جلبت نهاية الحرب الباردة في عام 1991، أسئلة تتعلق بمستقبل حلف شمال الأطلسي (ناتو)؛ فقد مرَّ أكثر من 30 عاماً، ساهمت فيها قدرة الحلف على التأقلم مع «أكثر بيئة أمنية معقدة منذ نهاية الحرب الباردة»، في حفاظه على كيانه كأقوى تحالف عسكري قادر على حماية كيانه وأهميته.
فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تمكن حلف «ناتو» وروسيا من إقامة علاقة هيكلية. لكن، بمرور السنين، باتت العلاقات أبعد ما يكون عن الاستقرار. ولطالما استشعرت روسيا القلق من توسع «ناتو» باتجاه الشرق، فيما انزعج «ناتو» من سياسات روسيا الصارمة والعدوانية، لا سيما في المناطق الجغرافية التي كانت تتبع الاتحاد السوفياتي السابق، أو ما يُسمى بـ«الجوار القريب».
في قمة «ناتو» في بوخارست عام 2008، جرى الإعلان عن أن أوكرانيا وجورجيا قد أصبحتا (أخيراً) عضوين في الحلف. وردَّت روسيا بالتدخل العسكري في جورجيا، ما أدى إلى انفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وبعد بضع سنوات، وتحديداً عام 2014، تدخلت روسيا في أوكرانيا وضمت شبه جزيرة القرم.
وكان رد «ناتو» شديد اللهجة، إلى جانب بعض العقوبات وتعليق التعاون (حتى ذلك الحين، ظلت قنوات الاتصال السياسية والعسكرية مفتوحة). لكن روسيا لم تتأثر، بل تشجعت أكثر برد الفعل الواهن من الغرب.
هذه المرة، عندما قامت روسيا بغزو أوكرانيا، وقف «ناتو» إلى جانب أوكرانيا بحماس ظاهر. وفي مارس (آذار) 2022، عقد رؤساء دول وحكومات دول «ناتو» قمة استثنائية في بروكسل، وأعلنوا أن غزو روسيا لأوكرانيا هو «أخطر تهديد للأمن الأوروبي الأطلسي منذ عقود»، وقطعوا جميع العلاقات بين «ناتو» وروسيا.
من وجهة نظر عسكرية، هناك شيئان شكّلا مفاجأة للجميع تقريباً في أوكرانيا: الأول هو الأداء الضعيف للجيش الروسي، والآخر هو أداء الجيش الأوكراني الذي فاق التوقعات.
نجح الأوكرانيون في إلحاق أضرار جسيمة بالروس، وبات لدى «ناتو» الآن روسيا المدمرة على الجانب الشرقي. لذلك، تدين أوكرانيا بكثير لحلف «ناتو» والحلفاء؛ فبعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، انهمك «ناتو» في تعزيز الأمن والدفاع في أوكرانيا. وفي قمة «ناتو» لعام 2016 في وارسو، جرى تنظيم جهود الحلف وفقاً لما يسمى بـ«حزمة المساعدة الشاملة».
ولطالما نظرت روسيا إلى توسع «ناتو» باتجاه الشرق باعتباره تهديداً؛ فقد أدى غزوها لأوكرانيا إلى إحياء أسوأ أحلام روسيا. وفي خضم الحرب، تقدمت أوكرانيا رسمياً بطلب للحصول على عضوية «ناتو»، وكذلك فعلت السويد وفنلندا.
ويرفض حلف «ناتو» اعتراضات روسيا، باعتبارها تدخلاً غير مقبول في شؤونه، وكرر تأكيد سياسته بشأن «الباب المفتوح»، وهو ما يعني أن كل دولة أوروبية لها الحق في التقدم بطلب للحصول على العضوية، أما قبول هذا الطلب أو عدم قبوله؛ فهذا أمر يخص «ناتو» وحده.
لكن، بعدما أوضح «ناتو» المبدأ، لن يكون الحلف في عجلة من أمره للقيام بذلك. ولم يكن حلف «ناتو» سعيداً عندما قدمت أوكرانيا طلب العضوية الرسمي؛ فقبول أوكرانيا كعضو من شأنه أن يحمل الأمور إلى مستوى آخر، حيث ستندرج أوكرانيا تحت مظلة المادة الخامسة من معاهدة واشنطن، ما يضع «ناتو» في مواجهة مباشرة مع روسيا.
وبالنسبة للسويد وفنلندا؛ فقد قدمتا في مايو (أيار) 2022، طلباً رسمياً للانضمام إلى عضوية «ناتو». وبمجرد تصديق جميع الحلفاء على بروتوكول الانضمام وفقاً لإجراءاتهم، فستنضمان إلى معاهدة واشنطن.
وقد رحب التحالف بالبلدين بصورة واضحة، غير أن هناك مشكلة نجمت عن تركيا، لكنها ليست اعتراضاً على العضوية الفعلية، ومن المتوقَّع حلها. ومع وجود فنلندا والسويد عضوين رسميين في «ناتو»، سيجري تعزيز القدرة العسكرية للحلف بشكل أكبر، وسيكون لـ«ناتو» حدود مشتركة بطول 1340 كلم مع روسيا.
وفي قمة مدريد عام 2022، وافق قادة «ناتو» على المفهوم الاستراتيجي الثامن للحلف. وتُعتبر هذه الوثيقة المرجعية الأساسية للتحالف، وتتم مراجعتها وتحديثها كل عشر سنوات تقريباً.
ويحدد المفهوم غرض التحالف وطبيعته، والتحديات التي يواجهها، ويقدم الإرشادات. وقد تم تبني هذا المفهوم في عام 2010، عندما كانت روسيا شريكاً، وكانت البيئة الاستراتيجية العالمية مختلفة.
وجرى إعداد المفهوم الاستراتيجي لعام 2022 في وقت الحرب، وعَكَس المشاعر والمخاوف وردود الفعل المحيطة به.
وجرى الإعلان أن روسيا هي الجاني، حيث تنص المادة 8 من الوثيقة على أن «الاتحاد الروسي هو التهديد الأهم والمباشر لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية»، كما تم التأكيد على أن «روسيا تسعى إلى إقامة مناطق نفوذ وسيطرة مباشرة، من خلال الإكراه والتخريب والعدوان والضم».
وفي السنوات الأخيرة، كانت التقلبات في العلاقات عبر «الأطلسي»، وفكرة «تولي أوروبا زمام القيادة في الأمن الأوروبي»، والتورط في مناطق مثل العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا والساحل، واضحة كلها داخل «ناتو».
ولطالما كانت العلاقات مع روسيا وكيفية الرد على السياسات الروسية قضية تتطلب مقاربات مختلفة للتعامل معها. واتخذ الحلفاء من شرق ووسط أوروبا ودول البلطيق تقليدياً موقفاً أكثر صرامة، في حين أن الحلفاء الغربيين والجنوبيين، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، فضلوا نهجاً أكثر تعاوناً، مع فتح الأبواب وقنوات الاتصال. ولم تكن تلك العملية سهلة على الإطلاق، لكن الحلفاء كانوا دائماً قادرين على التوصل إلى إجماع والمضي قدماً.
وكان للحرب في أوكرانيا آثار على العلاقات بين «ناتو» والصين أيضاً. ودخلت الصين في المفهوم الاستراتيجي لحلف «ناتو» في عام 2022، للمرة الأولى في التاريخ، حيث يُقال إن طموحاتها وسياساتها القسرية تعارض مصالح «ناتو» وأمنه وقيمه. وجاءت الحرب في أوكرانيا لتحول بؤرة الاهتمام بعيداً عن الصين.
وعلى الجانب الدفاعي، راجع المخططون العسكريون لحلف «ناتو» الخطط في ضوء الحرب في أوكرانيا؛ ففي قمة مدريد، في يونيو (حزيران) 2022، اتفق الحلفاء على أكبر مراجعة للدفاع الجماعي والردع منذ الحرب الباردة.
وزاد «ناتو» عدد قواته على جناحه الشرقي لتصبح ثماني مجموعات قتالية على مستوى اللواء في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا. وتوجَد سلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا على طول الجانب الشرقي لحلف شمال الأطلسي، من بحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب. وجرى وضع القوات في حالة جاهزية عالية لردع وحماية أراضي التحالف والسكان.
وأصبح الإنفاق الدفاعي قضية رئيسية في الحلف، حيث جادل الرئيس ترمب بأن الولايات المتحدة تتحمل العبء بصورة غير عادلة، وهدد بإعادة النظر في سياسات «ناتو» ما لم يتم اتخاذ خطوات. وكان الحل المتفَق عليه هو تعهّد كل حليف بزيادة إنفاقه الدفاعي إلى ما لا يقل عن 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024.
وكانت العملية بطيئة. فقبل الحرب، كان عدد قليل فقط من أعضاء «ناتو» قد أوفوا بتعهدهم. وكان للحرب في أوكرانيا تأثير متسارع. واعتباراً من اليوم، هناك 20 دولة من دول «ناتو» تقف مباشرة فوق العتبة المحددة للإنفاق العسكري.
وعلى هذا النحو، جاءت ألمانيا في دور الداعم الرئيسي، حيث خصص العملاق الصناعي الأوروبي 100 مليار يورو لإنفاقه الدفاعي. كما بدأت برلين في إرسال أسلحة وإمدادات إلى أوكرانيا لمحاربة الروس، وهي كلها إجراءات تُعتبر الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي مواجهة الحرب في أوكرانيا والبيئة الجيوسياسية الجديدة، يبدو أن «ناتو» يتخذ موقفاً محدداً في مواجهة التهديد المشترك لهذا الجيل الجديد من الحرب الباردة. لكنّ هناك أسباباً للقلق من أن الحرب قد يكون لها رد فعل عنيف، لأنها مكلفة من نواحٍ كثيرة حتى لأعضاء «ناتو».