في سنة يمكن وصفها بأنها سنة الأزمات المتعددة والمتشابكة والممتدة، نجحت قمة شرم الشيخ للمناخ التي عُقدت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في التوصل لنتائج إيجابية غير مسبوقة وغير متوقعة أيضاً، خصوصاً في خضمّ الأزمات العالمية المتفاقمة. فبعد سنتين من مصارعة الجائحة التي اندلعت في سنة 2020 ترقب الناس انفراجة تعقب التعافي منها، وإن استمرت بلدان حتى اليوم في المعاناة من تداعياتها الصحية، ثم تسببت الجائحة وبعض أساليب التصدي لها في أزمات شملت سلاسل الإمداد وفوائض في السيولة النقدية اشتركت في رفع الأسعار، بما في ذلك تكاليف السلع الأساسية كالغذاء والنفط. ثم بدأت البنوك المركزية الرئيسية بعد تردد في التعامل مع التضخم برفع أسعار الفائدة، وحاولت أن تعوض تأخرها بمعدلات متسارعة في رفع أسعار الفائدة فاضطربت الأسواق وارتفعت تكاليف التمويل وتراجعت معدلات النمو الاقتصادي، فيما عانت اقتصادات مختلفة متقدمة ونامية من بوادر أعراض الركود التضخمي.
وكأن هذه الأزمات لا تكفي. تصاعدت التوترات الجيوسياسية عاتية حتى بلغت حالة حرب في أوكرانيا لم تشهد أوروبا مثلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وسببت الحرب نقصاناً في وفرة القمح وزيوت الطعام وارتفاعاً في أسعار الطاقة، وتراجعت معدلات النمو الاقتصادي وزادت معدلات التضخم مرة أخرى وارتفعت معها الإجراءات النقدية لتقييد الائتمان وسحب السيولة برفع أسعار الفائدة فازدادت مخاطر ديون البلدان النامية لارتفاع تكلفة التمويل وتعثر بعضها بالفعل في السداد.
كما ارتفعت أعداد من يعانون من الفقر المدقع لأول مرة منذ 30 عاماً بسبب الجائحة؛ فخسارة الفقراء للدخل كانت ضعف ما خسره الأغنياء، وكانوا أكثر تأثراً بتراجع خدمات التعليم والرعاية الصحية. وبتوالي الصدمات والمعاناة مع آثار أزمات المناخ والصراعات الدولية وارتفاع أسعار الغذاء والوقود، فإن عدد من يقعون تحت خط الفقر المدقع قد تجاوز 700 مليون إنسان في عام 2022 بعدما زاد عددهم 70 مليوناً، وفقاً لإحصاءات البنك الدولي. وهناك تقديرات أخرى أكثر ارتفاعاً للفقر المدقع كتلك الصادرة عن منظمة «أوكسفام»، على سبيل المثال. وتشترك التقديرات في أن العالم قد عاد إلى ما كان عليه الوضع في عام 2015 عندما دشنت أهداف التنمية المستدامة بخسارة أي تقدم تم إحرازه في الهدف الأول المتعلق بالقضاء على الفقر المدقع في عام 2030. ترافق مع هذا ارتفاع في حالات الجوع وسوء التغذية، مع زيادة التفاوت في الدخول والثروات داخل البلدان مع زيادة فجوات الدخل ومستويات المعيشة بين البلدان المتقدمة والنامية.
لا يمكن تجاهل هذه الأزمات والتطورات وأوضاع الاقتصاد السياسي العالمي عند تقييم نتائج قمة شرم الشيخ للمناخ في عام 2022 أو استشراف ما ستسفر عنه قمة الإمارات للمناخ في عام 2023. وقد أحسنت رئاسة قمة شرم الشيخ صنعاً بتركيزها على «إنفاذ التعهدات» التي سبق للدول الالتزام بها في قمم ومؤتمرات سابقة للأطراف المشاركة في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة للتغير المناخي. وهذا النهج العملي ذاته هو الذي تطلب أن يكون تناول العمل المناخي وفق إطار متكامل يبتعد عمّا تم اعتياده في بعض الدوائر باختزال للعمل المناخي في حفنة من الإجراءات المنعزلة عن أهداف النمو الشامل لقطاعات الاقتصاد كافة والتنمية المستدامة.
ففي عالم يعاني من أزمات متشابكة للطاقة والغذاء والديون كان من الواجب إدماج حلول العمل المناخي فيها وبمعالجة تراعي أن يكون العمل المناخي في مقدمة الأولويات الجيوسياسية والاقتصادية لما بعد قمة شرم الشيخ، وهو ما كان. فإذا رأينا أن اتفاق باريس معنيٌّ بأربعة محاور للعمل المناخي: الأول هو التخفيف فسنجد الطاقة وأزمتها في القلب منه، والثاني هو التكيف فسنجد الغذاء وأزمته وارتباطهما بالزراعة وإدارة موارد المياه في مقدمة أولوياته، والثالث هو التمويل فسنجد بدهياً أنه محكوم بمدى القدرة على إدارة أزمة الديون الدولية ومنعها من الاستفحال وتقويض احتمال تمويل العمل والمناخ برمته، والرابع هو الملف الخلافي القديم للتعامل مع الخسائر والأضرار التي يسببها تغير المناخ.
خلصت نتائج شرم الشيخ إلى إجراءات ومبادرات محددة في إطار عمل تراكمي بُني على القواعد التي أرساها اتفاق باريس لعام 2015، ودعمته القمم التالية حتى غلاسكو في عام 2021 وما أتت به من تحالفات وتعهدات. وأهم هذه النتائج هو النجاح السياسي والفني والتفاوضي بالاتفاق على تأسيس صندوق الخسائر والأضرار، وهو نجاح غير مسبوق سيرتبط بقمة شرم الشيخ. فقد شهد العالم صنوفاً من المعاناة بين جفاف وفيضانات وحرائق سببها تدهور المناخ، وكانت باكستان من أكثر الدول التي تعرضت لفيضانات عنيفة في عام 2022 تسببت بفقدان أرواح بريئة وتدمير مساكن وتشريد وتهجير أكثر من 30 مليون باكستاني، كما ألحقت أضراراً بالغة بالبنية الأساسية واقتصاد البلاد بما عرضها لأزمات غذائية وصحية بالغة. وسيشهد العام الجديد حتى انعقاد القمة المقبلة في دبي متابعة تأسيس صندوق الخسائر والأضرار، من خلال اللجنة الانتقالية ذات الأعضاء الأربعة والعشرين، يمثلون البلدان النامية والمتقدمة، كما ستقدم توصيات بشأن تفعيل الصندوق وحوكمته ومصادر تمويل الصندوق وأولويات توجيهها.
أما ما يمكن عدّه من نتائج شرم الشيخ مما حقق تقدماً مُرضياً فيشمل مبادرات وإجراءات عدة منها إطلاق أجندة شرم الشيخ للتكيف المناخي وتشمل مجالات العمل في قطاعات الغذاء والزراعة، والمياه والطبيعة، والمناطق الساحلية والمحيطات، والبنية الأساسية، والتجمعات السكنية. كما تم تأسيس نظام عالمي للإنذار المبكر للتعامل مع أزمة المناخ وفقاً لمبادرة الأمين العام للأمم المتحدة. وتم إصدار تقرير الخبراء رفيعي المستوى الذي تم بتكليف من الأمين العام للأمم المتحدة، وهناك أهمية لمتابعة توصياته العشر للتعامل مع المعايير والإجراءات المتعلقة بتعهدات الحياد الصفري للانبعاثات الضارة، والتصدي لمخاطر الغسل الأخضر وتنظيم أسواق التمويل المستدام للاقتصاد المستدام.
كما برز ملف الانتقال العادل في مجالات الطاقة بما في ذلك الاستثمارات المشتركة للتخارج من الطاقة الأحفورية، وزيادة استثمارات الطاقة المتجددة، والتعامل مع الآثار الاقتصادية والاجتماعية لعملية التحول. وجاء هذا متزامناً مع الإعلان عن مشروع للمشاركة مع إندونيسيا في إطار «برنامج التحول العادل للطاقة» بمقدار 20 مليار دولار بحزمة تمويل مقدمة من شركاء البرنامج. كما جرت متابعة لمشروع جنوب أفريقيا للتحول العادل للطاقة الذي تم الإعلان عنه في غلاسكو العام الماضي بمقدار 8.5 مليار دولار. وأعقب مؤتمر شرم الشيخ بأسابيع الإعلان عن مشروع ثالث للتحول العادل للطاقة في فيتنام بمقدار 15.5 مليار دولار بمشاركات حكومية وخاصة. وبشكل عام، وفي ظل ديناميات وتداعيات ما بعد الحرب في أوكرانيا، حرصت القمة ومؤتمر الأطراف بشرم الشيخ على عدم التراجع عما التزمت به قمم سابقة من تعهدات تتعلق بتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ واستكمال برنامج التخفيف اعتماداً على مخرجات تحالف غلاسكو للمناخ.
وقد جاء تركيز مخرجات شرم الشيخ على ما يلزم لإنفاذ التعهدات من تمويل وتعاون تكنولوجي وفني. وشمل ملف التمويل والاستثمار وتطوير المشروعات محاور عدة ومبادرات محددة ألخص منها ما يأتي:
> إعلان مبادرة السوق الأفريقية للكربون مع البدء في وضع إطارها التنظيمي وآليات التعامل والتسعير بناءً على أفضل الممارسات العالمية.
> استعراض المستجدات في الابتكار المالي لتخفيض الديون ومبادلتها باستثمارات في المناخ والطبيعة في البلدان النامية والبناء على تجارب سيشلز وبيليز وبربادوس وتدعيم التعاون الفني مع المؤسسات المالية العالمية في هذا الشأن.
> التزام مؤسسات التأمين بتقديم تغطية تأمينية في أفريقيا ضد مخاطر المناخ بمقدار 14 مليار دولار وفقاً لإعلان نيروبي وتحديد أدوارها خصوصاً في مجال التكيف.
> طرح نتائج المبادرة الإقليمية لمشروعات العمل المناخي بالتعاون بين الرئاسة المصرية لقمة المناخ واللجان الاقتصادية الإقليمية للأمم المتحدة ورواد المناخ وإصدار تقرير يحتوي على خمسين مشروعاً نموذجياً على مستوى العالم في مجالات التخفيف والتكيف، بتكلفة استثمارية قدرها 89 مليار دولار.
> عرض نتائج مبادرة المشروعات الخضراء الذكية للمحافظات المصرية كنموذج لتوطين العمل المناخي، والاتفاق مع عدد من المنظمات والمؤسسات الدولية لمشاركة الدروس المستفادة.
> تدشين تقرير الخبراء بشأن تمويل العمل المناخي والتنمية بدعوة لجنة مستقلة من رئاستي قمتي غلاسكو وشرم الشيخ لتحديد فجوات التمويل وكيفية تجسيرها من المصادر المحلية والخارجية والعامة والخاصة، وهو ما يتضمن تفنيد دور المائة مليار دولار كتمويل سنوي متعهَّد به منذ مؤتمر كوبنهاغن في عام 2009، وهو ما لم يتم الوفاء به بالكامل في أي سنة.
وجدير بالذكر أن التوصيات المحددة لإصلاح البناء المالي العالمي للإسهام في تمويل العمل المناخي والتنمية المستدامة تحتاج إلى متابعة لتنفيذها. فالنظام المتَّبَع لتمويل العمل المناخي والتنمية مفرط في الاعتماد على أدوات الدين، ويتسم بعدم الكفاية وعدم الكفاءة وعدم العدالة. ولهذا ينبغي تحديد شروط التمويل لتتعامل مع هذه التحديات بما في ذلك ما أقترحه بشأن إمكانية توفير تمويل طويل الأجل بتكلفة لا تتجاوز 1% وبفترة سماح لا تقل عن عشر سنوات، تُضاف إليها عشرون سنة لإتمام السداد، مع سرعة إتاحة التمويل المتفق عليه للمشروعات بتيسير الإجراءات ورفع كفاءتها. مع ضرورة تفعيل نظم المشاركة مع القطاع الخاص من خلال تحالفات السباق نحو الحياد الكربوني والتكيف وما يمكن أن يقدمه تجمع غلاسكو المالي للصافي الصفري من تمويل للاستثمارات.
ورغم هذا الجهد وما تم إنجازه في شرم الشيخ، فهناك أهمية لإدراك خطورة ما آلت إليه أزمة المناخ. فوفقاً للتقرير العلمي الصادر عن الأمم المتحدة هناك ضرورة لتخفيض الانبعاثات الضارة بما لا يقل عن 45% حتى عام 2030. ولسنا عالمياً على المسار اللازم لتحقيقه الذي يتطلب تخفيضاً للانبعاثات الضارة بمقدار 5.8% للوصول إلى هدف الحياد الكربوني، وفعلياً منذ عام 1980 حتى عام 2021 أفضل ما تم التوصل إليه من تخفيض هو 1.3% سنوياً في المتوسط، وهو ما دعا الاقتصادي الحائز على جائزة «نوبل» مايك سبنس إلى مراجعة الالتزام الدولي في تخفيض الانبعاثات الضارة التي لا تتجاوز حتى الآن ربع الجهد المطلوب. ويأتي ذلك من خلال التركيز على ما يمكن أن تقوم به الدول المسؤولة عن نصف الانبعاثات الضارة وهي الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان والهند وكندا وأستراليا، وهي جميعها أعضاء في مجموعة العشرين المسؤولة مجتمعةً عن 70% من الانبعاثات الضارة. وهذه المجموعة لديها التمويل اللازم والتكنولوجيا الممكنة لتحقيق هذه الأهداف، إذا أرادت.
لقد حققت «شرم الشيخ» نتائج فاقت التوقعات، خصوصاً في ظل الظرف الدولي الراهن، ومنحت آمالاً جديدة لإمكانيات التعاون الدولي يمكن البناء عليها ودفعها قدماً في المجالات الأربعة للعمل المناخي من تخفيف وتكيف وتمويل فضلاً عن ملف الخسائر والأضرار. وهو ما سيكون محل متابعة من الدول الأعضاء المشاركة العام المقبل في قمة الإمارات، خصوصاً أن هناك التزاماً بعقد مراجعة شاملة وتقييم للعمل المناخي وفقاً لتقارير جارٍ إعدادها. وقد أكدت اللجنة الوطنية العليا للإشراف على أعمال التحضير لمؤتمر الإمارات للمناخ من خلال تصريح لرئيسها الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، بعد اجتماعها الذي عُقد مؤخراً، التزام رئاسة القمة الثامنة والعشرين في إعدادها لخريطة الطريق لمسار العمل المقبل والطموحات المناخية بالبناء على مخرجات القمة السابعة والعشرين بشرم الشيخ. ويُظهر هذا مجدداً أن مستقبل هذا العالم معلق على تحقيق وثبات تراكم ملموس في مجالات العمل المناخي من كل قمة إلى اللاحقة عليها، من أجل حماية الأرض وعموم الناس.
- المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لتمويل أجندة 2030 للتنمية المستدامة، ورائد المناخ للرئاسة المصرية لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخي «كوب 27»