رحلة العلم والفن في أعماق البحر الأحمر

فنانون من سويسرا وعلماء من «كاوست» يغوصون معاً في عالم الكائنات الحية الخفية في الشعاب المرجانية

يساهم الفنانون في إيجاد منظور جديد للابتكارات العلمية
يساهم الفنانون في إيجاد منظور جديد للابتكارات العلمية
TT

رحلة العلم والفن في أعماق البحر الأحمر

يساهم الفنانون في إيجاد منظور جديد للابتكارات العلمية
يساهم الفنانون في إيجاد منظور جديد للابتكارات العلمية

تعود العلاقة بين العلم والفن إلى زمن مبكر من تاريخ البشرية، حيث مثلت الابتكارات العلمية مصدراً لإلهام الفنانين ولا تزال. هذا الأمر تجسد قبل فترة وجيزة مع المصورين المحترفين نيكولاس كريبس، وتايو أونوراتو، من سويسرا وهما اللذان قدما إلى المملكة العربية السعودية وتحديدا مركز أبحاث البحر لمشاهدة كائنات غامضة ومخفية تصعب رؤيتها، تختبئ بداخل الشعاب المرجانية في البحر الأحمر.
تبدأ القصة في سويسرا، حينما التقى المصوران بالباحث غواو روزادو، طالب الدراسات العليا القادم من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، أثناء قضائه فترة التخصص في برنامج عنوانه «فنانون في المختبرات» الذي يقع مقره في جامعة زيوريخ بسويسرا - وانضمت إليه «كاوست» في عام 2016 - حيث يمنح الفنانين فرصة ليكونوا على دراية أكبر بالبحث العلمي، وأكثر إبداعا في استخدام التقنيات الحديثة، بالإضافة إلى كونه يساعد العلماء في استعراض وجهات النظر المتنوعة التي تساعدهم على رؤية أبحاثهم بمنظور جديد.

الفن والعلم والإبداع
ما تعرف عليه المصوران لم يكن مجرد أجهزة علمية لقياس التنوع الحيوي البحري؛ بل تعدى الأمر ذلك لمشاهدة والتقاط صور لكُتَل سكنية مأهولة بكائنات حية داخل هياكل موجودة بقاع البحر تتحرك وتتنافس وتتعاون، وتهاجر.
هذه الكائنات المجهولة قد تساعدنا على تعزيز فهمنا لوظائف الشعاب المرجانية، ولكن يبقى السؤال: كيف يمكننا دراسة مخلوقات لا يمكننا العثور عليها؟
هذا بالضبط ما يعمل عليه علماء «كاوست» على طول الساحل السعودي من الشمال إلى الجنوب منذ منتصف العقد الماضي، وذلك باستخدام تقنيتين لرصد المخلوقات التي تعيش في أماكن متوارية عن الأنظار. الأولى هي هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية (ARMS)، والثانية هي شفرة الحمض النووي الخيطية، حيث وجدوا 10.700 نوع مميز له صلة بالشعاب البحرية الموجودة في البحر الأحمر.
حينما نتحدث عن الترابط والتداخل بين العلم والفن يقفز للذهن مباشرة اسم الإيطالي ليوناردو دافنشي وعصر النهضة. بالنسبة لنا يقترن هذا الاسم بالإبداع الفني في مجال الأدب والموسيقى والنحت والرسم، ولوحاته التي تعد مزيجاً مثالياً من التناظر واللون والنغمات والزوايا.
في جانب آخر، ما قد لا يعلمه الكثيرون أن دافينشي يُعد من أشهر علماء عصر النهضة الأوروبية في الهندسة المعمارية والفلك والرياضيات والفيزياء والهندسة الحربية والجيولوجيا والنبات والخرائط وعلم المتحجرات أو الأحياء القديمة.
ويمكن القول بأن تأثير العلم على الفن أو العكس لم يكن وليد عصر النهضة وإنما قد يعود إلى زمن اكتشاف الإنسان النار لأول مرة. هذا الاكتشاف الذي فتح لنا عالما جديدا تماماً من الألوان والإمكانيات. في تلك اللحظة كنا قادرين على استكشاف ورؤية أشياء جديدة، مثل تسخين الأشياء، وإذابة المواد لإنتاج مواد جديدة.

مراقبة الشعاب المرجانية
كان أول ما تعلمه المصوران كريبس وأونوراتو عند قدومهما لـ«كاوست» هو الغوص بجهاز التنفس تحت الماء «سكوبا» تحت إشراف المصور المتخصص لقاع البحار في الجامعة، مورغان بينيت سميث، والباحث المتخصص في نظام الشعاب المرجانية الدكتور سونغ هي، وتحقق النجاح في التقاط مجموعة ضخمة من الصور المدهشة والفيديوهات لهياكل المراقبة الذاتية للشعاب (ARMS) في البحر وفي داخل المختبر.
ويقدر العلماء أن مئات الآلاف من الكائنات البحرية في أعماق البحار والمحيطات لم يتم اكتشافها بعد، ويمكن إيجاد هذه الكائنات الخفية في المحيطات المفتوحة وفي الخنادق العميقة الموجودة في قاع البحر وفي داخل الشعاب المرجانية.
وتقنية هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية (ARMS)، عبارة عن هياكل مصنوعة من ألواح متعددة مثبتة فوق بعضها البعض وتحاكي بنية ثلاثية الأبعاد للشعاب المرجانية، حيث تمكننا من دراسة الكائنات الحية الخفية التي لا يتم رصدها خلال عمليات المسح المرئية التي يجريها الغواصون نظراً لصغر حجمها أو لكونها كائنات ليلية.
وتتكون تلك الهياكل من ألواحٍ مصفوفة فوق بعضها البعض، لمحاكاة الهيكل المعقد للشعاب المرجانية، ويتكون كل صف من 9 ألواح يفصل بينها فراغ يشتمل على أشكال بلاستيكية متشابكة؛ لخلق مناطق ذات تدفق عالٍ ومنخفضٍ، مثلما يحدث داخل الشعاب، ثم توضع في قاع البحر لتصبح مستعمرات للمخلوقات البحرية، وبعد ذلك تُجْمَع وتُفكك في المختبر للكشف عما التصق بها.
كانت تلك الهياكل بالنسبة للباحث روزادو – الذي يدرس التنوع الحيوي للشعاب القريبة من الشاطئ – الأداة الأمثل لهذه المهمة، ويعبر عن ذلك قائلاً: «إنها الطريق الأمثل لمعرفة التنوع الحيوي الخفي للشعاب بشكل حقيقي وموثوق، إذ إن الغوص لن يفيد برؤية أي شيء يتعلق بالتنوع الحيوي الشامل للشعاب؛ لأن الكثير منها يعيش داخل الفراغات الخفية بين الصخور والمرجان».
وتمثل الكائنات الحية الخفية - يُشار إليها أحياناً بـ«الكريبتو بيوم» (كائنات حية صغيرة ودقيقة لا يمكن رؤيتها أثناء إجراء عمليات المسح البصري العادية) - نحو 70 في المائة من التنوع الحيوي للشعاب التي لم يتم دراستها بعد. وتُستخدم هياكل المراقبة لمقارنة التنوع الحيوي بين الشِعاب في أماكن مختلفة، ولا يزال روزادو مهتماً بكيفية اختلاف تجمعات الكائنات الحية الخفية عن تلك المتولدة عبر المواطن المختلفة داخل الشِعاب.
يعلق المصور كريبس: «أصابتنا الدهشة بمفهوم تلك الوحدات، وبالمشاهد البصرية لهذه الكائنات المتنوعة للغاية التي تستوطن نفس البيئة».

شفرة الحمض النووي
في أغسطس (آب) 2021 قاد عالما البحار في «كاوست»، البروفسور مايكل بيرومين، والدكتورة سوزانا كارفالهو، فريقا بحثيا من بينه روزادو، كانت مهمته وضع 32 هيكل مراقبة ذاتية للشعاب المرجانية قبالة الساحل بالقرب من «كاوست»، حيث تم تقسيمها بالتساوي بين 4 موائل بارزة للشعاب: شِعاب متفرعة، شِعاب مطلية (تعلق بالصخور في وسط المرجان أو على حافته)، سطح مرصوف بالطحالب، وأنقاض المرجان.
ويتقصى روزادو في مشروعه البحثي اختلاف تجمعات المستوطنين الأوائل (الطليعة) عن تجمعات ما بعدَ عامين من الغمر (الناضجة) عبر تلك الموائل.
يشرح روزادو: «تستغرق هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية عامين لتتحول إلى مستعمرة بالكامل، إلا أن ذلك يعتمد على المنطقة، إذ إن الطبيعة تتحرك بوتيرتها الخاصة».
جمع روزادو في مارس (آذار) 2022 أربعة هياكل مراقبة ذاتية للشعاب من كل موئل، ويعلق بقوله: «إنها عملية مُعقدة للغاية؛ نظراً لضرورة إغلاق الهيكل بشكل محكم في حاوية تجنباً لهرب الشعاب منه – إنها تشبه الكائنات الحية المتحركة كالأسماك وسلطعون البحر - ثم تحضينها في الظلام لتقييم الدورات الحياتية التي تمر بها، حيث يستغرق نشر 32 وحدة من الهياكل يوماً واحداً؛ لكنها تستغرق أسبوعين لاستعادة 16 وحدة».
وعاد روزادو إلى المختبر، وخلط تلك الكائنات الحية الخفية في كلِ لوحٍ، مستخدماً تقنية شفرة الحمض النووي الخيطية لمعرفة وتقييم التنوع الحيوي الخفي السابق. يقول: «تتنوع تجمعات الكائنات الحية الخفية بالنسبة للموائل في كل موقع بشكل مميز في الغالب، رغم أن هذه الموائل ليست بعيدة عن بعضها البعض، هناك بعض التشابه، لكن غالبية الأنواع فريدة بالنسبة لموئل واحد».
وتعتبر شفرة الحمض النووي الخيطية التي يستخدمها علماء «كاوست» من التقنيات الرائعة التي تساعدهم في تحديد شكل وحجم وسلوك تلك الكائنات التي تفقد خلاياها باستمرار التي تتسرب في بيئة المحيطات والبحار. وتحتوي كل خلية على الحمض النووي (المعلومات الجينية) لهذه الأنواع، ويمكن جمعها من الماء أو الرواسب أو هياكل المراقبة الذاتية للشعاب المرجانية.

الفن لنقل العلم
في عيون الفنانين، تتشابه تجمعات الشعاب غالباً مع المجتمعات البشرية، حيث يرى كريبس الأمر من زاوية أن تلك التجمعات البحرية تعمل بشكل مدهش على كيفية تقسيم المساحة، والدخول في علاقات ما بين خيرة، وعدائية، أو وفقاً للمصلحة، وترميم الموئل أو التخلي عنه. ويضيف «رؤية كل هذا يحدث في هيكل صغير يشبه المنزل يثير أفكارنا».
ويطمح أونوراتو وكريبس في نيل تشجيع الناس لعملهما من أجل طرح الأسئلة حول ما يشاهدونه، يضيف كريبس: «من الرائع إثارة فضول الناس للتعرف أكثر حول هذا المجتمع الغامض والمجهول لدينا».
ويتفق روزادو أن الفن أمرٌ حيوي لنقل العلم، ويضيف: «يذكرنا الفن دائماً بمد يدِ العون للناس، كعلماء ينصب تركيزنا على الأوساط الأكاديمية، وكتابة الأوراق البحثية أحياناً، لكن لا نحقق الكثير إذا تحدثنا فيما بيننا فقط كعلماء».
لقد وجد العلماء والفنانون أرضية مشتركة، يقول كريبس: «لقد دُهشت بما يمتلكه العلماء، ظننتُ أن الفنانين فقط هم من يملكون ذلك».
وينصب تركيز علماء البحار حالياً على مهمة عالمية للحفاظ على البيئات البحرية التي تدهورت بسبب النشاط البشري، خاصة في ضوء التغير المناخي، والتأثيرات البشرية الإقليمية، يقول روزادو: «تتدهور الشعاب المرجانية، وتشير بعض التقارير إلى أن 99 في المائة من الشعاب قد تنقرض في عام 2050 بسبب الاحتباس الحراري، نحتاج للتواصل مع أشخاص في جميع أنحاء العالم قدر المستطاع، ويمكن للفن أن يكون وسيلة مهمة لإيصال رسالة قوية يفهمها ويتفاعل معها العالم أجمع».


مقالات ذات صلة

بدء تطبيق المرحلة الإلزامية الأولى لتوحيد منافذ الشحن في السعودية

الاقتصاد مقر هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية في الرياض (الموقع الإلكتروني)

بدء تطبيق المرحلة الإلزامية الأولى لتوحيد منافذ الشحن في السعودية

بدأ تطبيق المرحلة الإلزامية الأولى لتوحيد منافذ الشحن للهواتف المتنقلة والأجهزة الإلكترونية في السوق، لتكون من نوع «USB Type - C».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد جانب من اجتماع خلال منتدى حوكمة الإنترنت الذي عقد مؤخراً بالعاصمة الرياض (الشرق الأوسط)

تقرير دولي: منظومات ذكية ومجتمعات ممكّنة تشكل مستقبل الاقتصاد الرقمي

كشف تقرير دولي عن عدد من التحديات التي قد تواجه الاقتصاد الرقمي في العام المقبل 2025، والتي تتضمن الابتكار الأخلاقي، والوصول العادل إلى التكنولوجيا، والفجوة…

«الشرق الأوسط» (الرياض)
تكنولوجيا تتميز سمكة «موبولا راي» بهيكلها العظمي الغضروفي وأجنحتها الضخمة ما يسمح لها بالانزلاق بسهولة في الماء (أدوبي)

سمكة تلهم باحثين لتطوير نموذج مرشّح مياه صناعي!

طريقة تغذية سمكة «موبولا راي» تدفع باحثي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتطوير أنظمة ترشيح فعالة.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا تعمل استراتيجيات مثل الأمن متعدد الطبقات واستخبارات التهديدات المتقدمة على تعزيز دفاعات الشركات السعودية (شاترستوك)

السعودية تسجل 44 % انخفاضاً في الهجمات الإلكترونية حتى نوفمبر مقارنة بـ2023

تواجه السعودية التحديات السيبرانية باستراتيجيات متقدمة مع معالجة حماية البيانات وأمن السحابة وفجوات مواهب الأمن السيبراني.

نسيم رمضان (لندن)
خاص تتضمن الاتجاهات الرئيسة لعام 2025 الاستعداد الكمومي وممارسات الأمن السيبراني الخضراء والامتثال (شاترستوك)

خاص كيف يعيد الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية تشكيل الأمن السيبراني في 2025؟

«بالو ألتو نتوركس» تشرح لـ«الشرق الأوسط» تأثير المنصات الموحدة والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية على مستقبل الأمن السيبراني.

نسيم رمضان (لندن)

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025
TT

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

2025

كان هذا العام مهماً جداً لقضايا المناخ، حيث تميز ببعض الانتصارات الكبرى.

سياسات المناخ تهدد حقوق الإنسان

وعلى سبيل المثال قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في أبريل (نيسان) الماضي، بأن سياسات المناخ الضعيفة في سويسرا تهدد حقوق الإنسان لمواطنيها، ما مهد الطريق لدعاوى قضائية مماثلة فيما يقرب من 50 دولة أخرى.

وحديثاً، دعمت المحكمة العليا في مونتانا بالولايات المتحدة 16 ناشطاً من نشطاء المناخ الشباب في دعواهم القضائية ضد الدولة لانتهاك حقهم في بيئة نظيفة.

ولكن كانت هناك أيضاً بعض الخسائر الكبيرة، مثل جهود شركة «شل» الناجحة للتملص من قاعدة تلزمها بخفض انبعاثات الكربون بشكل كبير.

قضايا المناخ أمام المحاكم

ماذا سيجلب عام 2025؟ فيما يلي حفنة من القضايا المهمة التي قد تكون على جدول الأعمال:

القضية الأولى قد تشكل قواعد المناخ الدولية. إذ تنظر محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، التي تسمى أحياناً «محكمة العالم»، في قضية المناخ التي قد يكون لها أكبر تأثير محتمل. وفي قلب هذه القضية التاريخية سؤالان رئيسان: ما الواجبات التي تقع على عاتق الدول لمكافحة تغير المناخ؟ وما العواقب القانونية التي يجب أن تترتب على الدول إذا خانت هذه الواجبات بطريقة تضر بالمناخ؟

لن يكون رأي المحكمة بشأن هذه القضايا ملزماً قانوناً، ولكنه قد يشكل قواعد القانون الدولي ويمهد الطريق لمقاضاة كبرى الجهات المساهمة في الانبعاثات لدورها في تفاقم أزمة المناخ.

رفعت القضية دولة فانواتو في المحيط الهادئ، وهي أكبر قضية للمحكمة على الإطلاق. وعلى مدى أسبوعين في نهاية عام 2024، استمعت اللجنة المكونة من 15 عضواً إلى شهادات مما يقرب من 100 دولة والعديد من الخبراء والجماعات المناصرة الذين يجادلون لصالح وضد القواعد الدولية الجديدة لمحاسبة كبرى الجهات المساهمة في الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري العالمي.

الدول الفقيرة تقاضي الغنية

ويدعي عدد من الدول الفقيرة والجزر الصغيرة أن الدول الغنية مسؤولة عن معظم انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي، ومع ذلك فإن الدول النامية، التي تنتج انبعاثات منخفضة نسبياً، هي التي تخضع لأشد العواقب تطرفاً، وحتى وجودية. وتقول إن إطار تغير المناخ الحالي -أي اتفاق باريس- يعتمد على التزامات طوعية يصعب فرضها، وأن هناك حاجة إلى قواعد دولية أكثر صرامة وملزمة قانوناً لمعالجة التهديد المتزايد المتمثل في ارتفاع درجات الحرارة.

وزعمت الدول الغنية، بما في ذلك الدول الملوثة الرئيسة مثل الولايات المتحدة والصين وأستراليا، العكس من ذلك، وأصرت على أن القواعد الحالية كافية. ومن المتوقع أن تصدر المحكمة رأيها الاستشاري في عام 2025. وقال الدكتور دلتا ميرنر، العالم الرائد في مركز العلوم لقضايا المناخ في اتحاد العلماء المعنيين: «إنها (المحكمة) لديها القدرة على إعادة تشكيل حوكمة المناخ الدولية من خلال تقديم إرشادات واضحة وموثوقة بشأن التزامات الدول بموجب القانون الحالي».

قضية لولايات أميركية مناهضة للبيئة

القضية الثانية تهدد الاستثمار البيئي والاجتماعي المتوازن والحوكمة. في قضية «ولاية تكساس ضد شركة (بلاك روك)»، أقامت دعوى قضائية على بعض أكبر مديري الأموال في العالم من قبل 11 ولاية يقودها الجمهوريون بتهمة التآمر لخفض إنتاج الفحم العالمي والترويج لـ«أجندة بيئية مسيسة».

تستهدف الدعوى القضائية، التي تم رفعها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، شركات الاستثمار «بلاك روك»، و«ستيت ستريت كوربوريشن»، و«فانغارد غروب»، ويقودها المدعي العام لولاية تكساس كين باكستون، الذي قال إن الشركات «شكلت كارتلاً للتلاعب بسوق الفحم، وتقليل إمدادات الطاقة بشكل مصطنع، ورفع الأسعار»، كل ذلك في محاولة لتعزيز أهداف خفض انبعاثات الكربون.

في الواقع، تستهدف القضية ما يسمى استراتيجيات الاستثمار البيئي والاجتماعي والحوكمة. شاركت المجموعات الاستثمارية الثلاث في مبادرات للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي والوصول إلى الصفر الصافي بحلول عام 2050.

وقد وصف المحافظون مثل هذه الجهود بأنها «رأسمالية متيقّظة» وشنوا حرباً باستخدام قوانين مكافحة الاحتكار، وهو سلاحهم المفضل. وتتولى محكمة الاستئناف بالدائرة الخامسة، التي تضم عدداً كبيراً من القضاة الذين عينهم الرئيس الجديد دونالد ترمب، النظر في القضية، ويُنظر إليها باعتبارها «قوة محافظة للغاية». وقد تؤثر النتيجة على كيفية إدارة الأموال ومستقبل الاستثمار المراعي للمناخ.

قضية ضد مرافق تجهيز الطاقة

القضية الثالثة قد تكلف مزودي الطاقة الكثير من المال. إذ تتولى بلدة كاربورو الصغيرة في ولاية كارولينا الشمالية دعوى قضائية ضد شركة «ديوك إنرجي»، حيث تقاضي الشركة بتهمة إخفاء المخاطر المناخية المرتبطة بحرق الوقود الأحفوري عن صناع السياسات والجمهور. وتقول الدعوى: «لقد أدت حملة الخداع التي شنتها (ديوك) إلى تأخير التحول الحاسم بعيداً عن الوقود الأحفوري وبالتالي تفاقم أزمة المناخ بشكل ملموس».

إن قضية بلدة كاربورو ضد شركة «ديوك إنرجي» مثيرة للاهتمام لأنها تستهدف شركة مرافق بدلاً من شركة نفط، حيث يتزايد الضغط على شركات المرافق لتتولى زمام المبادرة في التحول في مجال الطاقة.

لا تهدف كاربورو إلى الحد من انبعاثات «ديوك» رغم أن هذا سيكون ممتازاً أيضاً، إذ ووفقاً لمؤشر التلوث المسبب للاحتباس الحراري Greenhouse 100 Polluters Index، تحتل «ديوك» المرتبة الثالثة في قائمة أكبر الشركات المسببة للانبعاثات في أميركا.

ويؤدي «تحميل الشركة (المسؤولية) إلى الحصول على تعويض للمساعدة في دفع ثمن الأضرار الناجمة عن تغير المناخ، مثل إصلاحات البنية التحتية وتحسيناتها لجعل المدينة أكثر قابلية للسكن ومرونة في مواجهة الطقس القاسي. لا أحد يعرف كم ستدفع شركة (ديوك)، لكن نحن نعلم أن المدينة قد تحصل على ما يصل إلى 60 مليون دولار كتعويضات في السنوات المقبلة»، كما قالت رئيسة بلدية كاربورو باربرا فوشي. وكانت الدعاوى القضائية التي تستند إلى مطالبات مماثلة تتزايد منذ عام 2017، لكن لم يتم تقديم أي منها للمحاكمة بعد.

مشاريع سكك حديدية تهدد البيئة

القضية الرابعة مهددة للبيئة، إذ قد تسهل الحصول على موافقة لإنشاء بنية تحتية كارثية من الناحية البيئية.

كانت المحكمة العليا تستمع إلى حجج حول ما إذا كان خط السكة الحديد المقترح بطول 88 ميلاً في ولاية يوتا الأميركية يمكن أن يمضي قدماً رغم تأثيراته البيئية المحتملة.

سينقل خط القطار هذا كميات كبيرة من النفط إلى ساحل الخليج، لكن بناءه كان معلقاً منذ أن قالت محكمة الاستئناف في الأساس إن الجهات التنظيمية لم تأخذ في الاعتبار التأثيرات المناخية والبيئية للمشروع في المنبع أو في المصب الناجمة عن زيادة حركة السكك الحديدية -جوانب مثل الانسكابات النفطية المحتملة، وخروج القطارات عن مسارها، وحرائق الغابات.

وبموجب قانون السياسة البيئية الوطنية (NEPA) القائم منذ فترة طويلة، يتعين على الوكالات الفيدرالية إجراء تقييمات بيئية لمشاريع البنية التحتية مثل هذه، ولكن قد تقرر المحكمة العليا أن التأثيرات البيئية المباشرة للمشروع نفسه فقط -في هذه الحالة، جوانب مثل استخدام الأراضي وجودة المياه- يجب أن تؤخذ في الاعتبار للموافقة على المشروع.

تهديد معايير الهواء النقي في كاليفورنيا

القضية الخامسة هي القرار الذي قد يضع معايير الهواء النظيف في كاليفورنيا في مرمى النيران. إذ ستدرس المحكمة العليا ما إذا كانت مجموعات الأعمال (شركات الوقود الأحفوري) يمكنها الطعن في برنامج الإعفاء الذي يسمح لكاليفورنيا بوضع قواعدها الخاصة بشأن انبعاثات المركبات.

وقد سمح الإعفاء، الذي منحته وكالة حماية البيئة، للولاية بوضع قواعد لعوادم السيارات أكثر صرامة من تلك التي فرضتها الحكومة الفيدرالية، ما أدى إلى تحسين جودة الهواء. كما تلتزم نحو اثنتي عشرة ولاية أخرى بمعايير كاليفورنيا، وكذلك تفعل حفنة من شركات تصنيع السيارات الكبرى، ما يجعل الإعفاء أداة قوية في كبح التلوث الضار ودفع شركات السيارات إلى التحول نحو المركبات الكهربائية.

وتزعم مجموعات صناعة الوقود الأحفوري أن القواعد تسببت في ضرر لها، ويجب إلغاء الإعفاء. ولكن في هذه الحالة بالذات ستقرر المحكمة العليا فقط ما إذا كانت هذه المجموعات تتمتع بالوضع القانوني لتحدي الإعفاء. وفي كلتا الحالتين، تعهد الرئيس المنتخب ترمب بالتخلص من هذا الإعفاء.

مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً