إبراهيم فرغلي... الكتابة للناشئة رغم فتور دور النشرhttps://aawsat.com/home/article/4073991/%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-%D9%81%D8%B1%D8%BA%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B4%D8%A6%D8%A9-%D8%B1%D8%BA%D9%85-%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B4%D8%B1
إبراهيم فرغلي... الكتابة للناشئة رغم فتور دور النشر
إبراهيم فرغلي
صدفة ثقافية جمعتني بالأديب المصري إبراهيم فرغلي، على هامش معرض الكتاب الأخير في الكويت، وبينما كنت أتوقع سماع خبر عن عمل روائي جديد لصاحب «أبناء الجبلاوي»، وجدته يُخرج من حقيبة يده رواية لليافعين بعنوان «الفتاة الآلية والأشجار آكلة البشر» مقدماً لي نسخة من الكتاب بإهداء لطيف. اليافعين؟ إنها مرحلة عمرية غائبة عن النشر العربي، حيث يقفز الأدب التخييلي من سن الطفولة إلى البالغين مباشرة. لم تكن المفاجأة فقط أن فرغلي يكتب لهذه الفئة العمرية (12 - 16 سنة)، بل إنه أصدر حتى الآن ثلاثة كتب للناشئة، بالإضافة لمجموعة قصصية «لم تصدر عن دار نشر واحدة»، وفي ذلك ما يشي بمعضلة الكتابة لهؤلاء الصغار الكبار. والكتب التي نشرها حتى الآن هي: «مغامرة في مدينة الموتى»، عن دار «حكايا»، و«مصاصو الحبر»، عن «شجرة» للنشر، أما الكتاب القصصي فعنوانه «أراجوز البحر»، وصدر عن الهيئة المصرية للكتاب. رواية «الفتاة الآلية» الصادرة حديثاً عن دار «منشورات تكوين»، هي جزء ثان لرواية «مدينة الموتى» التي تدور أحداثها زمن بناء الأهرامات في مصر، عندما يسافر بطلا الرواية عالية وشادي إلى تلك الفترة الزمنية، ثم يعودان للزمن المعاصر بمساعدة الرجل الذئب الذي سيواصل الظهور في «الفتاة الآلية» مع الطفلين. السؤال الذي خطر ببالي وأنا أقلّب الكتاب هو: هل سيكمل إبراهيم فرغلي سلسلة من الروايات لهذه الفئة العمرية بوجود الشخصيات نفسها؟ يجيب: «أتمنى نشر جزء ثالث، لكن للأسف لا يوجد استقرار في دُور النشر العربية ولا اهتمام بهذا العمر، وكل تجربة تبقى تجربة فردية. أتمنى أن أصدر الأعمال جميعاً، بالإضافة للجزء الثالث، في دار نشر واحدة». يركز فرغلي في هذه الأعمال على التشويق والإيقاع السريع ومحاولة إيجاد فرص للمرح والتفكير والتأمل في الوقت نفسه، وهو مُحق في عنصر التشويق الجاذب لهذه المرحلة العمرية، وأعتقد أنه شرط أساس للقراءة الاختيارية غير المفروضة عبر مناهج المدرسة أو عبر الأهل. لكن فرغلي يستدرك بالقول: «فكرة المعرفة والحفاظ عليها هي أيضاً جزء من المشروع الذي أهتم به، سواء بالعودة لزمن الفراعنة في الرواية الأولى، أو باختلاق مملكة مصاصي الحبر التي تعيش فيها كائنات تريد امتصاص الحبر من البشر؛ لأنها ترى أن البشر لا يفيدون من المعرفة شيئاً». في «الفتاة الآلية» كان هناك بعد إضافي يتعلق بالتعرف على الثقافات غير المركزية، الأفريقية بشكل خاص، من خلال الأحداث التي تدور، بعد قرن من الزمن المعاصر، في كينيا المتخيلة العصرية والحديثة، التي تواجه خطر محاولات سيطرة كائنات من خارج الكوكب عليها، تمهيداً للسيطرة على البشر. يقول فرغلي: «حاولت في هذه الرواية المزج بين أهمية العلم والتراث الشعبي في الوقت نفسه». الدردشة غير المخطط لها جرت بين أجنحة دُور النشر المشاركة في معرض الكتاب في الكويت في ديسمبر (كانون الأول)، والتي صادف أن إحداها القريبة من المقهى، حيث كنا نجلس، هي دار نشر أجنبية تبيع كتب أطفال وناشئة باللغة الإنجليزية. كان الجناح يشهد إقبالاً جيداً، خصوصاً أن الفترة الصباحية شهدت زيارة طالبات مدرسة. مشهد محير. لماذا يغيب الإقبال إذن عن هذا النوع من الأدب باللغة العربية، بل حتى الأعمال المتوفرة غالبيتها مترجم، بما فيها الروايات المقررة في مرحلة الدراسة. يبدو محدثي محبَطاً من هذه الظاهرة، يقول: إن هذه الفئة العمرية (من العرب) لا تبدو متحمسة للقراءة عموماً، وأغلب من يقرأ منها، يتوجه للإنتاج باللغات الأجنبية التي يتوفر فيها عدد لا نهائي من الكتب. الإقبال على القراءة باللغات الأجنبية في المنطقة من قِبل الناشئة، هو تحديداً توجه للكتب باللغتين الإنجليزية والفرنسية، حيث الثقافتان تحفلان بالكتّاب المتفرغين لهذه المرحلة العمرية وبدُور النشر المتتخصصة، وحيث كُتاب الأطفال والناشئة يصبحون نجوماً في المشهد الثقافي ويحصلون على الجوائز المرموقة، تماماً كما هي الحال مع جوائز الأدب الموجَّه للبالغين. إنها صناعة وسوق النشر بمحركات عدة يدعمها الإنتاج السينمائي والتلفزيوني المستمد من إصداراتها. سلسلة روايات «هاري بوتر»، على سبيل المثال، يعود جزء من انتشارها الكبير بفضل تحويلها إلى السينما. ثم أسهم انتشارها السينمائي في تشجيع جمهور اليافعين ممن لم يقرأ الرواية على قراءتها. إنها حلقة مترابطة من التحفيز على التلقي بأنواعه.
كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.
كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.
صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.
على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.
عزت القمحاوي
فيروز في التسعين... يوم ميلاد لا تذكر تاريخهhttps://aawsat.com/%D9%8A%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82/5082957-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B2-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AF-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%B0%D9%83%D8%B1-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%87
فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)
تحوّل الاحتفال بعيد ميلاد فيروز منذ سنوات إلى تقليد راسخ يتجدّد يوم 21 نوفمبر (تشرين الثاني)، حيث تنشغل وسائل الإعلام في مختلف فروعها بهذه المناسبة، بالتزامن مع انشغال وسائل التواصل الاجتماعي بها في حال من الهوس الجماعي. تشهد هذه الاحتفالية المتجدّدة لتعاظم حضور فيروز في لبنان كما في سائر أنحاء العالم العربي، وتؤكد تحوّل اسمها إلى ظاهرة حية عابرة للأجيال وللأعمار، رغم احتجابها بشكل شبه كامل عن الأنظار. من جهة أخرى، يثير هذا الاحتفال السنوي أكثر من سؤال، ويعكس الغموض الذي يلف سيرة فيروز في وجهيها الشخصي والفني، منذ مرحلة البدايات الأولى إلى يومنا هذا.
«ولدت في يومٍ لا تذكر تاريخه»
تقول السيرة الأكثر شيوعاً إن فيروز وُلدت يوم 21 نوفمبر 1935، غير أن الأوراق الثبوتية تقول بشكل لا لبس فيه إن نهاد وديع حداد وُلدت في 20 نوفمبر 1934. في حديث إذاعي أجرته الإذاعة المصرية يعود إلى شتاء 1955، تقول النجمة الشابة إنها في العشرين من عمرها، مما يوحي بأنها من مواليد 1935. وفي تقرير أعدّه محمد سيد شوشه عام 1956، نشر في كتيّب من سلسلة «أنغام من الشرق»، حمل عنوان «فيروز المطربة الخجول»، نقرأ في المقدّمة: «اسمها فيروز، وإنما هي نهاد وديع حداد. لا تتجاوز من العمر الحادية والعشرين، فقد وُلدت في بيروت في يوم لا تذكر تاريخه من عام 1953». في المقابل، نقع على حديث مع فيروز نُشر في مجلة «العروسة» في مايو (أيار) 1957، مع مقدمة تقول: «مولودة في بيروت عام 1934، بس مش عارفة في أي يوم»، مما يوحي بأنها وُلدت في يوم ما من عام 1934، وبأن ولادتها سُجّلت رسمياً في يوم 20 نوفمبر.
فيروز سبقت نهاد
من المفارقات الغريبة، أن اسم فيروز ظهر للمرة الأولى في فبراير (شباط) 1950، فيما لم يظهر اسم نهاد حداد إلا في مطلع عام 1952، كما تكشف المراجعة المتأنية للصحافة التي رافقت دخول فيروز إلى عالم الفن وخطواتها الأولى في هذا المجال. يعكس هذا الظهور المتأخر للاسم الحقيقي، احتجاب صاحبته منذ البدء وراء الاسم الفني الذي عُرفت به. ظهر اسم فيروز للمرة الأولى تحديداً في خبر قصير من بضعة أسطر نُشر في 19 فبراير 1950 تحت عنوان «صوت جديد» في مجلة «الإذاعة»، وهي مجلة خاصة كان يديرها صحافي يُدعى فايق خوري. جاء في هذا الخبر: «قال لنا الأستاذ حليم الرومي إنه اكتشف صوتاً جديداً، يُعتبر من أعذب الأصوات الغنائية التي سمعها في لبنان، وقد أطلق على صاحبته اسم فيروز، وسيقدّمها في برامج محطة الإذاعة اللبنانية بعد أن سهر على تربية حنجرتها وتهذيبها وتهيئة ألحان خاصة بها». جاء حليم الرومي من قبرص إلى لبنان في مطلع 1950، حيث شغل منصب مدير القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية، وأعلن عند انطلاقه في هذا العمل، اكتشافه صوتاً جديداً أطلق على صاحبته اسم فيروز، وقدّم اكتشافه في أغنية باللهجة المصرية من كلمات منير عوض عنوانها «تركت قلبي وطاوعت حبك»، بُثّت في 24 فبراير 1950، كما تشير إلى ذلك جداول برامج الإذاعة المنشورة في المجلات التي تعود إلى تلك الحقبة.
أولى الأغاني
شكّلت «تركت قلبي» بداية لمسيرة فيروز بوصفها مطربة «سولو»، أي منفردة، في فبراير 1950. في الشهر التالي، أدّت أغاني من النوع الذي يوصف بـ«الأغاني الراقصة» ضمن «ركن الشباب»، وكانت من تلحين جورج فرح، وهو موسيقي لبناني عمل طويلاً في الإذاعة، إلى جانب عمله في المعهد الموسيقي الوطني. وفي مايو، أدت «يا حمام يا مروح بلدك» من كلمات فتحي قورة وتلحين حليم الرومي، وهي أغنية من اللون المصري، نعرفها بسبب صدورها على أسطوانة بعد عامين. تواصلت هذه الرحلة، وأثمرت أغاني عدة، منها «رومبا عطشان» في يوليو (تموز)، ثم «رومبا عيون» في أغسطس (آب)، ضمن «ركن الشباب» مع جورج فرح.
في أغسطس نفسه، غنت فيروز «نشيد المهاجرين» من تلحين جورج ضاهر، وهو ملحن لم يستمر طويلاً في العمل الإذاعي كما يبدو، وأدّت معه محاورة. تحدثت مجلة «الإذاعة» عن هذا العمل، وامتدحت غناء فيروز، وقالت إنه «كان جميلاً، وفيه قوة وروعة»، وانتقدت أداء جورج ضاهر، «لأن صوته ضعيف»، ورأت «أن اشتراك فيروز في إنشاد هذا اللحن كان عاملاً أساسياً لنجاحه». ردّ الملحّن على هذا النقد، وقال إن التنويه بغناء فيروز «اعتراف واضح بأن الألحان قد نجحت»، فهو من «وجّه الآنسة فيروز على هذا الضبط في الغناء والأداء، ولم يكن أحد ليلمس أو يسمع مثل ذلك من الآنسة فيروز نفسها قبل هذا التدريب والتوجيه»، «ولو لم يرَ صلاحية الآنسة فيروز لمثل هذه الألحان لما انتخبها من الكورس الذي في الإذاعة».
قدّمت فيروز في نهاية أغسطس من تلحين جورج ضاهر، أغنية من مقام البياتي، مطلعها «يا قلب حاج تنوح»، وأغنية من مقام العجم، مطلعها «نحن البنات اللبنانيات»، ورأى ناقد مجلة «الإذاعة» أن فيروز لم تنجح في أداء اللحن الأول، لأن صوتها غريب عن هذا اللون في الغناء، غير أنها أجادت في الأغنية الثانية، «لأن اللحن وافق صوتها اللامع، فقادته حتى النهاية بجهد مشكور». واصلت فيروز العمل مع جورج فرح وجورج ضاهر ضمن «ركن الشباب»، وقدمت حوارية غنائية عنوانها «أين أنت» مع مغنٍّ يُدعى كلوفيس الحاج، وحوارية عنوانها «سامبا الكروم» مع مغنٍّ آخر يُدعى جورج عازار. ولا نجد في محفوظات الإذاعة اليوم أي أثر لهذا النتاج الفيروزي المبكر.
«حنجرة بعيدة المدى»
في مطلع أكتوبر (تشرين الأول)، نشرت «الإذاعة» تعليقاً حمل عنوان «كورس الإذاعة مدرسة حديثة للمواهب»، وقالت إن هذا الكورس «يضمّ أربع آنسات هنّ ليلى صعيدي، وكروان، وفيروز، وآمال»، وأضافت: «ومن هذا الكورس تخرجت مطربات وبرز مطربون. ومن بين المطربات اللواتي يُرشّحن الآن للتخرج في الكورس، المطربة الناشئة فيروز، التي تملك حنجرة بعيدة المدى، وهي تؤدّي جميع الألوان الغنائية ببراعة، فتراها تؤدي التانغو والفالس بالسهولة نفسها التي تنشد بها الموشحات الأندلسية». ويتّضح من هذا الكلام أن فيروز دخلت الإذاعة كـ «مردّدة» في كورس نسائي مؤلف من أربعة أصوات، وانطلقت سريعاً بصفتها مغنية «سولو» إلى جانب هذا العمل.
تكرّر هذا التنويه بالمغنية الناشئة في نهاية أكتوبر حين نشرت المجلة مقالاً تحت عنوان «فنانات الغد»، تحدّث فيه محمد بديع سربيه عن عدد من المغنيات، وختم بالقول: «أما صوت فيروز الشجي المطرب الذي نسمعه دوماً في حفلات الإذاعة فهو صوت سوف يأخذ مكانته في القريب العاجل بين أحسن الأصوات الغنائية في لبنان».
شراكة تدريجيّة مع عاصي ومنصور
عملت فيروز في الإذاعة ضمن الكورس ومغنية منفردة، وجمعها هذا العمل بالأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذَين سبقاها في الدخول إلى هذا الحقل. وُظّف عاصي في الإذاعة اللبنانية بصفته عازف كمان وملحّناً في شتاء 1948، وعمل منصور معه منذ البداية، كما تشهد مراجعة المجلات الإذاعية. يظهر اسم الرحباني في جداول البرامج الإذاعية منذ مارس (آذار) 1948، ثم يظهر اسم «فرقة الرحباني في أغان منوعة». يتحول هذا الموعد إلى برنامج أسبوعي في الموعد الصباحي نفسه تقريباً.
يتردد ذكر اسم الرحباني في جداول البرامج في عام 1949، واللافت هنا تحوّل اسم الفرقة إلى «ثلاثي رحباني» في بعض الأحيان، بالتزامن مع دخول اسم المطربة نجوى، وهو الاسم الفني الذي عُرفت به سلوى الرحباني، شقيقة عاصي ومنصور. يغيب اسم «الأخوان رحباني» عن الجداول، لكنه يحضر مع نصوص الأغاني الرحبانية التي نشرتها مجلة «الإذاعة»، مما يعني أن عاصي ومنصور اعتمدا هذا الاسم الجامع منذ البداية. بدأ مشوار فيروز مع الأخوين رحباني من خلال عملها في الكورس الإذاعي على الأرجح، وتحوّلت هذه المشاركة إلى شراكة عضوية تدريجياً، وليس تلقائياً، كما يُردّد اليوم.
أشار حليم الرومي إلى هذا التحول في مقال نشره في مجلة «الإذاعة» في أكتوبر 1954، حيث استعاد قصة اكتشافه لفيروز، وكتب في الختام: «من غريب الصدف أني لما قدّمتها للزميل عاصي الرحباني لتشترك معه في البرامج الغنائية الراقصة على وجه التخصيص، قال لي بالحرف الواحد (إن هذا الصوت لا يصلح للأغاني الراقصة وقد يصلح للأغاني الخفيفة فقط). وتدور الأيام وتصبح فيروز أقدر وأنجح مطربة للأغاني الراقصة، ويصبح كيان الرحباني الفني قائماً على هذا الصوت وحده، بشهادة عاصي الرحباني نفسه».
«لا تصلح للغناء»
في المقابل، يروي عاصي الرحباني في حديث نقلته مجلة «أهل الفن» في مايو 1955: «كنت أقوم بإعداد برامج موسيقية غنائية للإذاعة، وفي يوم دعاني حليم الرومي رئيس قسم الموسيقى بالإذاعة للاستماع إلى صوت جديد، فرأيت فتاة صغيرة تحمل كتاباً، ومعها أبوها، وسمعت صوتاً وقلت (لا بأس)، إلا أنني آمنت أنها لا تصلح للغناء. وقال أخي إنها لا تصلح إطلاقاً للغناء الراقص. وبدأت أعلّمها فكانت أحسن من غنّى هذا اللون». وفي حديث يعود إلى عام 1956 نقله صاحب كتيّب «فيروز المطربة الخجول»، يقول عاصي إنه استمع إلى صوتها عند دخولها الإذاعة، وأبدى ملاحظة على لفظها، ورأى أنه يحتاج إلى الصقل. ويضيف: «منذ ذلك الوقت بدأت أسند إليها بعض الأدوار في البرامج التي كنت أقدمها من الإذاعة اللبنانية، فلمست فيها مواهب نادرة في حسن الأداء وسرعة الحفظ بلا خطأ».
بدأ دخول فيروز بصفتها مغنية «سولو» في الأعمال الرحبانية في خريف 1950 على الأرجح، وتمثّل ذلك في أغنية «صباحية» عنوانها «جناتنا»، غير أنها استمرت في نشاطها «المستقل» في تلك الفترة، كما استمر الأخوان رحباني في نشاطهما المعهود. توطّد التعاون بين الأخوين والمغنية الناشئة خلال الأشهر التالية، حيث حلّت فيروز مكان شقيقتهما سلوى، وتحوّلت إلى ركن أساسي في فرقتهما.
إلى جانب نشاطها في هذا الإطار، تعاونت فيروز ضمن عملها في الإذاعة اللبنانية مع الملحنين المعتمدين في هذه المحطة، ومنهم خالد أبو النصر الذي غنت من تلحينه أبياتاً مختارة من قصيدة «يا أيها الشادي» للشاعر المَهجري إيليا أبو ماضي. وتقلّص هذا التعاون تدريجياً في السنوات التالية.
شريكة المغامرة الرحبانية
مع عاصي ومنصور، دخلت فيروز محطة «الشرق الأدنى» التابعة للإذاعة البريطانية، وحظيت معهما برعاية صبري الشريف، مراقب البرامج الموسيقية والغنائية في هذه المحطة، الذي تبنّى المغامرة الرحبانية باكراً منذ 1949. دخلت هذه المغامرة في منعطف جديد حين تبناها بدوره مدير الإذاعة السورية أحمد عسّه في خريف 1951، وأولاها اهتماماً خاصاً، كما تشهد سلسلة من التسجيلات المتنوعة من محفوظات هذه الإذاعة، تمثّل اليوم ما بقي من نتاج الأخوين رحباني الأول مع فيروز.
من المفارقات المثيرة للعجب، أن صوت فيروز شاع في تلك الفترة المبكرة من خلال ثلاث محطات إذاعية، وتردّد الاسم الفني الذي عُرفت به صاحبته في الصحافة، غير أن اسمها الحقيقي لم يُذكر إطلاقاً كما يبدو، واللافت أن وجهها ظلّ محتجباً بشكل كامل على مدى ما يقارب السنتين، إلى أن نشرت مجلة «الصياد» أول صورة لهذا الوجه في 13 ديسمبر (كانون الأول)، وذلك ضمن ركن أسبوعي صغير في صفحة «أهل الفن» يحمل عنوان «أرشيف الفن»، ضمّ كذلك تعليقاً مثيراً يشير للمرة الأولى إلى وضع فيروز الاجتماعي.