«رشيد»... رحلة بين التاريخ والجغرافيا في 24 ساعة

ملتقى النيل بالبحر المتوسط

رشيد من المناطق المصرية الجميلة
رشيد من المناطق المصرية الجميلة
TT

«رشيد»... رحلة بين التاريخ والجغرافيا في 24 ساعة

رشيد من المناطق المصرية الجميلة
رشيد من المناطق المصرية الجميلة

هنا في أقصى شمال مصر، حيث يلتقي نهر النيل العذب بالبحر المتوسط المالح، تقع مدينة «رشيد» على رأس فرع دلتا النيل الغربي، والذي سُمي باسمها، والتي باتت وجهة جديدة للسائحين تضاف للمزارات الأثرية العريقة بمصر، كونها ثاني المدن المصرية بعد القاهرة ما زالت تحتفظ بآثارها الإسلامية، التي ترجع للعصر العثماني.
تمتلك رشيد تميزاً جغرافياً وتاريخياً وتراثياً، وهي المقومات التي جعلت هذه المدينة - التي تبعد عن القاهرة مسافة 263 كيلومتراً جهة الشمال و60 كيلومتراً شرق الإسكندرية وتتبع محافظة البحيرة إدارياً - في مكانة سياحية مرموقة، فبالإضافة للموقع الجغرافي المتميز، مرت المدينة بأحداث مهمة عبر التاريخ، إليها يُنسب «حجر رشيد»، الذي فك رموز الحضارة المصرية القديمة، والموجود حالياً في المتحف البريطاني، والذي تم الاحتفاء بمرور 200 عاماً على فك رموزه قبل أيام قليلة.
كذلك تحتل مكانة تراثية مهمة، بما تمتلكه من مقومات أثرية وحضارية، ومن ثم كان عمل الحكومة المصرية حالياً لوضعها على قوائم التراث العالمي بمنظمة اليونيسكو، وتحويلها لمتحف مفتوح، ووضعها على خريطة السياحة العالمية.

طاحونة «أبو شاهين» أقدم طاحونة في مصر لطحن الغلال (الصفحة الرسمية لمحافظة البحيرة على «فيسبوك»)

المعالم السياحية

الوصول إلى رشيد يكون بشكل أسهل من الإسكندرية، فالرحلة بينهما لا تتجاوز 60 دقيقة، وهناك رحلات يومية تعلن عنها الشركات السياحية بالإسكندرية إلى رشيد، والتي يكون متاحاً فيها أن يصحب الزائرَ مرشد سياحي للتعريف بالمعالم، أما إذا رغب الزائر في التوجه بمفرده، فهو أمر متاح بالسيارة أو الحافلات.
بالوصول إلى رشيد، يكون الزائر على موعد مع رحلة ترفيهية ثقافية، بداية من التنقل بين معالم المدينة، التي تضم نحو 22 منزلاً وحماماً وطاحونة، بالإضافة إلى أحد عشر مسجداً وزاوية وثلاثة أضرحة. ثم جولة في شوارع المدينة وأسواقها، إلى جانب القيام برحلة نيلية، وهي المعالم التي يمكن زيارتها جميعاً خلال 24 ساعة فقط.
مع بدء الزيارة لا بد لزائر رشيد أن يتوقف عند المحطات الأساسية التالية:

متحف رشيد الوطني

يتكون المتحف من مبنيين أحدهما مبنى أثري يتكون من ثلاثة طوابق، وكان في الأصل بيت «عرب كلي حسين بك»، الذي كان محافظاً للمدينة خلال العصر العثماني، وفي الستينيات تم تحويل المبنى لمتحف صغير لإبراز دور مدينة رشيد في مقاومة الحملة الفرنسية ثم حملة فريزر الإنجليزية، وخلال عام 1986 تم تطوير المتحف وأعيد افتتاحه ليعبر عن تاريخ مدينة رشيد.
يعرض المتحف 700 قطعة من أهمها العملات الذهبية والبرونزية التي تعود للعصرين الأموي والعثماني، ومجموعة من المصاحف والأواني الفخارية والنحاسية، كما يعرض نص المعاهدة الخاصة بجلاء حملة فريزر عن مصر والموقعة من محمد علي باشا، إلى جانب ذلك يبرز العرض المتحفي بعض صور الحياة اليومية في رشيد خلال العصر العثماني، بالإضافة إلى الحرف والصناعات، ومخطوطات وأدوات للحياة اليومية، بالإضافة إلى نسخة من حجر رشيد الذي كشف عنه في رشيد عام 1799 ومجموعة من الأسلحة تعود للقرنين 18 و19.
كما يُعرض بالمتحف بعض الآثار الإسلامية التي كُشف عنها مؤخراً في رشيد كعملات إسلامية وأوان فخارية، وهي المقتنيات التي تجذب السائحين لمشاهدتها، حيث تبلغ قيمة تذكرة دخول المتحف للسائحين الأجانب 40 جنيهاً مصرياً (أقل من دولارين).
وضمن حرم متحف رشيد تقع «الحديقة المتحفية»، وهي مقامة على مساحة (3 آلاف متر مربع)، وهي مزار سياحي ومتنفس للأهالي والزائرين، ويقام بها العديد من القوافل الثقافية والمهرجانات التعليمية ومعارض الصناعات اليدوية.

متحف رشيد الوطني (صفحة الوحدة المحلية لمركز ومدينة رشيد على «فيسبوك»)

طاحونة أبو شاهين ومنزل الأمصيلي

تعد طاحونة «أبو شاهين» أقدم طاحونة في مصر لطحن الغلال، تم تشييدها في القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي، وبناها عثمان أغا الطوبجي باشا، الذي كان جندياً بالجيش العثماني، وقد خصصت لطحن الغلال وكانت تدار بواسطة الدواب، وهي طاحونة مزدوجة لها تروس خشبية.
زخرفت معظم جدران الطاحونة بطوب المنجور (الأحمر والأسود)، بالإضافة إلى الاستعانة بالعقود الثلاثية أو المدائنية في بناء الجدران الحاملة للأسقف. وتضم الطاحونة أيضاً إسطبلاً، سُقف الجزء الشرقي والجنوبي منه، ويشمل الإسطبل حوض مياه، ويقوم السقف على أعمدة لها تيجان. أما سقف الطاحونة فهو من الخشب المحمول على «كمرات» مستديرة.
أما منزل الأمصيلي؛ فقد تم بناؤه أيضاً على يد عثمان أغا عام 1808. ثم آلت ملكيته بعد ذلك إلى أحمد الأمصيلي، الذي ينتسب إلى مدينة أماسيا بتركيا، وهو آخر من سكنه. يتكون المنزل من ثلاثة أدوار الأرضي به حجرة الاستقبال وبها قواطيع من الخشب تتخللها أعمدة رخامية، ويوجد بالدور الأرضي المخزن والحظيرة المخصصة لركوب (الأغا) والصهريج الذي تخزن به المياه ودورات المياه، فيما تتشكل واجهة المنزل بكتابات بالخط الكوفي وزخارف جصية وفخارية، كما تكثر فيها (المشربيات) وأعمال الأرابيسك.
وملحق بالمنزل بيت آخر كان مخصصاً للخدم، هو منزل «حسيبة غزال»، والذي يشّكل مع منزل الأمصيلي وطاحونة أبو شاهين وحدة معمارية متكاملة فريدة من نوعها.

قلعة قايتباي

تقع على الشاطئ الغربي لنهر النيل، وأنشأها السلطان المملوكي الأشرف قايتباي سنة 901 هـ، وهي إحدى المنشآت الحربية التي تشبه الحصن في بنائها المربع وأبراجها الأربعة المستديرة، ويحيط بهذه الأبراج خنادق ما زالت آثارها موجودة حتى الآن.
عرفت القلعة أيضاً بعدد من الأسماء، مثل «طابية رشيد»، «قلعة رشيد»، «حصن جوليان»، نسبة لأحد مساعدي نابليون، حيث نزلت فيها قوات من الحملة الفرنسية عام 1799م، وهي المكان الذي عثر فيه على «حجر رشيد».
وفي سنة 1801م، احتلت القلعة قوة مشتركة عثمانية بريطانية بعد قصفها، فانهار جزء من أسوارها كاشفاً الحامية الفرنسية الموجودة بها، مما أدى إلى استسلامهم.

شارع «دهليز الملك»

يمتد طوله لنحو 450 متراً، وعرضه يتراوح بين 6 إلى 10 أمتار، وهو المدخل الرئيسي للمنطقة الأثرية، فعلى جانبيه تقف المنازل التاريخية، التي كان يسكنها كبار التجار وعِلية القوم في زمن الحكم المملوكي ثم العصر العثماني.
يمكن التجول بين 7 منازل أثرية بالشارع، تحمل أسماء ساكنيها، هي: «كوهية وبسيونى ورمضان ومحارم وأبوهم والجمل وعلوان»، والتي تمّكن زائريها من التعرف عن قرب على خصائص العمارة والفنون الإسلامية في هذه الفترة، حيث بُني جميعها من الطوب المنجور ذي اللونين الأسود والأحمر، والبيوت تتميز بوجود «المشربيات» التي تزين الواجهات، التي تحمل جماليات معمارية، فيما كانت وظيفتها العمل على ضبط دخول الهواء وأشعة الشمس لمنزل.

مسجد زغلول

هو أقدم مساجد مدينة رشيد وأكبرها، تم بناؤه على ثلاث مراحل؛ بداية من العصر المملوكي. يحمل المسجد ذكرى عزيزة على قلوب أهل رشيد، وهي الانتصار على الحملة الإنجليزية (حملة فريزر)، فمن على مئذنته انطلقت صيحة الله أكبر إيذاناً ببدء الهجوم على جنود الحملة، وكان المسجد بمثابة «أزهر يتوافد عليه طلاب العلم والعلماء».
وفي منتصف العام الماضي افتتحت المرحلة الأولى من أعمال ترميمه، حيث كان في حالة سيئة بسبب الشروخ وارتفاع نسبة الرطوبة ومنسوب المياه الجوفية.

حمَّام عزوز

هو الحمام العمومي الوحيد الباقي بالمدينة، يرجع تاريخ إنشائه للقرن 17 الميلادي، ومنشؤه عبد الرحمن بن الحاج حجازي الشهير بابن جامع، وجعله وقفاً خيرياً لمسجد زغلول، بينما اشتهر باسم «عزوز» نسبة إلى آخر من تملكه في فترة الخمسينيات، وفي عام 1982 انضم الحمام لملكية هيئة الآثار.
يتبع الحمام التصميم المعتاد للحمامات في العصر المملوكي، وكذلك العمارة الداخلية، فجميع أرضيات الحمام من الرخام، وأسقفه عبارة عن قباب مفرغة الأجزاء تتخللها أطباق زجاجية مختلفة الألوان.

مسجد أبي مندور الأثري

يعد مسجد أبي مندور الأثري من أشهر المساجد الأثرية بالمدينة بني عام 1312-1897 م، ويقع على شبه جزيرة تسمى «تل أبو مندور»، وهي ربوة على نهر النيل، ويتوافد عليه الزائرون من جميع بلدان العالم الإسلامي، نظراً لموقعه على نهر النيل فرع مدينة رشيد، ونظراً لجمال التصميمات المعمارية الداخلية والخارجية.
ويشهد محيط المسجد توافد العديد من الرحلات المدرسية والجامعية والوفود الأجنبية والأهالي والمصطافين وطلاب الفنون للاستمتاع بالطبيعة الخلابة بالمكان، حيث خضعت المنطقة للتطوير لتكون مقصداً سياحياً، بعد أن كان الوصول إليها يتم عن طريق البحر عبر المراكب الشراعية.

قناطر إدفينا

تبقى منطقة قناطر إدفينا جنوب رشيد إحدى أهم المواقع الجغرافية وأبرز المزارات السياحية، للتمتع بالمساحات الخضراء بها وركوب الخيول، إضافة إلى استقلال المراكب النيلية والجلوس على شاطئ نهر النيل.
تنتشر في قناطر إدفينا خمسة حدائق بالبر الأيسر مساحتها 25 فداناً، والبر الأيمن به حديقتان مقامة على 10 أفدنة، وبهما مشتل لإنتاج الزهور والنباتات النادرة ومسطحات خضراء وأحواض وأشكال هندسية ونافورات وحديقتان لمساحة 100 فدان منزرعة بالموالح والفاكهة، مما يجعلها مقصداً لقضاء الأعياد والمناسبات.

الرحلات النيلية

مع وقوع «رشيد» على نهر النيل يتيح ذلك ركوب المراكب الراسية على ضفافه، والتمتع بنزهة داخل مياه النيل، وهي من أكثر وسائل الجذب السياحي إلى رشيد، ويمكن التجول بها حسب رغبتك نصف ساعة أو ساعة، كما يمكن الجلوس فقط داخل المركب، بشرط احتساء أحد المشروبات كالشاي أو القهوة.
بعد انتهاء الجولة النيلية، يمكن قضاء وقت آخر على الكورنيش، مع التمتع بشراء الـ«آيس كريم».

الطعام في رشيد

مع كون المدينة ملتقى نهر النيل والبحر المتوسط، فمن الطبيعي أن تكون الأسماك والمأكولات البحرية هي أكثر أطباقها شهرة، وأن تصبح مهنة الصيد هي المهنة الأساسية لأهلها. وزائر المدينة يجد نفسه في حيرة بسبب أنواع الأسماك التي تتجاوز 100 صنف، منها ما يخرج من سواحل البحر المتوسط، ومنها ما يخرج من نهر النيل.
ويعتبر سمك البلطي هو الأكثر انتشاراً في رشيد، وهو ليس نوعاً واحداً، فيوجد منه أنواع: «خنيني، نيلي، حساني، وراقي، سيلفر، عياشي»، إلا أن «الخنيني» يعد أشهرها، وهو من أكثر المأكولات الشعبية في رشيد، وهو سمك صغير الحجم ممتلئ البطن، يتميز بطعمه الشهي، إلى جانب أسعاره الرخيصة.
ويمكن الاستمتاع بوجبة من السمك أو الجمبري في مطاعم الأسماك الشعبية المنتشرة بالمدينة، أو التوجه إلى سوق السمك، الذي ينقل الصيادون بضاعتهم إليها على مدار ساعات النهار، لذا تعج بحركة البيع والشراء، وكذلك الشواء، ويُمكّن قصد السوق لاختيار الأنواع التي تروق للزائر، وكذلك ضمان أن تكون طازجة.
ولمزيد من الاستمتاع بالأسماك، ننصحك باصطحاب الأسماك المشوية - من السوق - إلى المركب النيلي، وتناوله خلال تجولك في مياه النيل.

مسجد أبي مندور الأثري (صفحة الوحدة المحلية لمركز ومدينة رشيد على «فيسبوك»)

مدينة رشيد... لمحة تاريخية

> يرى المؤرخون أن أصل تسمية رشيد يعود إلى الكلمة المصرية القديمة «رخيت» بمعنى (عامة الناس)، واشتهرت في ذلك الوقت بصناعة العجلات الحربية ونجحت في عهد الملك منبتاح ابن الملك رمسيس الثاني في صد هجمات الليبيين وشعوب البحر، كما أقام الملك بسماتيك الأول سنة 633 ق.م. معسكراً على ساحل المدينة لحماية شواطئ البلاد.
وفي العصر القبطي أطلق عليها «رشيت»، حتى كان الفتح العربي على يد عمرو بن العاص والذي دخلها بعد أن فتح مدينة الإسكندرية عام 21 هـ وكان حاكم رشيد القبطي يسمى قزماس، وهو الذي عقد صلحاً مع عمرو وأدى الجزية للمسلمين وبقيت الكنائس في المدينة لمن بقي على دينه، وقد استطاب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى المدينة فعمروها وأقاموا البيوت وبنوا المساجد وأطلقوا عليها رشيد والتي ما زالت تعرف بها حتى الآن.
بمرور السنوات، سطرت رشيد تاريخاً مع زمن الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، حث استمرت بالتقدم عبر مدينة رشيد.
وفي عام 1807 كان الموعد مع البطولة لأهل هذه المدينة، حيث حققوا انتصاراً عظيماً على الحملة الإنجليزية (حملة فريزر)، حيث تمكنوا من القضاء عليهم من شرفات المنازل وأسطحها، وهو الحدث الذي جعلته محافظة البحيرة عيداً قومياً لها يحتفل به سنوياً.

حجر رشيد

في أغسطس (آب) 1799م عثر (بوشار) أحد ضباط الحملة الفرنسية على الحجر المشهور بحجر رشيد تحت أنقاض قلعة قايتباي، والذي تم من خلاله فك رموز اللغة الهيروغليفية القديمة، وبالتالي الكشف عن كل التاريخ المصري، وهو ما أدى إلى ذيوع شهرة المدينة أكثر وأكثر.
وهو عبارة عن حجر من البازلت الأسود يعود تاريخه إلى عام 196 ق.م ومسجل عليه محضر مبايعة الكهنة للملك بطليموس الخامس والاعتراف به ملكاً على البلاد، وهذا الحجر مكتوب عليه بثلاث لغات هي الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة، وقد عكف العالم الفرنسي «شامبليون» فترة طويلة على دراسة هذه النقوش الموجودة على الحجر حتى توصل إلى فك رموز اللغة المصرية القديمة، وقد نقل الحجر إلى لندن طبقاً لشروط معاهدة 1801م بين الإنجليز والفرنسيين، وهو الآن يعد واحداً من أهم القطع الأثرية المعروضة بالمتحف البريطاني بلندن، وهناك محاولات مصرية تجرى لاسترداده.



سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».