مع حلول منتصف الليل والدخول في العام الجديد، سوف تكر سبحة الكلمات التقليدية التي سيوجهها قادة دول الاتحاد الأوروبي لشعوبهم، والتي ستتضمن، من غير شك، نظرة سريعة لما شهده الاتحاد، في الأشهر الـ12 المنصرمة، من صعوبات ومآس، ولكن أيضاً استشراف ما يحمله العام الجديد. والتقليد المعمول به يستبطن أن يسعى المسؤولون إلى بث بعض التفاؤل في نفوس مواطنيهم والإبتعاد عن رسم صورة سوداوية لما ينتظرهم من صعوبات في المقبل من الأيام، أكان على المستوى الوطني أو الإقليمي. بيد أن المهارة الخطابية عاجزة عن التستر على التحديات المتشابهة التي تنتظر الدول الـ27 المنضوية تحت الراية الأوروبية، رغم الخصوصيات التي تتمتع بها كل منها على حدة.
- أوكرانيا والحرب في أوروبا
تبيِّن القراءة الشاملة أن 5 تحديات رئيسية ستفرض نفسها على المسؤولين الأوروبيين في 2023، وعلى رأسها الحرب الروسية على أوكرانيا المتواصلة منذ ما يزيد على 10 أشهر. ولا شيء يشي، في الوقت الحاضر، بأنها ستخبو أو أنها ستتوقف. ومن الزاوية الأوروبية، تمثل المحافظة على موقف أوروبي موحد التحدي الأكبر بالنسبة للقارة القديمة، خصوصاً أن استدامة الحرب تعني مزيداً من الصعوبات الاقتصادية والمالية والمعيشية للمواطنين. وحتى اليوم، نجح الأوروبيون في التغلب على انقساماتهم وبلوروا مواقف موحدة بالنسبة لوقف استيراد الغاز والبترول الروسيين، وسعوا مع الولايات المتحدة ومجموعة السبع، لفرض عزلة سياسية ودبلوماسية واقتصادية وتجارية وثقافية ورياضية على روسيا، بالتوازي مع عقوبات صارمة تصيبها في كل المجالات وتوفير دعم مالي وعسكري لأوكرانيا غير مسبوق. بيد أن يوميات الحرب تبين أن ذلك كله ليس كافياً.
صحيح أن الغرب، ومنه أوروبا، نجح في إبقاء الحرب داخل أوكرانيا ومنع تحولها إلى مواجهة مباشرة بينه وبين روسيا، إلا أن استمرارها حمّال مخاطر، وعودة الطرفين إلى طاولة المفاوضات تبدو بعيدة جداً رغم الحديث عنها. ويجمع الخبراء على أن الصعوبة الرئيسية تبدو مزدوجة؛ فمن جهة يبدو التوفيق بين مطالب الطرفين المتناقضة بشكل جذري بالغ الصعوبة، وأنه لا أحد مستعد للتراجع. ومن جهة ثانية فإن غياب «الوسيط» القادر على السير بدبلوماسية نشطة وتدوير الزوايا والتحدث للطرفين المتنازعين تترك الأبواب مُشرعة أمام تواصل الحرب.
وأوروبا تبدو على أنها الخاسر الأكبر، حيث إنها لا تملك أوراقاً ضاغطة قياساً بقدرة الولايات المتحدة على التأثير في مجرياتها من خلال الدعم غير المحدود لكييف، ولا ترى كيفية التوصل إلى توافقات بشأن هندسة أمنها الجماعي، فيما الحرب مستعرة على أراضيها.
ولأن للحرب تبِعات، فإن التحدي الثاني لأوروبا عنوانه تواصل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وأمن التزود بالطاقة. فمن جهة، ينخر التضخم مدّخرات الأوروبيين، فيما غلاء المعيشة والفوائد والأسعار، بما في ذلك المواد الأولية والأساسية يزيد من تهميش الشرائح الأكثر هشاشة. وخطورة الأزمة الراهنة أنها تحل بعد عامين من استفحال جائحة «كوفيد-19» التي استنفدت إلى حد كبير قدرات الحكومات على السير ببرامج الدعم المالي والاقتصادي للأفراد والشركات.
وتجهد الحكومات الأوروبية في ابتداع المسكنات التي من شأنها تجنيب البلدان حركات اجتماعية واسعة وإضرابات تشل الاقتصاد. والحال أن ما تشهده الكثير من البلدان الأوروبية من حراك اجتماعي للمطالبة برفع الرواتب أو بفرض ضرائب إضافية على كبرى الشركات والثروات يدل على أن الخطر حقيقي. ويكفي التذكير بما عرفته فرنسا زمن حراك «السترات الصفراء» لتوقع مستوى الأخطار، خصوصاً أن أسعار المحروقات تحلق بشكل غير مسبوق، فضلاً عن أن توفير الغاز والطاقة الكهربائية لا يبدو مضموناً للجميع في فصل الشتاء. وتبيِّن الدراسات الاقتصادية أن النمو في الفضاء الأوروبي سيكون إما محدوداً جداً أو أنه عديم، ما يعني أن الرهان عليه لتوفير الاستقرار والازدهار خاسر سلفاً.
- تحدي البيئة والهجرات
بالتوازي مع ما سبق، ثمة تحديان متداخلان يتعين على أوروبا التصدي لهما، الأول هو التحدي البيئوي، والثاني تواصل الهجرات الجماعية وغير الشرعية باتجاه القارة القديمة.
فقد بيّنت الكوارث البيئية التي ضربت العالم في 2022، من ارتفاع استثنائي لدرجات الحرارة، معطوفاً على الحرائق والجفاف، إلى جانب الفيضانات، وكلها أصابت مناطق واسعة في العالم وعشرات الملايين من البشر، أن محاربة ارتفاع درجات حرارة الكوكب أصبحت أمراً مُلحاً لا يتحمل التأجيل.
وليس سراً أن التغيرات المناخية بما تتسبب به من مجاعات ونزاعات وحروب تُعدّ سبباً رئيسياً لتواصل الهجرات من المناطق الفقيرة في آسيا وأفريقيا باتجاه أوروبا عبر المسالك المعروفة، وعلى رأسها البحر الأبيض المتوسط. وتبيِّن الإحصائيات أن الهجرات إلى بلدان الاتحاد الأوروبي ازدادت بنسبة 77 % عما كانت عليه في العام السابق، وهي تثير انقسامات داخل الاتحاد، من جهة، لجهة كيفية التعامل معها وكيفية توزيع اللاجئين والمهاجرين، ومن جهة ثانية تتسبب بأزمات سياسية واجتماعية داخل البلدان المضيفة.
ولا شك أن الحرب في أوكرانيا فاقمت الأرقام بسبب الهجرات المكثفة للأوكرانيين في الأشهر الأولى للحرب، إلا أن الهجرات القادمة من خارج بلدان الاتحاد ازدادت بدورها. ولحماية نفسها، عملت 12 دولة أوروبية على بناء سياجات على أقسام من حدودها لمنع تدفق المهاجرين. وتفيد أرقام الاتحاد بأن 19 سياجاً جرى إنشاؤها بطول لا يقل عن 2000 كيلومتر، كما عمد عدد من الدول الأوروبية إلى التخلي عن قواعد التنقل الحر في إطار فضاء شنغن وفرضت الرقابة والتفتيش على ثغراتها الحدودية.
ورغم أن الجميع يدرك أن وقف الهجرات سيكون مستحيلاً، وأن التخفيف من وطأتها يفترض معالجتها في بلدان «المصدر» من خلال توفير المساعدات الاقتصادية وغير الاقتصادية لها، لكن ما هو حاصل يبقى، حتى اليوم، دون الحد المطلوب، مما يعني تواصل الهجرات وعجز التدابير الأمنية والقانونية وحدها عن معالجتها.
- اليمين المتطرف
يُعدّ وصول اليمين المتطرف أحد التحديات الرئيسية في أوروبا، وآخِر تجلياته وصول جيورجيا ميلوني، رئيسة حزب «فراتيلي إيطاليا (إخوان إيطاليا)» إلى السلطة في روما، ما نُظر إليه على أنه تهديد للقيم التي قام على أساسها الاتحاد الأوروبي. وليست إيطاليا وحدها التي تعرف صعود اليمين المتطرف. ففي فرنسا حملت الانتخابات الرئاسية الأخيرة مرشحة اليمين المتطرف مارين لو بن إلى الجولة الحاسمة وللمرة الثانية بمواجهة الرئيس ماكرون وحصد حزبها، لأول مرة في تاريخه،79 نائباً في البرلمان. وانضمت إيطاليا إلى بولندا والمجر والسويد، إلى حد ما، وقبلها النمسا، إلى نادي الدول التي يتحكم اليمين المتطرف بإدارتها؛ إما منفرداً أو في إطار تحالفات ظرفية. وثمة استحقاقات انتخابية عدة في 2023 أبرزها في بولندا وإسبانيا... بيد أن المخاطر لا تتمثل في الانتخابات وحدها، بل في الإيديولوجيا التي يبثّها اليمين المتطرف الذي يتقدم في غالبية الدول الأوروبية وفي قدرته على التأثير على القرارات الحكومية، ومنها كيفية التعامل مع الأجانب وخصوصاً الهجرات غير الشرعية. صحيح أن أياً من الدول المعنية لم تقرّ، كما فعلت بريطانيا، ترحيل المهاجرين إلى أفريقيا. إلا أن الأجواء العامة التي يبثها اليمن المتطرف حمالة مخاطر على الأمن الاجتماعي الداخلي للبلدان المعنية وعلى البناء الأوروبي بشكل عام.
يبقى هناك تحديان إضافيان؛ الأول الخوف من عودة جائحة كورونا، وهذه المرة بمتحورات جديدة، خصوصاً بعد أن شرعت الصين أبوابها للسفر، فيما تفشِّي الوباء داخلها ينذر بعواقب وخيمة. وبدأ الأوروبيون دراسة كيفية التعاطي مع هذه الإشكالية الجديدة التي، في حال تفاقمها، ستزيد بلا شك من الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وستشد أوروبا إلى الخلف. وأخيراً تتجه أنظار الأوروبيين إلى التطورات الحاصلة في كوسوفو بين الأكثرية الألبانية من جهة، والأقلية الصربية «السلافية» من جهة ثانية، والتي كادت تفضي في الأيام الأخيرة إلى انفجارات مسلَّحة. ولم ينس الأوروبيون وحشية الحروب المتعددة التي عرفتها يوغوسلافيا السابقة في كرواتيا والبوسنة وكوسوفو، وهم حريصون على ألا تنشب حرب جديدة إلى جانب أوكرانيا. من هنا الضغوط القوية التي مُورست على بلغراد وبريشتينا للجم الاندفاع نحو المواجهة، ولكن هل ستكون كافية لمنع تجدد التصعيد في المقبل من الأيام؟
5 تحديات رئيسية تواجه الاتحاد الأوروبي في 2023
5 تحديات رئيسية تواجه الاتحاد الأوروبي في 2023
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة