مسجد القبلتين.. قصة تحوُّل القبلة لبيت الله الحرام

تسجله ذاكرة التاريخ الإسلامي كأحد أبرز المعالم التاريخية

مسجد القبلتين.. قصة تحوُّل القبلة لبيت الله الحرام
TT

مسجد القبلتين.. قصة تحوُّل القبلة لبيت الله الحرام

مسجد القبلتين.. قصة تحوُّل القبلة لبيت الله الحرام

مسجد القبلتين، مسجد ذو مكانة في ذاكرة المسلمين على مستوى العالم، وله مكانته عند المهتمين بالتاريخ الإسلامي وكل من يزور المدينة المنورة، حيث صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وشهد تحوّل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، إضافة إلى أنه مثبت في السنة من خلال الأحاديث النبوية، ومسجل في ذاكرة التاريخ الإسلامي باعتباره أحد أهم وأبرز المعالم التاريخية ومن أعظم الآثار النبوية في المدينة المنورة بعد المسجد النبوي ومسجد قباء. وتأتي تسميته بالقبلتين لما ورد أن النبي الكريم قد صلى باتجاه قبلة بيت المقدس فترة من الزمن بعد قدومه المدينة كما جاء في صحيح مسلم وصحيح ابن خزيمة: سِتَّة عَشَرَ شَهْرًا، ثم أمر بتحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة، وكان ذلك في شعبان، وقيل في رجب من العام الثاني من الهجرة.
ويعد مسجد القبلتين من المساجد التي صلى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقال له مسجد بني سلمة، وتذكر مصادر أن بني سواد بن غنم بن كعب من قبيلة بني سلمة الخزرجيين هم الذين أقاموه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أعاد بناءه فيما بعد والي المدينة المنـورة عمر بن عبد العزيز وفي عام (87هـ - 706م)، وجدده الشجاعي شاهين الجمالي في عام 893هـ، وفي عهد السلطـان العثماني سليمان القانوني أصلحت عمارة المسجد عام (950هـ - 1943م) وكان بناؤه قديمًا مكونا من مواد البناء آنذاك وهي اللبن والسعف وجذوع النخل.
ويقول الدكتور عبد الرحمن الحجيلي أستاذ التاريخ والباحث بتاريخ المدينة المنورة، عن المسجد وأهميته «مسجد القبلتين من أقدم المساجد بالمدينة، بُني منذ هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما زار إحدى قبائل الأنصار».
وأضاف: «وشهد المسجد حدثًا إسلاميًا تاريخيًا بتحوّل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام، مؤكدا أنه من المساجد التي وجدت العناية والاهتمام، والنبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وكان الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتحرى المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومنها مسجد القبلتين، كما أن بناءه قديم شيد في القرن الأول من الهجرة وجدد بناءه الخليفة عمر بن عبد العزيز عندما كان أميرا للمدينة المنورة».
وفيما روي عن البخاري عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إِلى الكعبة، فأنزل الله عز وجل: (قد نرى تقلب وجهك في السماء) فتوجه نحو الكعبة.
وروى ابن النجار عن عثمان بن محمد قال: زار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من بني سلمة يقال لها: أم بشير في بني سلمة فصنعت له طعامًا فجاء الظهر فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه في مسجد القبلتين الظهر فلما صلى ركعتين أمر أن يتوجه إِلى الكعبة، فاستدار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيه نزل الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - بالتحول إلى قبلة الكعبة المشرفة بعد أن كانت القبلة هي بيت المقدس، كان ذلك يوم 15 شعبان من العام الثاني للهجرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند صلاة الظهر. نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وبعد أن أتم ركعتين نزل عليه الوحي بالتحول إلى الكعبة المشرفة في قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) سورة البقرة آية رقم (144)، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وكانت يومئذ أربع ركعات منها ثنتان إِلى بيت المقدس وثنتان إِلى الكعبة، ومنذ ذلك الحين عرف المسجد باسم (مسجد القبلتين) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه شطر صلاته قبل المسجد الأقصى والشطر الآخر قبل المسجد الحرام.
ويقع مسجد القبلتين في الجهة الغربية من المدينة في منطقة بني سلمة، وتحديدًا في هضبة (حرة الوبرة). كانت مساحة المسجد قديمًا تبلغ أربعمائة وخمسة وعشرين مترًا مربعًا، وفي العهد السعودي أمر الملك عبد العزيز بتجديد عمارته عام 1931 وتوسعته وبناء مئذنة وإقامة سور حوله.
ونظرًا للأهمية التاريخية لمسجد القبلتين أمر خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل فهد بن عبد العزيز آل سعود بإِعادة بنائه في عام 1987. وتوسعته وفق أحدث التقنيات والتصاميم الهندسيـة مع إضفاء اللمسة الهندسيـة المعمارية ذات الطابع الإسلامي عليه ليكون مهيأ لأكبر عدد من الزوار والمصلين، وجرى بناء قاعة جديدة كاملة للصلاة فيها ومكان مخصص للنساء للصلاة، كما أنشئت صالة للوضوء، وصبغ حجارة المسجد باللون الأبيض، مع إضافة تجديدات أخرى تشمل الإنارة وأعمال الزخرفة والسجاد والتكييف والتدفئة وغيرها من التحديثات التي أضافت للمسجد طابعًا أثريًا ورونقًا جميلا رائعًا.
ويقف مسجد القبلتين بمبناه الجديدة على مثلث يتألف من دورين على أربع جهات تشمل الواجهة الرئيسية للمسجد تطل على الشارع الرئيسي بواجهة طولها 83 مترًا، أما الجهة الجنوبية فيبلغ طولها 95 مترًا، والجهة الغربية بواجهة طولها 82 مترًا.
وللمسجد منارتان وتعلوه قبتان ومدخل للرجال وآخر منفصل للنساء، ويستقر على مساحة إجمالية تبلغ 3920 مترا مربعا، ويتوسطه قاعة صلاة بمساحة 1190 مترا مربعا، وتتسع لألفي مصل، وتشتمل هذه القاعة على شرفة بمساحة 400 متر مربع مخصصة للنساء على دور مرتفع إِلى الخلف من القاعة، إِضافة إِلى ذلك فإِن ثلاثة صفوف تطل على قاعة الصلاة من الأعلى خصصت لتحفيظ القرآن الكريم.
وتجسد فكرة التصميم قاعة الصلاة على سلسلة قناطر قائمة على دعائم تسند على خمسة عقود موازية لجدار القبلة بتقاطع وسط العقود بقبتين وتشكل محورًا وسطيًا يشير إِلى جهة مكة المكرمة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)