هل سيؤدي تغير المناخ إلى ازدهار صناعي في القطب الشمالي؟

يحتوي على مليارات براميل النفط و30 % من احتياطيات العالم من الغاز

شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
TT

هل سيؤدي تغير المناخ إلى ازدهار صناعي في القطب الشمالي؟

شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي

يُحدث تغير المناخ تحولاً في المشهد المتجمد للقطب الشمالي بمعدلات مذهلة. ورغم ما يُلحقه من دمار بالحياة البرية والمجتمعات التي تعيش هناك، فإن الحكومات والشركات تُدرك وجود فرصة سانحة، كما كتبت مادلين كاف (*).

ثروة قطبية

تتمتع المنطقة بثروة من الموارد، بما في ذلك احتياطيات غير مستغلة من الوقود الأحفوري ومعادن أساسية ضرورية. وقد تنافست دول القطب الشمالي على السيطرة على هذه الموارد لعقود، وبعض عمليات الاستغلال - وبخاصة استخراج الوقود الأحفوري في القطب الشمالي الروسي - جارية بالفعل.

وبحلول نهاية العقد، قد يصبح المحيط المتجمد الشمالي خالياً من الجليد خلال فصل الصيف؛ ما يسمح للسفن بالسفر مباشرة فوق القطب الشمالي لأول مرة. هذا الذوبان السريع يجعل المنطقة أكثر سهولة من أي وقت مضى؛ ما يُغذي توقعات النمو الصناعي السريع في القطب الشمالي. منذ توليه منصبه في يناير (كانون الثاني) الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب صراحةً رغبته في الاستيلاء على غرينلاند، وهي إقليم دنماركي، بالإضافة إلى كندا. لكن هل سيُحدث تغير المناخ طفرة صناعية حقيقية في القطب الشمالي؟

مصالح مادية

* النفط والغاز. لا شك أن المنطقة تزخر بموارد قيّمة، بما في ذلك نحو 90 مليار برميل من النفط ونحو 30 في المائة من احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي غير المكتشفة، وفقاً لتقييم أجرته هيئة المسح الجيولوجي الأميركية عام 2012.

* المعادن الأرضية النادرة. كما تتوافر المعادن الأرضية النادرة بكثرة. ويُعتقد أن غرينلاند وحدها تمتلك احتياطيات كافية من معادن مثل النيوديميوم والديسبروسيوم، التي تُستخدم في تصنيع توربينات الرياح والمركبات الكهربائية، لتلبية ربع الطلب العالمي المستقبلي على الأقل. كما أنها تفخر بوجود كميات كبيرة من الكوبالت والنحاس والغرافيت والنيكل.

ويتزايد الطلب على هذه المواد بسرعة في جميع أنحاء العالم مع تسارع وتيرة التحول في مجال الطاقة. تُهيمن الصين الآن على سلاسل التوريد العالمية، بينما تتسابق مناطق أخرى - أبرزها أوروبا - لتأمين إمدادات بديلة.

غرينلاند فخورة بثرواتها

تقول آن ميريلد من جامعة ألبورغ في الدنمارك: «هناك اهتمام متزايد من (شركات التعدين متعددة الجنسيات) باستكشاف ورسم خرائط الرواسب في القطب الشمالي؛ نظراً للحاجة إلى مواد خام بالغة الأهمية في أوروبا».

قضت ميريلد طفولتها في غرينلاند ولا يزال لديها عائلة تعيش هناك. وتقول إن اهتمام الولايات المتحدة قد «صدم» السكان، لكنه عزز أيضاً عزمهم على تطوير موارد الجزيرة لدعم قضيتها من أجل الاستقلال. وتضيف: «سكان غرينلاند شعب فخور جداً. إن تطوير مواردنا هو إحدى الطرق لتعزيز اقتصادنا، وتمهيد الطريق للمضي قدماً».

لكن على الرغم من الضجيج، فإن صناعة التعدين الفعلية في غرينلاند ضئيلة. ولا يوجد في الجزيرة سوى منجمَين نشطين، وبينما أصدرت نحو 100 ترخيص تعدين، معظمها للاستكشاف، فإن الأمر سيستغرق سنوات عدّة قبل أي انتقال إلى المشروعات التجارية.

الوصول إلى ثروات القطب

هذه ليست قضية جديدة؛ يعرف الجيولوجيون منذ عقود الثروات الكامنة في القطب الشمالي. لكن المشكلة تكمن في الوصول إليها.

يغطي الجليد البحري الكثيف معظم مساحة القطب الشمالي، ويغطيه معظم أيام السنة. ولكن على الرغم من أن هذا الغطاء الجليدي آخذ في التناقص والتراجع، فإن التنقيب عن النفط والغاز في المياه المفتوحة وحفر الآبار لا يزال مسعًى باهظ التكلفة وخطيراً للغاية، ولا يعدّ مبرراً إلا إذا كان سعر النفط مرتفعاً بما يكفي. وتجدر الإشارة إلى أن استخراج الوقود الأحفوري البري أكثر تكلفة في القطب الشمالي، حيث تزيد تكلفته بنسبة 50 في المائة إلى 100 في المائة بألاسكا عنه في تكساس، على سبيل المثال.

حساسية بيئية

هناك أيضاً مخاطر تتعلق بالسمعة والمال في حال حدوث أي مشكلة. تقول ميريلد: «بيئة القطب الشمالي قاسية، لكنها في الوقت نفسه معرَّضة للخطر؛ إنها هشة. النباتات والحيوانات حساسة، وتستغرق إعادة بنائها وقتاً طويلاً في حال تضررها».

على سبيل المثال، تحذر شركات النفط الغربية من العمل في منطقة حساسة بيئياً كهذه، حيث قد تكون الأخطاء مكلفة. في عام 1989، اصطدمت ناقلة النفط «إكسون فالديز»، المملوكة لشركة «إكسون» للشحن، بشعاب مرجانية قبالة سواحل ألاسكا؛ ما أدى إلى تسرب ما يقرب من 23 مليون لتر من النفط إلى المحيط في غضون ساعات قليلة. وتسببت تلك الكارثة في نفوق آلاف الطيور البحرية، وثعالب الماء، والنسور الصلعاء، والحيتان القاتلة، وغيرها من الحيوانات البرية، وتدمير الموائل البحرية لمئات الكيلومترات، ولا تزال آثارها واضحة حتى بعد عقود. واضطرت «إكسون» إلى إنفاق نحو 202 مليار دولار على تنظيف التسرب ودفع مليار دولار إضافية تعويضات.

وبالنسبة لعمليات التنقيب عن المعادن المهمة، التي تعني في المقام الأول التعدين البري، اضطرت الشركات تاريخياً إلى التعامل مع قشور جليدية ضخمة أو تربة جليدية دائمة. وغالباً ما تكون البنية التحتية المحلية، مثل الطرق والموانئ، شحيحة، والقوى العاملة المتاحة محدودة.

ذوبان الجليد

يُخفف الذوبان السريع بعض هذه المشاكل، لكنه يُنشئ أيضاً مشاكل جديدة. إذ يُحسّن ذوبان التربة الصقيعية إمكانية الوصول إلى المواد الحيوية، لكنه يُزعزع استقرار البنية التحتية القائمة ويزيد من خطر الكوارث البيئية.

في عام 2020، انهار خزان وقود في محطة طاقة روسية تُشغّلها شركة تابعة لشركة المعادن العملاقة «نوريلسك نيكل»؛ ما أدى إلى غمر الأنهار المحلية بما يصل إلى 21 ألف طن من زيت الديزل. وقد أُلقي باللوم جزئياً على التسرب، الذي تسبب في أضرار بيئية بقيمة 1.5 مليار دولار، على انهيار أساسات الخزان بسبب ذوبان التربة الصقيعية.

يقول فيليب أندروز - سبيد من معهد أكسفورد لدراسات الطاقة: «سيُصعّب ذوبان التربة الصقيعية الحياة بشكل كبير». ويشير إلى أن بناء بنية تحتية جديدة - مثل المنازل والمباني التشغيلية والطرق القادرة على تحمل ذوبان الجليد - أكثر تكلفة بكثير.

في الوقت نفسه، في غرينلاند، حيث تُركّز الولايات المتحدة اهتمامها، كشف ذوبان الأنهار الجليدية عن آلاف الكيلومترات من سواحل جديدة. لكن هذه الأرض الجديدة هشة، وعرضة للانهيارات الأرضية التي قد تُسبب موجات تسونامي هائلة.

يقول فيليب شتاينبرغ من جامعة دورهام بالمملكة المتحدة: «إذا كانت لديك بنية تحتية على الأرض، للتعدين أو الحفر أو البناء مثلاً، فربما تُفضل وجود تربة صقيعية، حيث يُمكنك التنبؤ بمدى استقرار الأرض، بدلاً من التوجه إلى سطح أكثر دفئاً يذوب في نصف الوقت». ويضيف: «لا يُمثل تغير المناخ دائماً، على الأقل، النعمة الاقتصادية لاستخراج المعادن في القطب الشمالي كما يُصوَّر».

رأي السكان الأصليين

يمكن لمجتمعات السكان الأصليين في القطب الشمالي أيضاً أن يكون لها رأي في مدى نشاط التعدين. غالباً ما تُبدي هذه المجتمعات معارضة شديدة لمقترحات التطوير؛ خوفاً من أن تُلحق الأنشطة الصناعية الجديدة الضرر بالبيئة المحلية وتقطع مسارات هجرتهم التقليدية.

في عام 2023، حددت شركة التعدين السويدية «LKAB» رواسب ضخمة من خام الحديد والفوسفور في القطب الشمالي السويدي، التي تقول إنها قد تُلبي 18 في المائة من احتياجات أوروبا من المعادن النادرة، لكن شعب السامي الأصلي يُعارض تطوير المنجم.

ويتوقع أندروز - سبيد أن مثل هذه الاشتباكات ستعيق الصناعة في أجزاء من القطب الشمالي؛ ما يحد من دور المنطقة في تعزيز الإمدادات العالمية من المعادن الأساسية اللازمة للتحول في مجال الطاقة. ويضيف: «سواءً كنا ننظر إلى كندا أو شمال أوروبا، فإن السكان الأصليين في القطب الشمالي سيُبطئون الأمور، على أقل تقدير».

تغير المناخ - نقمة اقتصادية؟

لا يُمثل تغير المناخ دائماً النعمة الاقتصادية لاستخراج المعادن في القطب الشمالي كما يُصوَّر.

بالنظر إلى المخاطر المادية والبيئية والاجتماعية لتطوير الأنشطة الصناعية في القطب الشمالي مجتمعةً، فإن هذه المخاطر ستُثني الكثير من الشركات، على الرغم من الذوبان السريع للجليد في المنطقة.

يقول شتاينبرغ: «لن تكون المنطقة بيئة تشغيلية سهلة للتعدين، والحفر، وحتى الشحن». ويضيف: «ستمضي المشروعات قدماً، لكنها لن تُحدث فرقاً كبيراً، باستثناء حالة أو حالتين صغيرتين. سيتجلى الفرق الكبير في أجزاء أخرى من العالم، حيث تكون ممارسة الأعمال التجارية على نطاق واسع أرخص وأسهل».

ازدهار الشحن في القطب الشمالي

مع تراجع الجليد البحري في القطب الشمالي، تُفتح طرق شحن جديدة؛ ما يسمح بنقل البضائع والسلع إلى المنطقة وعبرها وخارجها.

تشير البيانات التي جمعتها منظمة حماية البيئة البحرية في القطب الشمالي (PAME)، وهي جزء من المجلس الدولي للقطب الشمالي، إلى أن عدد السفن الفريدة التي تدخل القطب الشمالي قد ارتفع بنسبة 37 في المائة بين عامي 2013 و2024. وتُعدّ قوارب الصيد أكثر أنواع السفن شيوعاً في القطب الشمالي، ولكن هناك زيادةً كبيرة في عدد ناقلات النفط الخام وناقلات الغاز وسفن الرحلات البحرية وناقلات البضائع السائبة، وفقاً للبيانات.

وتشير منظمة «PAME» إلى أن ارتفاع عدد السفن التي تنقل البضائع والوقود الأحفوري يؤكد زيادة النشاط الصناعي في القطب الشمالي، حيث زادت المسافة التي تقطعها ناقلات البضائع السائبة بنسبة 205 في المائة بالسنوات الـ13 الماضية.

وتشير آن ميريلد من جامعة ألبورغ في الدنمارك إلى أن تغير المناخ يُسهّل «نقل المواد من منطقة القطب الشمالي وإليها». لكن ربما يكون ظهور طرق تجارية جديدة عبر القارات، مثل الممر عبر القطب الشمالي، هو ما يضع القطب الشمالي على خريطة أنشطة الشحن العالمية.

* مجلة «نيو ساينتست»، خدمات «تريبيون ميديا»

حقائق

90

مليار برميل من النفط يُحتمَل وجودها في القطب الشمالي

حقائق

30 %

نسبة احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي غير المكتشفة التي يُحتمَل وجودها في القطب الشمالي


مقالات ذات صلة

شاهد... فيديو نادر يوثّق اختطاف قرود لصغار من فصيلة أخرى

يوميات الشرق تُظهر هذه الصورة التي قدّمها باحثون قرداً صغيراً من نوع عواء متشبثاً بذكر من نوع كابوشين بجزيرة جيكارون في بنما (أ.ب)

شاهد... فيديو نادر يوثّق اختطاف قرود لصغار من فصيلة أخرى

اكتشف العلماء أدلة مذهلة على ما وصفوه باختطاف القرود، وذلك في أثناء مراجعة لقطات فيديو من جزيرة بنمية صغيرة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق حملة إعادة توطين الحيوانات البرية تشمل الظبي وغزال الريم والمها العربي والوعل الجبلي

ولادة 74 حيواناً برياً مهدداً بالانقراض في السعودية

سجلت السعودية ولادة 74 حيواناً برياً جديداً ضمن جهودها المتواصلة لحماية الحياة الفطرية، وإعادة توطين الكائنات المهددة بالانقراض في بيئاتها الطبيعية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق يُحمِّل الأشجار رمزية ويمنحها صوتاً لتقول ما يشاء قوله (محمد شرف)

محمد شرف في «ذكريات أشجار بعلبك»: الفنّ ضد الأسمنت واليباس

في لوحات محمد شرف، لا تنمو الأشجار فقط على الوسيط الفنّي، فهي تمتدّ مثل جذور في ضمير المكان، كأنها تحاول أن تستعيد هواءها، وأن تنهض من ركام الذاكرة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
الاقتصاد المهندس عبد الرحمن الفضلي خلال كلمته في المنتدى السعودي الصيني (وزارة البيئة والمياه والزراعة)

السعودية والصين توقعان 57 اتفاقية تتجاوز 3.7 مليار دولار

شهد المنتدى السعودي الصيني لتصدير المنتجات واستدامة القطاع الزراعي، توقيع 57 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين 36 جهة وشركة سعودية ونظيراتها الصينية.

«الشرق الأوسط» (بكين)
الاقتصاد موظفو المركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي خلال تنفيذ عمليات التفتيش في إحدى المنشآت (الشرق الأوسط)

«الالتزام البيئي» السعودي يرصد 28 فرصة استثمارية بـ10.4 مليار دولار

كشف المركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي عن رصد 28 فرصة في نطاقات توطين الصناعات البيئية، وتقديم الخدمات، وتطوير التقنيات.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«لقاحات الحمض النووي»: تطويرات باهرة أم أسلحة دمار شامل؟

«لقاحات الحمض النووي»: تطويرات باهرة أم أسلحة دمار شامل؟
TT

«لقاحات الحمض النووي»: تطويرات باهرة أم أسلحة دمار شامل؟

«لقاحات الحمض النووي»: تطويرات باهرة أم أسلحة دمار شامل؟

شكك وزير الصحة (الأميركي) روبرت إف كيندي الابن مراراً وتكراراً في سلامة لقاحات «آر إن إيه المرسال mRNA (الحمض النووي الريبي المرسال)، التي طورت ضد «كوفيد - 19». كما وجه النصيحة للعلماء الذين يحصلون على تمويل من المعاهد الوطنية للصحة بحذف أي إشارة إلى «آر إن إيه المرسال» من منحهم، كما كتبت نينا أغراوال(*).

أسلحة دمار شامل

وفي جميع أنحاء البلاد، تدرس الهيئات التشريعية للولايات مشاريع قوانين لحظر أو تقييد هذه اللقاحات، ووصفتها إحدى هذه الهيئات بأنها «أسلحة دمار شامل».

وقد حظي الحمض النووي الريبوزي المرسال باهتمام واسع النطاق في السنوات الأخيرة، رغم اكتشافه لأول مرة عام 1961. ويدرسه العلماء منذ ذلك الحين، ويستكشفون إمكاناته الواعدة في الوقاية من الأمراض المعدية، وعلاج السرطان، والأمراض النادرة.

حمض نووي مساعد لإنتاج البروتينات

* ما الحمض النووي الريبوزي المرسال؟

- يُستخدم هذا الحمض، وهو جزيء كبير موجود في جميع خلايانا، في صنع جميع البروتينات التي يوجّه الحمض النووي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه) DNA أجسامنا لبنائها. وهو يقوم بذلك عن طريق نقل المعلومات من الحمض النووي «دي إن إيه» في النواة إلى الآليات المنتجة للبروتين الموجودة في الخلية.

ويقول جيف كولر، أستاذ بيولوجيا الحمض النووي الريبوزي (RNA) والعلاجات في جامعة جونز هوبكنز والمؤسس المشارك لشركة متخصصة في علاجات الحمض النووي الريبوزي، إنه يمكن استخدام جزيء واحد من الحمض النووي الريبوزي المرسال لإنتاج نسخ عديدة من البروتين، ولكنه مُبرمج بشكل طبيعي ليموت في النهاية.

عمل لقاحات الحمض النووي

*كيف تعمل لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال؟

-تتوفر حالياً ثلاثة لقاحات معتمدة من إدارة الغذاء والدواء الأميركية تستخدم الحمض النووي الريبوزي المرسال: لقاحان لكوفيد – 19، ولقاح واحد لفيروس الجهاز التنفسي المخلوي (RSV) لدى كبار السن. وتتكون هذه اللقاحات من خيوط من الحمض النووي الريبوزي المرسال، التي يمكن تشفيرها للتوجه ضد بروتينات فيروسية محددة.

الخلايا الدهنية بأنواعها التي تحمل الحمض النووي الريبوزي المرسال في داخل اللقاحات

لنفترض أنك تلقيت لقاح كوفيد - 19، وفي هذه الحالة فإن خيوط الحمض النووي الريبوزي، المُغلفة في جزيئات دهنية صغيرة، تدخل إلى خلايا العضلات والجهاز المناعي لجسمك، كما يقول روبرت ألكسندر ويسيلهوفت، مدير علاجات الحمض النووي الريبوزي المرسال في معهد العلاج الجيني والخلوي في مستشفى ماساتشوستس العام بريغهام.

وفي داخل الجسم تتلقى مصانع إنتاج البروتين في الخلايا بعد ذلك تعليمات من هذا الحمض النووي الريبوزي المرسال لكي تُنتج بروتيناً مشابهاً للبروتين الموجود على سطح فيروس كوفيد - 19. وعندما يتعرف الجسم على هذا البروتين على أنه غريب، فإنه سيطلق استجابة (ردة فعل) مناعية.

وقال جيف كولر إن معظم الحمض النووي الريبوزي المرسال سيختفي من الجسم في غضون أيام قليلة، لكن الجسم يحتفظ بـ«ذاكرة» له على شكل أجسام مضادة. وكما هو الحال مع أنواع أخرى من اللقاحات، تتضاءل المناعة بمرور الوقت، وكذلك مع تطوير الفيروس لسلالات جديدة.

تصنيع أسرع للقاحات

* لماذا تُستخدم لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال حالياً؟

-في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اكتشف علماء في جامعة بنسلفانيا كيفية إدخال الحمض النووي الريبوزي المرسال الغريب إلى الخلايا البشرية دون أن يتحلل أولاً. ومكّن ذلك الباحثين من تطويره لاستخدامه في اللقاحات.

وقال ويسيلهوفت، الذي أسس شركة تُطوّر علاجات الحمض النووي الريبوزي، إن الاستخدام الرئيس لهذه اللقاحات حالياً هو الوقاية من الأمراض المُعدية، مثل كوفيد – 19، وفيروس الجهاز التنفسي المخلوي. ويمكن تصنيع هذه اللقاحات بسرعة كبيرة لأن جميع المكونات، باستثناء تسلسل الحمض النووي الريبوزي، تبقى كما هي في مختلف اللقاحات.

وصرح فلوريان كرامر، عالم الفيروسات في كلية طب إيكان في ماونت سيناي، الذي عمل سابقاً مستشاراً لشركتي «فايزر» و«كيورفاك» بشأن علاجات mRNA، بأن هذه الميزة قد تكون مفيدة لتطوير لقاح الإنفلونزا السنوي. عادةً، يقرر العلماء في فبراير (شباط) أو مارس (آذار) سلالات فيروس الإنفلونزا التي سيُدرجها في لقاح يُطرح في الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول). ولكن بحلول ذلك الوقت، قد تكون سلالة مختلفة هي السائدة. ولأن لقاح mRNA يُمكن تصنيعه بسرعة أكبر من لقاح الإنفلونزا الحالي، فقد ينتظر العلماء حتى مايو (أيار) أو يونيو (حزيران) لمعرفة السلالات المنتشرة، كما قال كرامر، ما يزيد من احتمالية فعالية اللقاح.

مخاطر اللقاحات

*هل لهذه اللقاحات مخاطر؟

- من الأسئلة الشائعة التي يطرحها المرضى ما إذا كان لقاح mRNA يمكن أن يؤثر على حمضهم النووي، وفقاً للدكتور ريتشارد بوشيه، أخصائي أمراض الرئة في جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل.

لا خطر للاندماج مع الجينوم

الإجابة هي لا. لأن خلايانا لا تستطيع تحويل mRNA إلى حمض نووي، ما يعني أنه لا يمكن دمجه في جينومنا.

وقال كرامر إن لقاح كوفيد-19 يمكن أن يسبب آلاماً في العضلات، وأعراضاً تشبه أعراض الإنفلونزا، لكن هذه آثار جانبية متوقعة للقاحات بشكل عام.

من جهته قال الدكتور آدم راتنر، أخصائي الأمراض المعدية للأطفال في نيويورك، إنه مر أكثر من أربع سنوات منذ طرح لقاح كوفيد-19 لأول مرة، «ولا توجد مؤشرات على (الخطر على) سلامته على المدى الطويل».

خطر التهاب عضلة القلب

كان العديد من الآباء قلقين بشأن التهاب عضلة القلب، وهو التهاب في عضلة القلب تم الإبلاغ عنه بصفة أنه أثر جانبي محتمل للقاح. لكن راتنر قال إن خطر حدوث هذا الالتهاب نتيجة إصابة فعلية بكوفيد - 19، أو متلازمة كوفيد الطويلة، أو الالتهاب متعدد الأجهزة لدى الأطفال، كان أكبر بكثير.

تطويرات ضد السرطان واضطرابات المناعة

*ما الاستخدامات الأخرى لـ«آر إن إيه المرسال»؟

-تُدرس حالياً اللقاحات التي تستخدم mRNA لمجموعة واسعة من الأمراض، بما في ذلك السرطان، وأمراض القلب والأوعية الدموية، واضطرابات المناعة الذاتية، مثل داء السكري من النوع الأول، وأمراض نادرة مثل التليف الكيسي cystic fibrosis، وهي حالة وراثية تُنتج مخاطاً كثيفاً ولزجاً للغاية، يمكن أن يسد المسالك الهوائية، ويتلف الرئتين.

في السرطان، تكمن الفكرة في أن «آر إن إيه المرسال» يُمكن أن ينتج رموز بروتين للأورام يتعرف عليه الجهاز المناعي على أنه غريب، مُطالباً الجسم بمهاجمة الورم. أما في اضطراب وراثي مثل التليف الكيسي، فإنه يُنتج رموز نسخة فعالة من البروتين الناقص ليحل محل البروتين المعيب، ويُعيد المخاط إلى حالته الصحية.

لقاح تجريبي ضد سرطان البنكرياس

أظهرت دراسة نُشرت في مجلة «نيتشر» في وقت سابق من هذا العام أن لقاحاً تجريبياً قائماً على «آر إن إيه المرسال» لعلاج سرطان البنكرياس قد أثار استجابة مناعية لدى بعض المرضى بعد خضوعهم لجراحة السرطان. وعاش المرضى الذين اختبروا هذه الاستجابة المناعية فترة أطول دون الإصابة بالسرطان مقارنةً بمن لم يختبروها.

لا يزال هذا البحث في مراحله الأولى: فقد شملت دراسة سرطان البنكرياس، وهي تجربة من المرحلة الأولى، 16 مريضاً فقط، وربما كانت هناك اختلافات أخرى بين المجموعتين تُفسر اختلاف فترات البقاء على قيد الحياة. وأوضح الدكتور ستيفن روزنبرغ، رئيس قسم الجراحة في المعهد الوطني للسرطان وخبير العلاج المناعي للسرطان، أن هناك تاريخاً طويلاً من الأبحاث التي تُظهر أن التدخلات قد تُؤدي إلى استجابات مناعية دون تغيير نتائج المرضى فعلياً.

علاج اضطراب تنفسي

وأظهرت دراسة حديثة أخرى أن العلاج بـ«آر إن إيه المرسال» المُستنشق لدى القرود يمكن أن يُنتج بروتيناً ضرورياً لتكوين الأهداب، وهي هياكل شبيهة بالشعر تبطن مجاري الهواء وتُخرج المخاط منها. وتتعطل هذه البروتينات في اضطراب تنفسي مُنهك يُسمى خلل الحركة الهدبية الأولي primary ciliary dyskinesia.

وأشار بوشيه إلى أنه في أمراض الرئة، من الصعب للغاية إدخال الجسيمات الحاملة لـ«آر إن إيه المرسال» بأمان إلى الخلايا المناسبة تماماً.

من جهته قال راتنر إن لقاحات mRNA «آر إن إيه المرسال»، بشكل عام، «مثيرة للاهتمام»، لأنها تُعطي أملاً في علاجات الأمراض التي فشلت التقنيات السابقة في علاجها. لكن العلاج بهذا الحمض لا يزال تقنية دوائية كغيرها: ففي بعض الأمراض يُحتمل أن ينجح، كما قال، «وفي حالات أخرى، يُحتمل ألا ينجح».

* خدمة «نيويورك تايمز»