قبل أشهر من إعلان رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي اعتزامها التنحي عن مركزها القيادي في الحزب الديمقراطي، بدا لأسباب كثيرة أن النائب عن ولاية نيويورك حكيم جيفريز هو المرشح المفضل لخلافتها. وجاءت الانتخابات النصفية للكونغرس خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لتكون بمثابة الفرصة السانحة فعلاً للمضي في العملية الانتقالية التي طوت صفحة بيلوسي، باعتبارها المرأة الأميركية الأولى التي تتولى المنصب الرفيع، وجعلت من جيفريز أول أميركي أسود يصل إلى زعامة أحد الحزبين الرئيسين في أحد مجلسي أو غرفتي الكونغرس. بهذا المعنى، قاد حكيم جيفريز ما يعتبره البعض «ثورة هادئة»، مع أن خسارة الديمقراطيين لأكثريتهم النيابية المطلقة خلال الانتخابات النصفية أدت إلى حرمانه منصب رئيس مجلس النواب. لكن المتوقع أنه سيجتهد من خلال موقعه الجديد، بدءاً من عام 2023، كزعيم للأقلية الديمقراطية، من أجل السعي إلى انتزاع الغالبية مجدداً من الجمهوريين في مجلس النواب خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية، نهاية عام 2024. وعامذاك، يمكنه أن يدخل التاريخ مرة جديدة كأول أسود يترأس أحد مجلسي الكونغرس... مقر السلطة التشريعية الأميركية.
ما كان يتسنى لحكيم جيفريز الترشح لقيادة النواب الديمقراطيين في الكونغرس، لولا أن النواب الكبار لرئيسة مجلس النواب المتنحية، مثل ستيني هوير، وجيم كليبيرن، اللذين بلغ كل منهما - على غرار بيلوسي - الثمانينات من العمر، اقتنعوا بألا يسعوا إلى خلافتها. وهكذا أُفسح المجال أمام جيل جديد من القادة، مثل جيفريز البالغ من العمر 52 سنةً، الذي يتوسم فيه الديمقراطيون مستقبلاً يشبه إلى حد ما حظي به الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان أول أميركي أسود يدخل البيت الأبيض. وأتت المفارقة من كون النائب عن ولاية نيويورك من أوائل القادة الديمقراطيين الجدد الذين لمعوا في مجلس النواب للمرة الأولى، منذ أن كان أوباما سيناتوراً في مجلس الشيوخ.
«أوباما الجديد!»
لطالما رفض حكيم جيفريز النظر إلى نفسه باعتباره «باراك أوباما الجديد» في الحزب الديمقراطي. غير أنه لم يخفِ طموحاته وتطلعاته إلى لعب دور محوري في الحياة السياسية المعقدة داخل الولايات المتحدة. ومع أنه مقلّ في الكلام مع زملائه عن خططه المستقبلية، ترك جيفريز للزعيمة المودّعة نانسي بيلوسي أن تختار موعد الكلام عن تنحيها. كيف لا، وهو الذي نشأ في كنيسة سوداء، علّمته احترام كبار السن وتقديرهم؟!
لقد كان يعرف أنه لا أحد من الأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس يمكن أن يقدم بديلاً جاداً منه... وأنه بالتالي سيحصل على دعم التجمع الأسود في الكونغرس، وفيه عدد لا بأس به من الأعضاء المؤثرين. حتى أولئك الذين تذمّروا من «وداعته» حيال بيلوسي، وإحجامه عن تحدي قيادتها، وبينهم النائبة عن ولاية ماساتشوستس كاثرين كلارك، أقروا جميعاً بأن جيفريز هو الشخصية الأنسب للمرحلة المقبلة. وبذلك، تلافت كلارك أي منافسة محتملة معه، بل عملا معاً فريقاً موحّداً، خلافاً للمنافسة الحادة التي نشأت بين بيلوسي وهوير منذ عملا متدرّبين في الكونغرس عام 1963.
في الحقيقة، تردد جيفريز في التحدث مع وسائل الإعلام حول ما كان ينوي القيام به، قبل أن تقرّر بيلوسي التخلي عن دورها القيادي في الحزب الديمقراطي بعد الانتخابات النصفية للكونغرس التي أجريت مطلع نوفمبر الماضي. وحين فعل ذلك في مرات قليلة، فإنه كان حذراً من الإسهاب في الإجابة على الأسئلة المتعلقة باحتمال خلافته لبيلوسي في رئاسة مجلس النواب، إذا ما حافظ الديمقراطيون على غالبيتهم، أو كزعيم للأقلية الديمقراطية في المجلس إذا انتقلت الغالبية إلى الجمهوريين، وهو ما حصل بالفعل.
صانع الأخبار
من الآن، وحتى تسلم جيفريز مهماته الجديدة مع تولي الأعضاء المنتخبين أخيراً مناصبهم مطلع 2023، فإنه سيبقى في منصبه الحالي رئيساً للتجمع الحزبي الديمقراطي. وهذا منصب جعل منه قناة تواصل مع بيلوسي، وخوّله عقد مؤتمر صحافي أسبوعي لإبراز نقاط الحوار عند الديمقراطيين، متذمراً من أنهم «غرقوا مراراً وتكراراً في التفاصيل، وعجزوا عن تأكيد أنفسهم، خلافاً للجمهوريين الذين تمكّنوا من الفوز بقضايا سيئة، لكنها مغلفة بشكل أفضل».
أراد دائماً أن يحتل الديمقراطيون صدارة الأنباء والأخبار. وهو كثيراً ما قدّم إجابات مملّة على أسئلة حول المفاوضات التشريعية، لكنه كان يجيب بصخب وتحذير من «الجمهوريين المتطرفين»، إذ وصف النائبة الجمهورية واليمينية المتعصبة مارجوري تايلور غرين بأنها «الرئيسة الفخرية للمؤتمر الجمهوري». وكذلك وصف النائب القومي الأبيض المتطرف بول غوسار من ولاية أريزونا بأنه «وصمة عار». واعتبر أن الجمهوريين «جزء من عُصبة لا تزال تقدم واجب الطاعة» للرئيس السابق دونالد ترمب. وأما بالنسبة إلى زعيم الأقلية الجمهورية كيفن مكارثي، الذي يسعى إلى تولي رئاسة مجلس النواب، فقال عنه: «يستحيل أن نأخذ كيفن مكارثي على محمل الجد في هذه المرحلة، فهو صار شركة فرعية مملوكة بالكامل لدونالد ترمب وآلة ترمب».
الود المفقود
في المقابل، لم ينل جيفريز ودّ الناشطين الديمقراطيين، الذين يعتبرون أنفسهم «تقدميين»، بما في ذلك أعضاء مجموعات، مثل «العدالة الديمقراطية»، الذين لا يميلون إلى حب جيفريز، ولا هو يحبهم. لكن مع هذا، من الصعب رؤية الاختلافات السياسية بين الطرفين. وللعلم، فإن المشاعر السيئة تعود بينه وبين «التقدميين» إلى عام 2018، حين تغلب جيفريز على خيار اليسار، متمثلاً بالنائبة باربرا لي من ولاية كاليفورنيا، لتولي موقعه القيادي. ويومذاك، أدى فوزه إلى وعيد من زميلته في نيويورك النائبة الديمقراطية اليسارية، ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، التي وضعته نصب عينيها لاستهدافه خلال الانتخابات التمهيدية لعام 2020، إلا أنه خلافاً لهذا الوعيد لم يظهر أي تحدٍ له على الإطلاق. وما يُذكر هنا أن أوكاسيو كورتيز اتهمته بأنه يتكلّم كثيراً عن تغير المناخ، لكنه لا يؤيد «الصفقة الخضراء» الجديدة، التي أطلقها الرئيس جو بايدن.
بهدوء، خزّن جيفريز كل يوم أوراقاً صغيرة وبنى علاقات لتمكينه من تولي منصب بيلوسي، بيد أن مستقبله لا يقتصر فقط على نيل الصفة القيادية بين الديمقراطيين، بل أداء مهمة القيادة هذه من أجل رفع صورته على الجدار المليء بصور من تولوا منصب رئاسة مجلس النواب في مبنى الكابيتول. ولذلك، سيحتاج إلى بذل جهد جبار للتعامل مع التحولات الهائلة التي يخلقها تعدد الأجيال والأعراق والآيديولوجيات داخل حزبه الديمقراطي من أجل انتزاع الأكثرية مجدداً عام 2024.
البداية والمسيرة
ولد حكيم جيفريز في حي كراون هايتس الواقع ضمن منطقة بروكلين في مدينة نيويورك عام 1970، وتلقى تعليمه الجامعي في جامعة بينغهامتون (جامعة ولاية نيويورك - بينغهامتون) حيث تخرج ببكالوريوس في العلوم السياسية، ثم حاز على الماجستير في السياسة العامة من جامعة جورجتاون في العاصمة واشنطن، وبعد ذلك تخرج بشهادة القانون من جامعة نيويورك.
وفي حياته العملية، اعتاد جيفريز على التحديات والمهمات الصعبة منذ عمل في شركة محاماة مرموقة في نيويورك. وسياسياً، ترشح عام 2000 لمقعد في مجلس بلدية بروكلين، متحدياً شاغل الوظيفة روجر غرين، الذي تلاعب بحدود ألباني عاصمة ولاية نيويورك، وأقر لاحقاً بأنه مذنب بارتكاب سرقة، وأُجبر على الاستقالة لمصلحة جيفريز. ومع أن الأخير فكر بالترشح لرئاسة البلدية عام 2013، فإنه لجأ بدلاً من ذلك إلى واشنطن لتحدي النائب الديمقراطي المسنّ إد تاونز... والفوز عليه.
مجموعة «كوميونيتيز فور تشاينغ» وحركة «سنشاين» في نيويورك، اللتان ترصدان نشاطات الحركيين «التقدميين» تؤكدان أن جيفريز «ليس متمرداً من اليسار»، وتلاحظان أنه «يتمتع بشخصية جذابة، وذكي، ويعمل بجد، وحذق للغاية»... وأنه «جزء من مؤسسة الحكم التي تعمل على تهميش العمل التحوّلي، عندما يهدد سلطة الشركات والنخبة الثرية من البيض تماماً». وتكاتفت جمعيات كثيرة للديمقراطيين منذ الربيع الماضي لمناقشة كيفية انتزاع تنازلات من جيفريز، قبل أن يصل إلى منصبه الرفيع، لكنها لم تتمكن من الاتفاق على كيفية فعل ذلك، أو العثور على أي عضو يرغب في الترشح ضده. ووصف أحدهم الاجتماعات التي عقدت لهذه الغاية بأنها «جزء من محادثة أكبر حول كيف يمكن للتقدميين استخدام نفوذهم بأكثرية ضيقة للغاية»، موضحاً أن الجمعيات المختلفة لم تتمكن من جعل التجمع التقدمي في الكونغرس يهتم بأفكارهم، ما دفع الجمعيات إلى التسليم بأهمية تقدم جيفريز إلى تولي هذا الموقع القيادي. وهذا لا يعني بالطبع أن تلك المجموعات صارت فجأة معجبة بجيفريز.
جيفريز «ليس منّا»
حقاً، يصرّ «تقدميّو الحزب» الديمقراطي على أن جيفريز ليس منهم، مع أنهم لا يوضحون لماذا شكلوا عنه هذا الانطباع، وهو الذي دعم مبدأ الرعاية الصحية للجميع، باعتباره خياراً يمكن الوصول إليه بدلاً من إنهاء التأمين الخاص، فضلاً عن أنه صوّت على الدوام تقريباً لمصلحة كل مشروع قانون تقدمي في الكونغرس حول التعافي من جائحة «كوفيد 19»، وقانون الخطوة الأولى لإصلاح العدالة الجنائية الذي وقّعه الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2018. وعندما يشير جيفري إلى نفور اليساريين من كونه ليس واحداً منهم، يرى «أن هناك فرقاً بين الديمقراطيين التقدميين والاشتراكيين الديمقراطيين اليساريين المتشددين»، مؤكداً أن هذا «ليس تمييزاً أرسمه. هم يرسمون هذا التمييز». ثم يشدّد على أنه «ديمقراطي تقدمي أسود مهتم بمعالجة الظلم العنصري والاجتماعي والاقتصادي بإلحاح شديد الآن. هذه كانت مسيرتي المهنية، هذه كانت رحلتي، وستستمر على هذا النحو مع تقدمي إلى الأمام، مهما كانت الفترة التي أتيحت لي فيها فرصة الخدمة... ولكن لن تكون هناك لحظة أنحني فيها للاشتراكية الديمقراطية اليسارية المتشددة».
بهذا الكلام، يشير جيفريز إلى «ذا غايم أوف ثرونز» (أي لعبة العروش)، قائلاً إن «التقدميين السود يميلون إلى معالجة القضايا أولاً، وقبل كل شيء فهم أن العنصرية المنهجية موجودة في تراب أميركا منذ أكثر من 400 سنة». ويتابع: «إن التقدميين من اليسار المتشدد يميلون إلى النظر إلى المشكلة باعتبارها راسخة... لكن هذه ليست تجربتي كرجل أسود في هذا البلد». ومن جانبه، يعتقد النائب الديمقراطي الأسود جمال بومان أنه «يمكن لشخص ما أن يكون قائداً ممتازاً، ولا يشاركني آيديولوجيته السياسية، ولا يتفق معي في كل شيء بنسبة 100 في المائة كل الوقت»، مضيفاً أنه «عندما تتحدث عن شخص منظم، وثابت، وصريح، ويشاركني قيمي فيما يتعلق بمحاولة تلبية حاجات الأشخاص الأكثر تهميشاً، أعتقد أن ذلك هو جيفريز. أما فيما يتعلق بكيفية الوصول إلى تلك المناصب، فأعتقد أن هناك بعض الاختلافات».
بين بيلوسي وتشيني
على صعيد آخر، خلال اقتحام أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب مبنى الكابيتول يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021، سمع جيفريز المتمردين، وهم ينزلون إلى قاعة مجلس النواب، فالتفت إلى زميل له ليقول: «لن أسقط من دون قتال». وبينما كان الحراس ينقلون بيلوسي إلى مكان آمن، هرعت ليز تشيني، النائبة والقيادية الجمهورية السابقة، وآخرون للاختباء في المكان ذاته مع جيفريز. وقالت تشيني لاحقاً: «أنا وحكيم لا نتفق على الجوهر كثيراً، لكنني أحترمه كثيراً كشخص يأخذ مسؤولياته على محمل الجد».
كانت تلك مناسبة لإيجاد أرضية مشتركة بينهما، حول إنشاء لجنة مختارة للتحقيق في أعمال الشغب التي قادها «اليمين المتطرف» الذي «يدعي باستمرار أنه حزب القانون والنظام». وعنها، قال جيفريز: «هؤلاء اختاروا الاستبداد على الديمقراطية. اختاروا الكذبة الكبرى على حكم القانون. اختاروا نظريات المؤامرة على الدستور».