«رشيد»... رحلة بين التاريخ والجغرافيا في 24 ساعة

ملتقى النيل بالبحر المتوسط

رشيد من المناطق المصرية الجميلة
رشيد من المناطق المصرية الجميلة
TT

«رشيد»... رحلة بين التاريخ والجغرافيا في 24 ساعة

رشيد من المناطق المصرية الجميلة
رشيد من المناطق المصرية الجميلة

هنا في أقصى شمال مصر، حيث يلتقي نهر النيل العذب بالبحر المتوسط المالح، تقع مدينة «رشيد» على رأس فرع دلتا النيل الغربي، والذي سُمي باسمها، والتي باتت وجهة جديدة للسائحين تضاف للمزارات الأثرية العريقة بمصر، كونها ثاني المدن المصرية بعد القاهرة ما زالت تحتفظ بآثارها الإسلامية، التي ترجع للعصر العثماني.
تمتلك رشيد تميزاً جغرافياً وتاريخياً وتراثياً، وهي المقومات التي جعلت هذه المدينة - التي تبعد عن القاهرة مسافة 263 كيلومتراً جهة الشمال و60 كيلومتراً شرق الإسكندرية وتتبع محافظة البحيرة إدارياً - في مكانة سياحية مرموقة، فبالإضافة للموقع الجغرافي المتميز، مرت المدينة بأحداث مهمة عبر التاريخ، إليها يُنسب «حجر رشيد»، الذي فك رموز الحضارة المصرية القديمة، والموجود حالياً في المتحف البريطاني، والذي تم الاحتفاء بمرور 200 عاماً على فك رموزه قبل أيام قليلة.
كذلك تحتل مكانة تراثية مهمة، بما تمتلكه من مقومات أثرية وحضارية، ومن ثم كان عمل الحكومة المصرية حالياً لوضعها على قوائم التراث العالمي بمنظمة اليونيسكو، وتحويلها لمتحف مفتوح، ووضعها على خريطة السياحة العالمية.

طاحونة «أبو شاهين» أقدم طاحونة في مصر لطحن الغلال (الصفحة الرسمية لمحافظة البحيرة على «فيسبوك»)

المعالم السياحية

الوصول إلى رشيد يكون بشكل أسهل من الإسكندرية، فالرحلة بينهما لا تتجاوز 60 دقيقة، وهناك رحلات يومية تعلن عنها الشركات السياحية بالإسكندرية إلى رشيد، والتي يكون متاحاً فيها أن يصحب الزائرَ مرشد سياحي للتعريف بالمعالم، أما إذا رغب الزائر في التوجه بمفرده، فهو أمر متاح بالسيارة أو الحافلات.
بالوصول إلى رشيد، يكون الزائر على موعد مع رحلة ترفيهية ثقافية، بداية من التنقل بين معالم المدينة، التي تضم نحو 22 منزلاً وحماماً وطاحونة، بالإضافة إلى أحد عشر مسجداً وزاوية وثلاثة أضرحة. ثم جولة في شوارع المدينة وأسواقها، إلى جانب القيام برحلة نيلية، وهي المعالم التي يمكن زيارتها جميعاً خلال 24 ساعة فقط.
مع بدء الزيارة لا بد لزائر رشيد أن يتوقف عند المحطات الأساسية التالية:

متحف رشيد الوطني

يتكون المتحف من مبنيين أحدهما مبنى أثري يتكون من ثلاثة طوابق، وكان في الأصل بيت «عرب كلي حسين بك»، الذي كان محافظاً للمدينة خلال العصر العثماني، وفي الستينيات تم تحويل المبنى لمتحف صغير لإبراز دور مدينة رشيد في مقاومة الحملة الفرنسية ثم حملة فريزر الإنجليزية، وخلال عام 1986 تم تطوير المتحف وأعيد افتتاحه ليعبر عن تاريخ مدينة رشيد.
يعرض المتحف 700 قطعة من أهمها العملات الذهبية والبرونزية التي تعود للعصرين الأموي والعثماني، ومجموعة من المصاحف والأواني الفخارية والنحاسية، كما يعرض نص المعاهدة الخاصة بجلاء حملة فريزر عن مصر والموقعة من محمد علي باشا، إلى جانب ذلك يبرز العرض المتحفي بعض صور الحياة اليومية في رشيد خلال العصر العثماني، بالإضافة إلى الحرف والصناعات، ومخطوطات وأدوات للحياة اليومية، بالإضافة إلى نسخة من حجر رشيد الذي كشف عنه في رشيد عام 1799 ومجموعة من الأسلحة تعود للقرنين 18 و19.
كما يُعرض بالمتحف بعض الآثار الإسلامية التي كُشف عنها مؤخراً في رشيد كعملات إسلامية وأوان فخارية، وهي المقتنيات التي تجذب السائحين لمشاهدتها، حيث تبلغ قيمة تذكرة دخول المتحف للسائحين الأجانب 40 جنيهاً مصرياً (أقل من دولارين).
وضمن حرم متحف رشيد تقع «الحديقة المتحفية»، وهي مقامة على مساحة (3 آلاف متر مربع)، وهي مزار سياحي ومتنفس للأهالي والزائرين، ويقام بها العديد من القوافل الثقافية والمهرجانات التعليمية ومعارض الصناعات اليدوية.

متحف رشيد الوطني (صفحة الوحدة المحلية لمركز ومدينة رشيد على «فيسبوك»)

طاحونة أبو شاهين ومنزل الأمصيلي

تعد طاحونة «أبو شاهين» أقدم طاحونة في مصر لطحن الغلال، تم تشييدها في القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي، وبناها عثمان أغا الطوبجي باشا، الذي كان جندياً بالجيش العثماني، وقد خصصت لطحن الغلال وكانت تدار بواسطة الدواب، وهي طاحونة مزدوجة لها تروس خشبية.
زخرفت معظم جدران الطاحونة بطوب المنجور (الأحمر والأسود)، بالإضافة إلى الاستعانة بالعقود الثلاثية أو المدائنية في بناء الجدران الحاملة للأسقف. وتضم الطاحونة أيضاً إسطبلاً، سُقف الجزء الشرقي والجنوبي منه، ويشمل الإسطبل حوض مياه، ويقوم السقف على أعمدة لها تيجان. أما سقف الطاحونة فهو من الخشب المحمول على «كمرات» مستديرة.
أما منزل الأمصيلي؛ فقد تم بناؤه أيضاً على يد عثمان أغا عام 1808. ثم آلت ملكيته بعد ذلك إلى أحمد الأمصيلي، الذي ينتسب إلى مدينة أماسيا بتركيا، وهو آخر من سكنه. يتكون المنزل من ثلاثة أدوار الأرضي به حجرة الاستقبال وبها قواطيع من الخشب تتخللها أعمدة رخامية، ويوجد بالدور الأرضي المخزن والحظيرة المخصصة لركوب (الأغا) والصهريج الذي تخزن به المياه ودورات المياه، فيما تتشكل واجهة المنزل بكتابات بالخط الكوفي وزخارف جصية وفخارية، كما تكثر فيها (المشربيات) وأعمال الأرابيسك.
وملحق بالمنزل بيت آخر كان مخصصاً للخدم، هو منزل «حسيبة غزال»، والذي يشّكل مع منزل الأمصيلي وطاحونة أبو شاهين وحدة معمارية متكاملة فريدة من نوعها.

قلعة قايتباي

تقع على الشاطئ الغربي لنهر النيل، وأنشأها السلطان المملوكي الأشرف قايتباي سنة 901 هـ، وهي إحدى المنشآت الحربية التي تشبه الحصن في بنائها المربع وأبراجها الأربعة المستديرة، ويحيط بهذه الأبراج خنادق ما زالت آثارها موجودة حتى الآن.
عرفت القلعة أيضاً بعدد من الأسماء، مثل «طابية رشيد»، «قلعة رشيد»، «حصن جوليان»، نسبة لأحد مساعدي نابليون، حيث نزلت فيها قوات من الحملة الفرنسية عام 1799م، وهي المكان الذي عثر فيه على «حجر رشيد».
وفي سنة 1801م، احتلت القلعة قوة مشتركة عثمانية بريطانية بعد قصفها، فانهار جزء من أسوارها كاشفاً الحامية الفرنسية الموجودة بها، مما أدى إلى استسلامهم.

شارع «دهليز الملك»

يمتد طوله لنحو 450 متراً، وعرضه يتراوح بين 6 إلى 10 أمتار، وهو المدخل الرئيسي للمنطقة الأثرية، فعلى جانبيه تقف المنازل التاريخية، التي كان يسكنها كبار التجار وعِلية القوم في زمن الحكم المملوكي ثم العصر العثماني.
يمكن التجول بين 7 منازل أثرية بالشارع، تحمل أسماء ساكنيها، هي: «كوهية وبسيونى ورمضان ومحارم وأبوهم والجمل وعلوان»، والتي تمّكن زائريها من التعرف عن قرب على خصائص العمارة والفنون الإسلامية في هذه الفترة، حيث بُني جميعها من الطوب المنجور ذي اللونين الأسود والأحمر، والبيوت تتميز بوجود «المشربيات» التي تزين الواجهات، التي تحمل جماليات معمارية، فيما كانت وظيفتها العمل على ضبط دخول الهواء وأشعة الشمس لمنزل.

مسجد زغلول

هو أقدم مساجد مدينة رشيد وأكبرها، تم بناؤه على ثلاث مراحل؛ بداية من العصر المملوكي. يحمل المسجد ذكرى عزيزة على قلوب أهل رشيد، وهي الانتصار على الحملة الإنجليزية (حملة فريزر)، فمن على مئذنته انطلقت صيحة الله أكبر إيذاناً ببدء الهجوم على جنود الحملة، وكان المسجد بمثابة «أزهر يتوافد عليه طلاب العلم والعلماء».
وفي منتصف العام الماضي افتتحت المرحلة الأولى من أعمال ترميمه، حيث كان في حالة سيئة بسبب الشروخ وارتفاع نسبة الرطوبة ومنسوب المياه الجوفية.

حمَّام عزوز

هو الحمام العمومي الوحيد الباقي بالمدينة، يرجع تاريخ إنشائه للقرن 17 الميلادي، ومنشؤه عبد الرحمن بن الحاج حجازي الشهير بابن جامع، وجعله وقفاً خيرياً لمسجد زغلول، بينما اشتهر باسم «عزوز» نسبة إلى آخر من تملكه في فترة الخمسينيات، وفي عام 1982 انضم الحمام لملكية هيئة الآثار.
يتبع الحمام التصميم المعتاد للحمامات في العصر المملوكي، وكذلك العمارة الداخلية، فجميع أرضيات الحمام من الرخام، وأسقفه عبارة عن قباب مفرغة الأجزاء تتخللها أطباق زجاجية مختلفة الألوان.

مسجد أبي مندور الأثري

يعد مسجد أبي مندور الأثري من أشهر المساجد الأثرية بالمدينة بني عام 1312-1897 م، ويقع على شبه جزيرة تسمى «تل أبو مندور»، وهي ربوة على نهر النيل، ويتوافد عليه الزائرون من جميع بلدان العالم الإسلامي، نظراً لموقعه على نهر النيل فرع مدينة رشيد، ونظراً لجمال التصميمات المعمارية الداخلية والخارجية.
ويشهد محيط المسجد توافد العديد من الرحلات المدرسية والجامعية والوفود الأجنبية والأهالي والمصطافين وطلاب الفنون للاستمتاع بالطبيعة الخلابة بالمكان، حيث خضعت المنطقة للتطوير لتكون مقصداً سياحياً، بعد أن كان الوصول إليها يتم عن طريق البحر عبر المراكب الشراعية.

قناطر إدفينا

تبقى منطقة قناطر إدفينا جنوب رشيد إحدى أهم المواقع الجغرافية وأبرز المزارات السياحية، للتمتع بالمساحات الخضراء بها وركوب الخيول، إضافة إلى استقلال المراكب النيلية والجلوس على شاطئ نهر النيل.
تنتشر في قناطر إدفينا خمسة حدائق بالبر الأيسر مساحتها 25 فداناً، والبر الأيمن به حديقتان مقامة على 10 أفدنة، وبهما مشتل لإنتاج الزهور والنباتات النادرة ومسطحات خضراء وأحواض وأشكال هندسية ونافورات وحديقتان لمساحة 100 فدان منزرعة بالموالح والفاكهة، مما يجعلها مقصداً لقضاء الأعياد والمناسبات.

الرحلات النيلية

مع وقوع «رشيد» على نهر النيل يتيح ذلك ركوب المراكب الراسية على ضفافه، والتمتع بنزهة داخل مياه النيل، وهي من أكثر وسائل الجذب السياحي إلى رشيد، ويمكن التجول بها حسب رغبتك نصف ساعة أو ساعة، كما يمكن الجلوس فقط داخل المركب، بشرط احتساء أحد المشروبات كالشاي أو القهوة.
بعد انتهاء الجولة النيلية، يمكن قضاء وقت آخر على الكورنيش، مع التمتع بشراء الـ«آيس كريم».

الطعام في رشيد

مع كون المدينة ملتقى نهر النيل والبحر المتوسط، فمن الطبيعي أن تكون الأسماك والمأكولات البحرية هي أكثر أطباقها شهرة، وأن تصبح مهنة الصيد هي المهنة الأساسية لأهلها. وزائر المدينة يجد نفسه في حيرة بسبب أنواع الأسماك التي تتجاوز 100 صنف، منها ما يخرج من سواحل البحر المتوسط، ومنها ما يخرج من نهر النيل.
ويعتبر سمك البلطي هو الأكثر انتشاراً في رشيد، وهو ليس نوعاً واحداً، فيوجد منه أنواع: «خنيني، نيلي، حساني، وراقي، سيلفر، عياشي»، إلا أن «الخنيني» يعد أشهرها، وهو من أكثر المأكولات الشعبية في رشيد، وهو سمك صغير الحجم ممتلئ البطن، يتميز بطعمه الشهي، إلى جانب أسعاره الرخيصة.
ويمكن الاستمتاع بوجبة من السمك أو الجمبري في مطاعم الأسماك الشعبية المنتشرة بالمدينة، أو التوجه إلى سوق السمك، الذي ينقل الصيادون بضاعتهم إليها على مدار ساعات النهار، لذا تعج بحركة البيع والشراء، وكذلك الشواء، ويُمكّن قصد السوق لاختيار الأنواع التي تروق للزائر، وكذلك ضمان أن تكون طازجة.
ولمزيد من الاستمتاع بالأسماك، ننصحك باصطحاب الأسماك المشوية - من السوق - إلى المركب النيلي، وتناوله خلال تجولك في مياه النيل.

مسجد أبي مندور الأثري (صفحة الوحدة المحلية لمركز ومدينة رشيد على «فيسبوك»)

مدينة رشيد... لمحة تاريخية

> يرى المؤرخون أن أصل تسمية رشيد يعود إلى الكلمة المصرية القديمة «رخيت» بمعنى (عامة الناس)، واشتهرت في ذلك الوقت بصناعة العجلات الحربية ونجحت في عهد الملك منبتاح ابن الملك رمسيس الثاني في صد هجمات الليبيين وشعوب البحر، كما أقام الملك بسماتيك الأول سنة 633 ق.م. معسكراً على ساحل المدينة لحماية شواطئ البلاد.
وفي العصر القبطي أطلق عليها «رشيت»، حتى كان الفتح العربي على يد عمرو بن العاص والذي دخلها بعد أن فتح مدينة الإسكندرية عام 21 هـ وكان حاكم رشيد القبطي يسمى قزماس، وهو الذي عقد صلحاً مع عمرو وأدى الجزية للمسلمين وبقيت الكنائس في المدينة لمن بقي على دينه، وقد استطاب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى المدينة فعمروها وأقاموا البيوت وبنوا المساجد وأطلقوا عليها رشيد والتي ما زالت تعرف بها حتى الآن.
بمرور السنوات، سطرت رشيد تاريخاً مع زمن الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، حث استمرت بالتقدم عبر مدينة رشيد.
وفي عام 1807 كان الموعد مع البطولة لأهل هذه المدينة، حيث حققوا انتصاراً عظيماً على الحملة الإنجليزية (حملة فريزر)، حيث تمكنوا من القضاء عليهم من شرفات المنازل وأسطحها، وهو الحدث الذي جعلته محافظة البحيرة عيداً قومياً لها يحتفل به سنوياً.

حجر رشيد

في أغسطس (آب) 1799م عثر (بوشار) أحد ضباط الحملة الفرنسية على الحجر المشهور بحجر رشيد تحت أنقاض قلعة قايتباي، والذي تم من خلاله فك رموز اللغة الهيروغليفية القديمة، وبالتالي الكشف عن كل التاريخ المصري، وهو ما أدى إلى ذيوع شهرة المدينة أكثر وأكثر.
وهو عبارة عن حجر من البازلت الأسود يعود تاريخه إلى عام 196 ق.م ومسجل عليه محضر مبايعة الكهنة للملك بطليموس الخامس والاعتراف به ملكاً على البلاد، وهذا الحجر مكتوب عليه بثلاث لغات هي الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة، وقد عكف العالم الفرنسي «شامبليون» فترة طويلة على دراسة هذه النقوش الموجودة على الحجر حتى توصل إلى فك رموز اللغة المصرية القديمة، وقد نقل الحجر إلى لندن طبقاً لشروط معاهدة 1801م بين الإنجليز والفرنسيين، وهو الآن يعد واحداً من أهم القطع الأثرية المعروضة بالمتحف البريطاني بلندن، وهناك محاولات مصرية تجرى لاسترداده.



قرى مصرية تبتكر نوعاً جديداً من السياحة التقليدية

قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
TT

قرى مصرية تبتكر نوعاً جديداً من السياحة التقليدية

قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)

في الخلف من البقع السياحية السحرية بأنحاء مصر، توجد قرى مصرية تجذب السائحين من باب آخر، حيث يقصدونها للتعرف على الحرف التقليدية العتيقة والصناعات المحلية التي تنتجها هذه القرى وتتخصص فيها منذ عشرات السنوات، وفاقت شهرتها حدود البلاد.

ويشتهر كثير من القرى المصرية بالصناعات اليدوية، ذات البعدين التراثي والثقافي، مثل صناعة أوراق البردي، والأواني الفخارية، والسجاد اليدوي وغيرها، وهي الصناعات التي تستهوي عدداً كبيراً من الزوار، ليس فقط لشراء الهدايا التذكارية من منبعها الأصلي للاحتفاظ بها لتذكرهم بالأيام التي قضوها في مصر؛ بل يمتد الأمر للتعرف عن قرب على فنون التصنيع التقليدية المتوارثة، التي تحافظ على الهوية المصرية.

«الشرق الأوسط» تستعرض عدداً من القرى التي تفتح أبوابها للسياحة الحرفية، والتي يمكن إضافتها إلى البرامج السياحية عند زيارة مصر.

السياحة الحرفية تزدهر في القرى المصرية وتجتذب السائحين (صفحة محافظة المنوفية)

ـ الحرانية

قرية نالت شهرتها من عالم صناعة السجاد والكليم اليدوي ذي الجودة العالية، والذي يتم عرضه في بعض المعارض الدولية، حيث يقوم أهالي القرية بنقش كثير من الأشكال على السجاد من وحي الطبيعة الخاصة بالقرية.

والسجاد الذي يصنعه أهالي القرية لا يُضاهيه أي سجاد آخر بسبب عدم استخدام أي مواد صناعية في نسجه؛ حيث يتم الاعتماد فقط على القطن، والصوف، بالإضافة إلى الأصباغ النباتية الطبيعية، من خلال استخدام نباتي الشاي والكركديه وغيرهما في تلوين السجاد، بدلاً من الأصباغ الكيميائية، ما يضفي جمالاً وتناسقاً يفوق ما ينتج عن استخدام الأجهزة الحديثة.

تتبع قرية الحرانية محافظة الجيزة، تحديداً على طريق «سقارة» السياحي، ما يسهل الوصول إليها، وأسهم في جعلها مقصداً لآلاف السائحين العرب والأجانب سنوياً، وذلك بسبب تميُزها، حيث تجتذبهم القرية ليس فقط لشراء السجاد والكليم، بل للتعرف على مراحل صناعتهما المتعددة، وكيف تتناقلها الأجيال عبر القرية، خصوصاً أن عملية صناعة المتر المربع الواحد من السجاد تستغرق ما يقرُب من شهر ونصف الشهر إلى شهرين تقريباً؛ حيث تختلف مدة صناعة السجادة الواحدة حسب أبعادها، كما يختلف سعر المتر الواحد باختلاف نوع السجادة والخامات المستخدمة في صناعتها.

فن النحت باستخدام أحجار الألباستر بمدينة القرنة بمحافظة الأقصر (هيئة تنشيط السياحة)

ـ القراموص

تعد قرية القراموص، التابعة لمحافظة الشرقية، أكبر مركز لصناعة ورق البردي في مصر، بما يُسهم بشكل مباشر في إعادة إحياء التراث الفرعوني، لا سيما أنه لا يوجد حتى الآن مكان بالعالم ينافس قرية القراموص في صناعة أوراق البردي، فهي القرية الوحيدة في العالم التي تعمل بهذه الحرفة من مرحلة الزراعة وحتى خروج المنتج بشكل نهائي، وقد اشتهرت القرية بزراعة نبات البردي والرسم عليه منذ سنوات كثيرة.

الرسوم التي ينقشها فلاحو القرية على ورق البردي لا تقتصر على النقوش الفرعونية فحسب، بل تشمل أيضاً موضوعات أخرى، من أبرزها الخط العربي، والمناظر الطبيعية، مستخدمين التقنيات القديمة التي استخدمها الفراعنة منذ آلاف السنين لصناعة أوراق البردي، حيث تمر صناعة أوراق البردي بعدة مراحل؛ تبدأ بجمع سيقان النبات من المزارع، ثم تقطيعها كي تتحول إلى كُتل، على أن تتحول هذه الكتل إلى مجموعة من الشرائح التي توضع طبقات بعضها فوق بعض، ثم تبدأ عملية تجفيف سيقان النباتات اعتماداً على أشعة الشمس للتخلص من المياه والرطوبة حتى تجف بشكل تام، ثم تتم الكتابة أو الرسم عليها.

وتقصد الأفواج السياحية القرية لمشاهدة حقول نبات البردي أثناء زراعته، وكذلك التعرف على فنون تصنيعه حتى يتحول لأوراق رسم عليها أجمل النقوش الفرعونية.

تبعد القرية نحو 80 كيلومتراً شمال شرقي القاهرة، وتتبع مدينة أبو كبير، ويمكن الوصول إليها بركوب سيارات الأجرة التي تقصد المدينة، ومنها التوجه إلى القرية.

قطع خزفية من انتاج قرية "تونس" بمحافظة الفيوم (هيئة تنشيط السياحة)

ـ النزلة

تُعد إحدى القرى التابعة لمركز يوسف الصديق بمحافظة الفيوم، وتشتهر بصناعة الفخار اليدوي، وقد أضحت قبلة عالمية لتلك الصناعة، ويُطلق على القرية لقب «أم القرى»، انطلاقاً من كونها أقدم القرى بالمحافظة، وتشتهر القرية بصناعة الأواني الفخارية الرائعة التي بدأت مع نشأتها، حيث تُعد هذه الصناعة بمثابة ممارسات عائلية قديمة توارثتها الأجيال منذ عقود طويلة.

يعتمد أهل القرية في صناعتهم لتلك التحف الفخارية النادرة على تجريف الطمي الأسود، ثم إضافة بعض المواد الأخرى عليه، من أبرزها الرماد، وقش الأرز، بالإضافة إلى نشارة الخشب، وبعد الانتهاء من عملية تشكيل الطمي يقوم العاملون بهذه الحرفة من أهالي القرية بوضع الطمي في أفران بدائية الصنع تعتمد في إشعالها بالأساس على الخوص والحطب، ما من شأنه أن يعطي القطع الفخارية الصلابة والمتانة اللازمة، وهي الطرق البدائية التي كان يستخدمها المصري القديم في تشكيل الفخار.

ومن أبرز المنتجات الفخارية بالقرية «الزلعة» التي تستخدم في تخزين الجبن أو المش أو العسل، و«البوكلة» و«الزير» (يستخدمان في تخزين المياه)، بالإضافة إلى «قدرة الفول»، ويتم تصدير المنتجات الفخارية المختلفة التي ينتجها أهالي القرية إلى كثير من الدول الأوروبية.

شهدت القرية قبل سنوات تشييد مركز زوار الحرف التراثية، الذي يضمّ عدداً من القاعات المتحفية، لإبراز أهم منتجات الأهالي من الأواني الفخارية، ومنفذاً للبيع، فضلاً عن توثيق الأعمال الفنية السينمائية التي اتخذت من القرية موقعاً للتصوير، وهو المركز الذي أصبح مزاراً سياحياً مهماً، ومقصداً لهواة الحرف اليدوية على مستوى العالم.

صناعة الصدف والمشغولات تذهر بقرية "ساقية المنقدي" في أحضان دلتا النيل (معرض ديارنا)

ـ تونس

ما زلنا في الفيوم، فمع الاتجاه جنوب غربي القاهرة بنحو 110 كيلومترات، نكون قد وصلنا إلى قرية تونس، تلك اللوحة الطبيعية في أحضان الريف المصري، التي أطلق عليها اسم «سويسرا الشرق»، كونها تعد رمزاً للجمال والفن.

تشتهر منازل القرية بصناعة الخزف، الذي أدخلته الفنانة السويسرية إيفلين بوريه إليها، وأسست مدرسة لتعليمه، تنتج شهرياً ما لا يقل عن 5 آلاف قطعة خزف. ويمكن لزائر القرية أن يشاهد مراحل صناعة الخزف وكذلك الفخار الملون؛ ابتداء من عجن الطينة الأسوانية المستخدمة في تصنيعه إلى مراحل الرسم والتلوين والحرق، سواء في المدرسة أو في منازل القرية، كما يقام في مهرجانات سنوية لمنتجات الخزف والأنواع الأخرى من الفنون اليدوية التي تميز القرية.

ولشهرة القرية أصبحت تجتذب إليها عشرات الزائرين شهرياً من جميع أنحاء العالم، وعلى رأسهم المشاهير والفنانون والكتاب والمبدعون، الذين يجدون فيها مناخاً صحياً للإبداع بفضل طقسها الهادئ البعيد عن صخب وضجيج المدينة، حيث تقع القرية على ربوة عالية ترى بحيرة قارون، مما يتيح متعة مراقبة الطيور على البحيرة، كما تتسم بيوتها بطراز معماري يستخدم الطين والقباب، مما يسمح بأن يظل جوها بارداً طول الصيف ودافئاً في الشتاء.

مشاهدة مراحل صناعة الفخار تجربة فريدة في القرى المصرية (الهيئة العامة للاستعلامات)

ـ ساقية المنقدي

تشتهر قرية ساقية المنقدي، الواقعة في أحضان دلتا النيل بمحافظة المنوفية، بأنها قلعة صناعة الصدف والمشغولات، حيث تكتسب المشغولات الصدفية التي تنتجها شهرة عالمية، بل تعد الممول الرئيسي لمحلات الأنتيكات في مصر، لا سيما في سوق خان الخليلي الشهيرة بالقاهرة التاريخية.

تخصصت القرية في هذه الحرفة قبل نحو 60 عاماً، وتقوم بتصدير منتجاتها من التحف والأنتيكات للخارج، فضلاً عن التوافد عليها من كل مكان لاحتوائها على ما يصل إلى 100 ورشة متخصصة في المشغولات الصدفية، كما تجتذب القرية السائحين لشراء المنتجات والأنتيكات والتحف، بفضل قربها من القاهرة (70 كم إلى الشمال)، ولرخص ثمن المنتجات عن نظيرتها المباعة بالأسواق، إلى جانب القيمة الفنية لها كونها تحظى بجماليات وتشكيلات فنية يغلب عليها الطابع الإسلامي والنباتي والهندسي، حيث يستهويهم التمتع بتشكيل قطعة فنية بشكل احترافي، حيث يأتي أبرزها علب الحفظ مختلفة الأحجام والأشكال، والقطع الفنية الأخرى التي تستخدم في التزيين والديكور.

الحرف التقليدية والصناعات المحلية في مصر تجتذب مختلف الجنسيات (معرض ديارنا)

ـ القرنة

إلى غرب مدينة الأقصر، التي تعد متحفاً مفتوحاً بما تحويه من آثار وكنوز الحضارة الفرعونية، تقبع مدينة القرنة التي تحمل ملمحاً من روح تلك الحضارة، حيث تتخصص في فن النحت باستخدام أحجار الألباستر، وتقديمها بالمستوى البديع نفسه الذي كان يتقنه الفراعنة.

بزيارة القرية فأنت على مشاهد حيّة لأهلها وهم يعكفون على الحفاظ على تراث أجدادهم القدماء، حيث تتوزع المهام فيما بينهم، فمع وصول أحجار الألباستر إليهم بألوانها الأبيض والأخضر والبني، تبدأ مهامهم مع مراحل صناعة القطع والمنحوتات، التي تبدأ بالتقطيع ثم الخراطة والتشطيف للقطع، ثم يمسكون آلات تشكيل الحجر، لتتشكل بين أيديهم القطع وتتحول إلى منحوتات فنية لشخصيات فرعونية شهيرة، مثل توت عنخ آمون، ونفرتيتي، وكذلك التماثيل والأنتيكات وغيرها من التحف الفنية المقلدة، ثم يتم وضع المنتج في الأفران لكي يصبح أكثر صلابة، والخطوة الأخيرة عملية التلميع، ليصبح المنتج جاهزاً للعرض.

ويحرص كثير من السائحين القادمين لزيارة المقاصد الأثرية والسياحية للأقصر على زيارة القرنة، سواء لشراء التماثيل والمنحوتات من المعارض والبازارات كهدايا تذكارية، أو التوجه إلى الورش المتخصصة التي تنتشر بالقرية، لمشاهدة مراحل التصنيع، ورؤية العمال المهرة الذين يشكلون هذه القطع باستخدام الشاكوش والأزميل والمبرد، إذ يعمل جلّ شباب القرية في هذه الحرفة اليدوية.