في تجربة عملية في الطبيعة. ومن هنا جاء اهتمام وزارة الدفاع الأميركية بإمكانية استخدام تقنية الاندماج النووي باستخدام الليزر لهذا الغرض. وقامت الوزارة بدعم وتمويل تطوير هذه التقنية الباهظة التكاليف عبر نحو ثلاثة عقود رغم أنها أقل واعدية للطاقة من تقنية النهج المغناطيسي للاندماج.
وفي الواقع تم الإعلان عن عدد من الاختراقات الفيزيائية والتكنولوجية المهمة في تجارب النهج المغناطيسي للاندماج في الأشهر الأخيرة، وهو النهج الذي لجأت إليه معظم الدول المتقدمة لكونه أقرب بكثير من نهج الاندماج بالليزر لتحقيق هدف توليد الكهرباء. ويجري حالياً تشييد المفاعل النمطي العالمي الذي تساهم فيه دول كثيرة منها الولايات المتحدة. ‏ومن المتوقع بناء مفاعل نمطي شبه تجاري باستخدام هذه التقنية في العقد المقبل. وهناك شركات خاصة أنشئت بهدف تطوير تصاميم متعددة لمفاعلات الاندماج النووي بنهجيها والاستفادة منها تجارياً، حيث حصلت هذه الشركات على تمويل بمليارات الدولارات من كبار المستثمرين وصناديق المخاطرة. وقد ينجح بعضها في إنتاج الكهرباء تجارياً قبل منتصف القرن، إلا أن العقبات الإضافية التي يجب التغلب عليها من أجل الوصول إلى مفاعل اندماج مغناطيسي عملي ما زالت هائلة.


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟
TT

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

في سباق محتدم لنشر نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الأسواق العالمية، تفترض العديد من الشركات أن «النموذج الإنجليزي ← المترجم» كافٍ لذلك.

اللغة- ثقافة وأعراف

ولكن إذا كنتَ مسؤولاً تنفيذياً أميركياً تستعد للتوسع في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، فقد يكون هذا الافتراض أكبر نقطة ضعف لديك. ففي تلك المناطق، ليست اللغة مجرد تفصيل في التغليف: إنها الثقافة والأعراف والقيم ومنطق العمل، كلها مُدمجة في شيء واحد.

وإذا لم يُبدّل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بك تسلسل رموزه الكمبيوترية فلن يكون أداؤه ضعيفاً فحسب؛ بل قد يُسيء التفسير أو يُسيء المواءمة مع الوضع الجديد أو يُسيء خدمة سوقك الجديدة.

الفجوة بين التعدد اللغوي والثقافي في برامج الدردشة الذكية

لا تزال معظم النماذج الرئيسية مُدربة بشكل أساسي على مجموعات النصوص باللغة الإنجليزية، وهذا يُسبب عيباً مزدوجاً عند نشرها بلغات أخرى. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن اللغات غير الإنجليزية والمعقدة لغويا غالباً ما تتطلب رموزاً أكثر (وبالتالي تكلفةً وحساباً) لكل وحدة نصية بمقدار 3-5 أضعاف مقارنةً باللغة الإنجليزية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى أن نحو 1.5 مليار شخص يتحدثون لغات منخفضة الموارد يواجهون تكلفة أعلى وأداءً أسوأ عند استخدام نماذج اللغة الإنجليزية السائدة.

والنتيجة: قد يتعثر نموذج يعمل جيداً للمستخدمين الأميركيين، عند عمله في الهند أو الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا، ليس لأن مشكلة العمل أصعب، ولكن لأن النظام يفتقر إلى البنية التحتية الثقافية واللغوية اللازمة للتعامل معها.

«ميسترال سابا» نظام الذكاء الاصطناعي الفرنسي مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا

مثال «ميسترال سابا» الإقليمي جدير بالذكر

لنأخذ نموذج «ميسترال سابا» (Mistral Saba)، الذي أطلقته شركة ميسترال للذكاء الاصطناعي الفرنسية كنموذج مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا (التاميلية والمالايالامية... إلخ). تشيد «ميسترال» بأن «(سابا) يوفر استجابات أكثر دقة وملاءمة من النماذج التي يبلغ حجمها 5 أضعاف» عند استخدامه في تلك المناطق. لكن أداءه أيضاً أقل من المتوقع في معايير اللغة الإنجليزية.

وهذه هي النقطة المهمة: السياق أهم من الحجم. قد يكون النموذج أصغر حجماً ولكنه أذكى بكثير بالنسبة لمكانه.

بالنسبة لشركة أميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو سوق جنوب آسيا، هذا يعني أن استراتيجيتك «العالمية» للذكاء الاصطناعي ليست عالمية ما لم تحترم اللغات والمصطلحات واللوائح والسياق المحلي.

تكاليف الرموز والتحيز اللغوي

من منظور الأعمال، تُعدّ التفاصيل التقنية للترميز أمراً بالغ الأهمية. تشير مقالة حديثة إلى أن تكاليف الاستدلال في اللغة الصينية قد تكون ضعف تكلفة اللغة الإنجليزية، بينما بالنسبة للغات مثل الشان أو البورمية، يمكن أن يصل تضخم عدد الرموز إلى 15 ضعفاً.

هذا يعني أنه إذا استخدم نموذجك ترميزاً قائماً على اللغة الإنجليزية ونشرتَه في أسواق غير إنجليزية، فإن تكلفة الاستخدام سترتفع بشكل كبير، أو تنخفض الجودة بسبب تقليل الرموز. ولأن مجموعة التدريب الخاصة بك كانت تركز بشكل كبير على اللغة الإنجليزية، فقد يفتقر «نموذجك الأساسي» إلى العمق الدلالي في لغات أخرى.

أضف إلى هذا المزيج اختلافات الثقافة والمعايير: النبرة، والمراجع، وممارسات العمل، والافتراضات الثقافية، وما إلى ذلك، وستصل إلى مجموعة تنافسية مختلفة تماماً: ليس «هل كنا دقيقين» بل «هل كنا ملائمين».

التوسع في الخارج

لماذا يهم هذا الأمر المديرين التنفيذيين الذين يتوسعون في الخارج؟

إذا كنت تقود شركة أميركية أو توسّع نطاق شركة ناشئة في الأسواق الدولية، فإليك ثلاثة آثار:

-اختيار النموذج ليس حلاً واحداً يناسب الجميع: قد تحتاج إلى نموذج إقليمي أو طبقة ضبط دقيقة متخصصة، وليس فقط أكبر نموذج إنجليزي يمكنك ترخيصه.

-يختلف هيكل التكلفة باختلاف اللغة والمنطقة: فتضخم الرموز وعدم كفاءة الترميز يعنيان أن تكلفة الوحدة في الأسواق غير الإنجليزية ستكون أعلى على الأرجح، ما لم تخطط لذلك.

-مخاطر العلامة التجارية وتجربة المستخدم ثقافية: فبرنامج الدردشة الآلي الذي يسيء فهم السياق المحلي الأساسي (مثل التقويم الديني، والمصطلحات المحلية، والمعايير التنظيمية) سيُضعف الثقة بشكل أسرع من الاستجابة البطيئة.

بناء استراتيجية ذكاء اصطناعي متعددة اللغات واعية ثقافياً

للمديرين التنفيذيين الجاهزين للبيع والخدمة والعمل في الأسواق العالمية، إليكم خطوات عملية:

• حدّد اللغات والأسواق كميزات من الدرجة الأولى. قبل اختيار نموذجك الأكبر، اذكر أسواقك ولغاتك ومعاييرك المحلية وأولويات عملك. إذا كانت اللغات العربية أو الهندية أو الملايوية أو التايلاندية مهمة، فلا تتعامل معها كـ«ترجمات» بل كحالات استخدام من الدرجة الأولى.

• فكّر في النماذج الإقليمية أو النشر المشترك. قد يتعامل نموذج مثل «Mistral Saba» مع المحتوى العربي بتكلفة أقل ودقة أكبر وبأسلوب أصلي أكثر من نموذج إنجليزي عام مُعدّل بدقة.

• خطط لتضخم تكلفة الرموز. استخدم أدوات مقارنة الأسعار. قد تبلغ تكلفة النموذج في الولايات المتحدة «س» دولاراً أميركياً لكل مليون رمز، ولكن إذا كان النشر تركياً أو تايلاندياً، فقد تكون التكلفة الفعلية ضعف ذلك أو أكثر.

• لا تحسّن اللغة فقط، بل الثقافة ومنطق العمل أيضاً. لا ينبغي أن تقتصر مجموعات البيانات المحلية على اللغة فحسب، بل ينبغي أن تشمل السياق الإقليمي: اللوائح، وعادات الأعمال، والمصطلحات الاصطلاحية، وأطر المخاطر.

صمم بهدف التبديل والتقييم النشطين. لا تفترض أن نموذجك العالمي سيعمل محلياً. انشر اختبارات تجريبية، وقيّم النموذج بناءً على معايير محلية، واختبر قبول المستخدمين، وأدرج الحوكمة المحلية في عملية الطرح.

المنظور الأخلاقي والاستراتيجية الأوسع

عندما تُفضّل نماذج الذكاء الاصطناعي المعايير الإنجليزية والناطقة بالإنجليزية، فإننا نُخاطر بتعزيز الهيمنة الثقافية.

كمسؤولين تنفيذيين، من المغري التفكير «سنترجم لاحقاً». لكن الترجمة وحدها لا تُعالج تضخم القيمة الرمزية، وعدم التوافق الدلالي، وعدم الأهمية الثقافية. يكمن التحدي الحقيقي في جعل الذكاء الاصطناعي مُتجذراً محلياً وقابلاً للتوسع عالمياً.

إذا كنت تُراهن على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم توسعك في أسواق جديدة، فلا تُعامل اللغة كحاشية هامشية. فاللغة بنية تحتية، والطلاقة الثقافية ميزة تنافسية. أما التكاليف الرمزية وتفاوتات الأداء فليست تقنية فحسب، بل إنها استراتيجية.

في عالم الذكاء الاصطناعي، كانت اللغة الإنجليزية هي الطريق الأقل مقاومة. ولكن ما هي حدود نموك التالية؟ قد يتطلب الأمر لغةً وثقافةً وهياكل تكلفة تُمثل عوامل تمييز أكثر منها عقبات.

اختر نموذجك ولغاتك واستراتيجية طرحك، لا بناءً على عدد المعاملات، بل على مدى فهمه لسوقك. إن لم تفعل، فلن تتخلف في الأداء فحسب، بل ستتخلف أيضاً في المصداقية والأهمية.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
TT

الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي

في مدينةٍ لا تهدأ، وتحديداً في مركز «جاڤِتس» على ضفاف نهر هدسون، اختتمت أمس أعمال اجتماعات نيويورك السنوية لطبّ الأسنان، التي استمرت 5 أيام، أحد أكبر التجمعات العالمية للمهنة، بمشاركة نحو 50 ألف طبيب وخبير من أكثر من 150 دولة.

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر، بل منصّة حيّة لمستقبل طبّ الأسنان؛ فبين أروقته تتقدّم التكنولوجيا بخطى ثابتة: من الروبوتات الجراحية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على قراءة الأشعة في ثوانٍ، وصولاً إلى تجارب التجديد الحيوي التي قد تغيّر شكل العلاج خلال سنوات قليلة.

الذكاء الاصطناعي نجم المؤتمر بلا منافس

كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز لهذا العام، إذ جاء المؤتمر في لحظةٍ تتسارع فيها التحوّلات العلمية بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على مواكبتها. وقد برزت تقنيات محورية: أنظمة تحليل الأشعة الفورية، والمساعد السريري الذكي، والتخطيط الرقمي للابتسامة. وعلى امتداد القاعات، كان واضحاً أن هذه التقنيات لم تعد تجارب مختبرية، بل هي حلول جاهزة تغيّر طريقة ممارسة المهنة أمام أعيننا.

الروبوتات تدخل غرفة العمليات

شكّلت الجراحة الروبوتية محوراً لافتاً هذا العام، بعد أن عرضت شركات متخصصة أنظمة دقيقة تعتمد على بيانات الأشعة ثلاثية الأبعاد وتتكيف لحظياً مع حاجة الإجراء. وقد أظهرت العروض قدرة هذه الروبوتات على تنفيذ خطوات معقدة بثباتٍ يفوق اليد البشرية، مع تقليل هامش الخطأ ورفع مستوى الأمان الجراحي.

التجديد الحيوي... من الخيال إلى التجربة

عرضت جامعات نيويورك وكورنيل أبحاثاً حول بروتينات مثل «BMP-2»، وهو بروتين ينشّط نمو العظم، و«FGF-2» عامل يساعد الخلايا على الانقسام والتئام الأنسجة خصوصاً الألياف، إلى جانب تقنيات الخلايا الجذعية لإحياء الهياكل الدقيقة للسن.

في حديث مباشر مع «الشرق الأوسط»

وأثناء جولة «الشرق الأوسط» في معرض اجتماع نيويورك لطبّ الأسنان، التقت الدكتورة لورنا فلامر–كالديرا، الرئيس المنتخب لاجتماع نيويورك الكبرى لطب الأسنان، التي أكدت أنّ طبّ الأسنان يشهد «أكبر تحوّل منذ ثلاثة عقود»، مشيرة إلى أنّ المملكة العربية السعودية أصبحت جزءاً فاعلاً في هذا التحوّل العالمي.

وأضافت الدكتورة لورنا، خلال حديثها مع الصحيفة في أروقة المؤتمر، أنّ اجتماع نيويورك «يتطلّع إلى بناء شراكات متقدمة مع جهات في السعودية، أسوة بالتعاون القائم مع الإمارات ومؤسسة (إندكس) وجهات دولية أخرى»، موضحة أنّ هناك «فرصاً واسعة للتعاون البحثي والتعليمي في مجالات الزراعة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلاجات المتقدمة»، وأن هذا التوجّه ينسجم بطبيعة الحال مع طموحات «رؤية السعودية 2030».

العرب في قلب الحدث

شارك وفود من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر والعراق في جلسات متقدمة حول الذكاء الاصطناعي والزراعة الرقمية، وكان حضور الوفود لافتاً في النقاشات العلمية، ما عكس الدور المتنامي للمنطقة في تشكيل مستقبل طبّ الأسنان عالمياً.

نيويورك... حيث يبدأ الغد

منذ بدايات اجتماع نيويورك قبل أكثر من قرن، بقيت المدينة مرآةً لتحوّلات المهنة ومختبراً مفتوحاً للمستقبل. وعلى امتداد 5 أيام من الجلسات والمحاضرات والورش العلمية، رسّخ اجتماع نيويورك السنوي مكانته كأكبر تجمع عالمي لطبّ الأسنان، وكمنصّة تُختبر فيها التقنيات التي ستعيد رسم ملامح المهنة في السنوات المقبلة. كما يقول ويليام جيمس، مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركية، إنّ أميركا ليست مكاناً، بل تجربة في صناعة المستقبل... وفي نيويورك تحديداً، يبدو مستقبل طبّ الأسنان قد بدأ بالفعل.


دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
TT

دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)

أدت الزيادة الكبيرة في أعداد الأقمار الاصطناعية المتمركزة في مدار منخفض حول الأرض إلى تطورات في مجال الاتصالات، منها توفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية والنائية في أنحاء العالم.

لكنها تسببت أيضا في زيادة حادة في التلوث الضوئي في الفضاء، ما يشكل تهديدا لعمل المراصد الفلكية المدارية. وتشير دراسة جديدة أجرتها إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وتركز على أربعة تلسكوبات فضائية، منها تلسكوبان يعملان حاليا وآخران يجري العمل عليهما، إلى أن نسبة كبيرة من الصور التي سيجري التقاطها بواسطة هذه المراصد على مدى العقد المقبل قد تتأثر بالضوء المنبعث أو المنعكس من الأقمار الاصطناعية التي تشترك معها في المدار المنخفض.

وخلص الباحثون إلى أن نحو 40 بالمئة من الصور التي يلتقطها تلسكوب «هابل» الفضائي ونحو 96 بالمئة من تلك التي يلتقطها مرصد «سفير إكس»، يمكن أن تتأثر بضوء الأقمار الاصطناعية. وقال الباحثون إن «هابل» سيكون أقل تأثرا بسبب مجال رؤيته الضيق.

والتلسكوبات المدارية عنصر أساسي في استكشاف الفضاء، نظرا لما تمتلكه من قدرة على رصد نطاق أوسع من الطيف الكهرومغناطيسي مقارنة بالتلسكوبات الأرضية، كما أن غياب التداخل مع العوامل الجوية يمكنها من التقاط صور أكثر وضوحا للكون، مما يتيح التصوير المباشر للمجرات البعيدة أو الكواكب خارج نظامنا الشمسي.

وقال أليخاندرو بورلاف، وهو عالم فلك من مركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا وقائد الدراسة التي نشرت في مجلة نيتشر «في حين أن معظم تلوث الضوء حتى الآن صادر من المدن والمركبات، فإن زيادة مجموعات الأقمار الاصطناعية للاتصالات بدأ يؤثر بوتيرة أسرع على المراصد الفلكية في جميع أنحاء العالم».

وأضاف «في الوقت الذي ترصد فيه التلسكوبات الكون في مسعى لاستكشاف المجرات والكواكب والكويكبات البعيدة، تعترض الأقمار الاصطناعية في كثير من الأحيان مجال الرؤية أمام عدساتها، تاركة آثارا ضوئية ساطعة تمحو الإشارة الخافتة التي نستقبلها من الكون. كانت هذه مشكلة شائعة في التلسكوبات الأرضية. ولكن، كان يعتقد، قبل الآن، أن التلسكوبات الفضائية، الأكثر كلفة والمتمركزة في مواقع مراقبة مميزة في الفضاء، خالية تقريبا من التلوث الضوئي الناتج عن أنشطة الإنسان».

وفي 2019، كان هناك نحو ألفي قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض. ويبلغ العدد الآن نحو 15 ألف قمر. وقال بورلاف إن المقترحات المقدمة من قطاع الفضاء تتوقع تمركز نحو 650 ألف قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض خلال العقد المقبل.