باستثناء النهضة الكبيرة التي حققتها المملكة العربية السعودية في مجال السينما خلال السنوات الثلاث الأخيرة، شهدت السينما العربية رسوباً في مادتي المواهب والإنجازات الجيدة.
النهضة السعودية مفهومة وواضحة: قرار صائب باعتماد كل الطرق الجديرة بتأسيس ثم تقديم صناعة سينمائية سعودية متطوّرة. حقول هذه الصناعة تبدأ من إنشاء صالات العرض ولا تنتهي بالإنتاج، بل تمر بمجالات الدعم وتأسيس مهرجانات عالمية، وأخرى متخصصة، وجذب رؤوس الأموال للتصوير في داخل المملكة.
والغاية أبعد من مجرد أن يكون للسينما السعودية وجود على خريطتي الصناعة والمهرجانات. هي في حقيقة أن هذه الخطوات تأتي مواكبة للتقدم الواسع في نشاطات وحقول العمل كافة في المملكة، تشهد عليها التطوّرات الفعلية التي حدثت على أرض الواقع.
- التجربة السعودية
بالنسبة للإنتاجات السينمائية، تلك التي شاهدنا منها ما احتواه مهرجان البحر الأحمر مؤخراً، فإن السعي متوفر والاهتمام غير محدود والمواهب متحفّزة، وإن لم يكن من بين هذه الإنتاجات ما يصلح للسفر بعيداً في دروب التكامل واختراق الأسواق العالمية، والسبب هو في أن العديد من المخرجين يكتبون أعمالهم بأنفسهم وحال انتهائهم يصوّرون ما كتبوه من مشاهد وحوارات.
على ذلك، هناك جرأة في المطروح كما في «أغنية الغراب» لمحمد السلمان و«سطّار» لعبد الله عراك. ليست جرأة أدبية فقط بل، أساساً، جرأة في العمل على منظور فني كان يحتاج إلى إتقان لكن مجرد القيام به برهان على أن المخرج يدرك ما يريد وسيصل لتحقيق العمل الأفضل في المرّة المقبلة.
عرض المهرجان السعودي في دورته الثانية (1 إلى 8 ديسمبر (كانون الأول) ما لا يقل عن 43 فيلماً عربياً في أقسامه المتعددة داخل وخارج المسابقة. بعضها أفضل من بعض وأهم، لكنها جميعاً تستدعي الاهتمام. هذا رقم جيد لأي مهرجان يريد توفير الدعم، معنوياً أو مادياً، للسينما العربية. ما غاب عن التفعيل تأمين تغطية إعلامية تصاحب كل فيلم لكي يزداد الإقبال عليه، عوض أن يبقى هذا الإقبال وقفاً على هوية رواد كل فيلم حسب بلد إنتاجه.
- تمويل خارجي
جاء «مهرجان البحر الأحمر» خاتماً لأربعة مهرجانات رئيسية تقع جميعها في الربع الأخير من العام وهي، حسب تواريخها مهرجانات قرطاج (أكتوبر (تشرين الأول) - نوفمبر (تشرين الثاني) ومراكش (نوفمبر) والقاهرة (نوفمبر) ثم البحر الأحمر. وكان من المفترض إقامة دورة جديدة من مهرجان الجونة، لكن تبعاً لأسباب غير واضحة تم إلغاء الدورة على أن تُقام في العام المقبل. الدوي الإعلامي والاهتمام الأكبر صاحب أعمال «مهرجان البحر الأحمر»، لكن مهرجاني القاهرة ومراكش حققا كذلك نقلة جيدة إلى الأمام. أما مهرجان قرطاج فتعرض لانتكاسات أثّرت على جهوده.
كل واحد من هذه المهرجانات المقامة عرض أفلاماً عربية غالبها من السعودية والمغرب وتونس ولبنان ومصر والعراق.
بعض الأفلام العربية التي عرضتها هذه المهرجانات تستحق التوقف عندها، كون الأزمات الإنتاجية التي تواجهها السينما العربية ما زالت على حالها لأسباب متنوّعة من بينها استمرار الاعتماد على التمويل الأوروبي الذي يخلق شروطاً تباعد بين الرؤية الشاملة للمخرج العربي، وبين النتيجة التي يتوصل إليها عند الانتهاء من العمل. تلقائياً، باتت العديد من الأفلام العربية المعتمدة على تمويلات أوروبية تتم حسب رغبة المموّل وليس، بالضرورة، تبعاً لرؤية المخرج إذا ما كان موهوباً.
لا ننسى أن السينمات العربية تقوم على مبدأ العروض (بنسبة 40 إلى 50 في المائة من إنتاجاتها) إما في المهرجانات العربية أو الأجنبية، وأما في العروض التجارية في الصالات (فيما تبقّى). في الجانب الثاني فإن الأفلام المصرية ما زالت الأكثر رواجاً لكن رواجها بات أقل مما كان عليه في عقود سابقة.
إذا ما وضعنا هذه الحقيقة على المحك، يمكن إدراك أن أحد أهم النجاحات الممكنة للفيلم العربي هو البحث عن سبل عروض مشتركة وموّحدة زمنياً للأفلام العربية في الدول كافة بمعنى معاملة السوق العربية على النحو الذي تتعامل معه هوليوود مع سوقها المحلية الواسعة. ليس بالأمر السهل، لكنه سيؤدي إلى زيادة نسبة الإقبال على الأفلام الآتية من شرق العالم العربي وغربه.
- أفضل عشرة
اهتمام الأفلام العربية بالمواضيع يعتمد على الوجهة التي يختارها المخرجون العاملون. هناك وجهتان لا ثالث لهما. هو إما يصنع أفلاماً جادة لجمهور جاد داخل البلاد أو خارجها إذا استطاع، أو يعرض أفلاماً ترفيهية لجمهور أعرض في بلده أساساً.
في عام 2022 استمر منوال السينما المصرية بلا تغيير كبير. إنه العام الذي أعلن فيه المخرج داود عبد السيد الاعتزال احتجاجاً، والعام الذي ما زال مخرجون من طينة أحمد مجدي («لا أحد هناك») وتامر السعيد («آخر أيام المدينة) ومحمد حمّاد («أخضر يابس») وهالة القوصي («زهرة الصبّار») وكريم حنفي («باب الوداع») من بين آخرين.
خارج مصر، يستمر كذلك غياب اللبناني فيليب عرقتنجي («اسمعي») والمخرجة الفلسطينية مي مصري («3000 ليلة») والتونسي علاء الدين سليم («آخر واحد فينا») والجزائرية ياسمين شويخ («إلى آخر الزمان») والأردني محمد المسّاد («إنشا الله استفدت») والمغربي هشام العسري («البحر من ورائكم») والعراقي قاسم حول («بغداد خارج بغداد») وآخرين عديدين. وسط هذا الغياب الناتج عن انعدام الاهتمام بإيجاد خطة دعم للمواهب المذكورة أو سواها من السينمائيين الجادّين وغير المتنازلين عن طموحاتهم، لم يكن صعباً اختيار أفضل الأفلام العربية التي شوهدت هذا العام، علماً بأن الفترة الزمنية المختارة هي من نهاية العام الماضي وحتى هذا اليوم. بعض هذه الأفلام مختلف عن بعضها الآخر في درجة الإجادة، لكنها تجتمع كلها على تكوين أفضل أو أهم ما شاهده هذا الناقد من أفلام خلال السنة (القائمة من دون ترتيب مُعيّن):
«ما تسمع كان الريح» لإسماعيل ويوسف الشابي (المغرب)
«أغنية الغراب» لمحمد السلمان (السعودية)
«صندوق الذكريات» جوانا حاجي توما وخليل جريج (لبنان).
«حمى البحر المتوسط» لمها الحاج (فلسطين).
«حمام ساخن» لمنال خالد (مصر)
«كيوكو: موسم حصاد الأحلام» لحميد بن عمرة (الجزائر، سوريا)
«الأخطبوط» لكريم قاسم (لبنان).
«الأخيرة» لعديلة بن ديمراد ودانيل ونّوري (الجزائر)
«جزيرة الغفران» لرضا الباهي (تونس)
«قلتلك خلص» لإيلي خليفة (لبنان).
كانت هناك أفلام عربية جيدة، إنما لم تكن بالجودة المثالية لضمها لما سبق. أحدها فيلم سؤدد كعدان التي عرضت فيها قصّة عائلة سورية في بلدة تقع على خط التماس بين المتحاربين موزّعة النوايا بين أب يرفض النزوح وأم وابنتها تتبنى ذلك وتقدم عليه.
أيضاً في هذا المجال فيلم اللبناني غسان سلهب «النهر» الذي يريد التحدّث عن أشياء كثيرة، مثل العاطفة والحب والقرب والبعد والحياة في كنف وضع سياسي نسمعه ولا نراه، لكنه يضيع في رمزيات تبدو أخف قدرة على تحقيق المطلوب منها.
بين ما برز «حدائق معلّقة» لأحمد الدراجي (العراق) الذي يبدأ عمله على نحو مثير للاهتمام ثم يفقد البوصلة مسترسلاً في طروحات أخرى وتنويعات على المزاج الحزين ذاته.
أما الجزائري مرزاق علواش فقد استبدل مواضيعه السابقة وما جاءت به من طروحات مهمّة بفيلم يحمل نبرة تلفزيونية وكوميدية سهلة وواضحة عبر فيلمه الجديد «العائلة».
الحلقة الخامسة والأخيرة
في الأسبوع المقبل تدور حول أفضل الأفلام العالمية.